إيف لوكلير لـ"العرب": كأني داخل لغز أكتشفُ معناه وأوصله إلى القارئ

التجارب الأدبية المتواصلة والمنتجة لا تتوقف عند فكرة أو رؤية أو تصور أحادي لا يتغير مع الزمن والتقلبات، التجربة الأدبية تتطور وتغير جلدها إما كليا أو جزئيا، إنها تعيش مع تجربة الإنسان وتتغير بتغيراته. من هنا كانت فكرة لقائنا بالشاعر والمترجم الفرنسي إيف لوكلير، الذي يتحدث لـ”العرب” عما تغير في تجربته خلال هذه السنوات الأخيرة.
بعد مرور ما يقرب من ثمانية عشر عامًا على لقائنا الأول مع الشاعر الفرنسي إيف لوكلير وست سنوات على مقابلتنا الثانية التي صدر عنها صدى في “العرب” (عدد الأحد 3 أبريل 2016)، نود أن نوسع هذا الحوار الجديد، كي تبدو المسامرة معه بلا حدود، أي على طريقة كتبه ودواوينه الشعرية.
تغيرات مستمرة
العرب: هل يمكن أن نقول إن الكثير من المياه تدفقت تحت الجسر؟ إن كان ذلك صحيحا، فبأي معنى؟
إيف لوكلير: نعم، الماء يتدفق بسرعة قصوى تحت الجسور، دون أن يُحْدِثَ ضجيجا، دون كلمات، بعيدا عن المفاهيم والجمل الجميلة. وهكذا تمر الحياة. ثمانية عشر عامًا، بالكاد حدثت بعض التموجات السريعة على سطح نهر الحياة الهائل. يمر الوقت اليومي مثل قطار في الليل، مع أضواء في النوافذ وصور تُشبهُ الظلال، تأخذنا من منصة إلى أخرى، بنفس القدر من الغموض. أما الاتجاه فهو اتجاه التيار. والمزيد والمزيد مع التسارع المعاصر. طوعا أو كرها، نحن نُحْمَلُ بعيدا. الشيء نفسه ينطبق على الكتابة.
لا نعرف إلى أين نحن ذاهبون. نحن محكومون بما هو غير محتمل. كل شيء يهرب منا. هنا سألجأ إلى استخدام عنوان أندريه دو بوشيه الجميل: “ثورة الأخرس” فكلنا على هذه الشاكلة، لأن الكتابة الحقيقية ليست سوى زبد من بين كم لامتناه من الزبد الخارج من محيط الوجود.
الشاعر يحاول أن يجد في الكتابة الشعرية شفافية القلب والعاطفة التي يُثيرها الوجه والمنظر الطبيعي، و”الوضعية”
ومع ذلك، فقد تميزت الأوقات الأخيرة بالنسبة إلي بنهاية أربعين عاما (ثم البعض منها) من تدريس الفرنسية واللاتينية. تمكنتُ بعد ذلك من تكريس نفسي، من بين أمور أخرى (أقدمُ أيضا دروسا في اللغة الفرنسية للاجئين)، لعملي في الكتابة والقراءة. صدرت لي أربع مجموعات شعرية: “أركض إن أمطرت” سنة 2014، “الحياة الأخرى” سنة 2019، و”المخطوطة المضيئة” سنة 2024 عن منشورات غاليمار، و”منمنمات” عند منشورات نجمة الحدود سنة 2023.
أما بخصوص القراءة، فقد كانت منذ البداية ضرورية لعملي الإبداعي. فكيف ندعي أننا نكتب القصائد ونحن نجهل الأعمال الشعرية التي تسبقنا وتُحيطُ بنا؟
لهذا السبب، بعد المئة دراسة أدبية المنشورة في “مجلة مدرسة الآداب”، وبعد تعاوني في “المجلة الفرنسية الجديدة” الصادرة عن منشورات غاليمار (في عهد جاك ريدا، ثم ميشيل برودو)، واصلتُ تقديم ملاحظات القراءة والمقالات (أحيانًا ضاربة في الحرية) أو قصائد في مجلات من جميع الأنواع.
الكتابة والترجمة
العرب: كيف يمكنك تلخيص السنوات القليلة الماضية؟ ما الذي تغير فيك، في عملك بصفتك شاعرا ومترجما وكاتب مقالات، وأيضا رجلا ورب عائلة منذ تقاعدك؟
إيف لوكلير: بالنسبة إلى أولئك الذين يفضلون الأرقام على الحروف، أعتقدُ أنني كتبتُ أكثر من ألف مقال في الأدب الشعري. علاوة على ذلك، قمتُ بتحرير دفاتر الملاحظات (بيير ألبرت جوردان، بول دي رو، ميشيل جوردان، كينيث وايت، وما إلى ذلك)، ونشرتُ مقالات أكبر (كريستيان بوبان، بيير بيرجونيو، على سبيل المثال، في كراريس ليرن الشهرية. كما اعتنيت بملفات عن فيليب جاكوتي وإيف بونفوا في مجلة “أوروبا”)، ونشرت أشغالا عن أعمال كنت أفكرُ فيها لسنوات عديدة: “بيير ألبرت جوردان: الكتابة وكأنك تطلق القوس”، “غي غوفيت بلا أسطورة”. كما قمتُ بتجميع مختارات ليون بلوا، وشارل بودلير، وغوستاف فلوبير، وبول فاليري، وفي يونيو الماضي جول رونار في مجموعة “هكذا تكلم…” التي تنشرها دار أرفوين.
أنا أيضًا أتعاون مع “موسوعة يونيفارساليس”، فلطالما كنتُ شغوفا بمسألة الاختلاف عما ليس أنا، عما هو آخر، وبالتالي فإن قراءاتي ليست انتقائية (لأن الانتقاء يحدد المسار)، ولكن على الأقل من دون وامضات تحجب الرؤية، فأنا أرى العام وأعيش خارج أي تحيز أيديولوجي، أو أي كنيسة أدبية.
هذا “الوضع غير الطبيعي”، وهذا الذوق تجاه الآخر يفسر أيضا عملي كمترجم. إن الترجمة، كما تعلم جيدا يا عزيزي أيمن وأنت من قام للتو بترجمة جديدة رائعة لأحد كبار شعراء اللغة العربية، أدونيس، هي عمل يعبر الحدود والجدران، وهي التحرر من قيود اللغة والذات. في الحقيقة، الترجمة تحررٌ من حتمية سوء الفهم البشري.
إن انحيازي إلى هذه الجسور الرابطة بين الثقافات دفعني إلى ترجمة الشعر الياباني، أي على حدود الشرق الأقصى (“هايكو من اليابان القديمة والحديثة”، سبقه “نشيد الصرصار” للشاعر باشو، عند منشورات يونيتي). في هذا الصدد قمتُ للتو بنشر مذكرات إقامتي لمدة شهر في غابة اللاند تحت عنوان “قرية الأبله”، وهي مقترنة بتكريم تأملي لحياة وعمل الشاعر البوذي الصيني القديم من سلالة تشان وهو بو تشو يي.
كما أنني مهتم خاصة بمصادر الشعر الغنائي (المرتبط أساسا، بالمناسبة، بمصادر الشعر العربي) لقد قمتُ في الواقع بترجمة “أغاني الحب البعيد” للشاعر الأوكسيتاني جوفري رودال؛ سمح نجاح هذا الكتاب بافتتاح مجموعة تنشرها الآن دار فيديروب/ بيير مينار. كما قدمتُ ترجمات لشاعرين أوكسيتانيين آخرين (من القرنين الثاني عشر والثالث عشر)، وهما الشاعر المناهض للمؤسسة والمتشدد للغاية بيير كاردينال، “في سفينة الحمقى بقلم بيير كاردينال” والشاعر الغنائي سيركامون “البحث عن العالم، أغاني سيركامون”. يشتمل كل عمل على مقدمة، والنص الأوكسيتاني وترجمته الفرنسية المقابلة، يليها تعليق. إن أغاني الحب العذبة وقصائد الثورة الشريرة هذه هي ولادة تاريخ الكتابة الشعرية بأكمله الذي لا يتوقف أبدا عن المديح والتنديد في نفس الوقت.
انحياز الشاعر والمترجم إلى الجسور الرابطة بين الثقافات دفعه إلى ترجمة الشعر الياباني ودخول عوالم الشرق الأقصى
في 6 يونيو 2024 صدر ديوان “المخطوطة المضيئة” عند منشورات غاليمار، مُقدمة بهذه العبارات: “إثارة الحياة والأحاسيس في باقات الزهور والكائنات والأشياء، كل شيء يُقال ببساطة الاستحضار الذي يغني ويتردد صداه. في هذا الاحتفال بتجربة الوجود في العالم، إيف لوكلير لا يُخْفِي شيئا مما يُعرضُ عليه؛ هذا التشارك الهائل هو بمثابة دعوة لإحياء هذه اللحظات، بالكلمات والموسيقى، بالحب والفكاهة”.
تمتد القطع في هذه المجموعة الجديدة إلى حوالي ثلاثين عاما. وُضعت تحت رعاية آلان فورنييه ونوفاليس، ما يميز “المخطوطة المضيئة”، وعنوان الديوان مستوحى من هذا المقتطف من رائعة الشاعر الألماني الفذ، “التلامذة في ساييس”: يذهب الرجال في طرق عدة. ومن يتابعهم ويقارنهم سيرى شخصيات مولودة يبدو أنها تنتمي إلى هذه الكتابة المشفرة العظيمة التي نلمحها في كل مكان.
يواصل هذا المولود الجديد العمل الذي شرعت في إنجازه منذ أربعين عاما والذي رأى النور سنة 2001 مع كتاب “ذهب المشترك”. بالنسبة إلي يتعلق الأمر بتأليف كتاب واحد، يعتمد على نوع من المذكرات الشعرية، ومن ثم، على سبيل المثال، الإشارة المنهجية إلى التواريخ. باستثناء أنه بدلا من الالتزام بالتسلسل الزمني البسيط الذي يُقَدمُ رؤية مسطحة ومختزلة للزمن، دون منظور أو عمق أو ارتفاع، أتركُ القصائد تُعِيدُ ترتيب نفسها، كما لو كانت داخل لغز أكتشفُ معناه وأُوصله إلى القارئ.
يمكن اعتبار “المخطوطة المضيئة” بمثابة المجلد السابع من هذه المغامرة، فهي ليست مجرد مذكرات، ولكن لاستخدام صيغة ميشيل تورنييه يمكن اعتبارها “مذكرات مؤقتة”: إنها ليست مسألة الانغلاق على “الأنا” الضيقة وآلهتها الزائفة، ولكن على العكس من ذلك، تم إنشاء “حالة شعرية” (كما قال الكاتب السويسري واليوناني، جورج هالداس) حيث يتلاشى غرور الذات من أجل الترحيب بشكل أفضل بالآخر والبدء في المشاركة، والعثور على التضامن، والإنسانية الحرة: قال باول تسيلان إن القصيدة هي يد ممدودة.
أحاولُ أن أجد في الكتابة الشعرية شفافية القلب والعاطفة التي يُثيرها الوجه، والمنظر الطبيعي، و”الوضعية”. إنني أحذر من فخ الكاتب الذي يؤمّنُ نفسه بالكلمات، ويسكر بالاستعارات، وينسج شبكته البلاغية. أبحث عن لغة بسيطة وواضحة.
تولد القصيدة من تجربة بدائية، قبل الكلمات، في الطفل الذي يبقى في داخلي (الأطفال: بحسب أصل الكلمة اللاتينية، هم الذين لا يعرفون حتمية اللغة). الشعر هو الممكن. إنها هذه الواحدة فيّ ومن خلال التعدد الموجود، هذه الصحة حيث يصبح كل شيء سهلا وواضحا ومبهجا. وعلى الرغم من كل الصعاب، فإنه يؤسس يوتوبيا “الحياة الحقيقية” (رامبو). إنه تجلٍّ للجسد والروح وهذا التجلي يقول “المنوع”، وما “لا يمكن تصوره”. إنها تجربة (كما في الحب) “تُبهجُ”، و”تغرب” (بالمعنى اللاتيني)، أي تُفكك، حيث يختفي “الأنا”، يصبح “الآخر”، كما قال رامبو. إنه توازن محفوف بالمخاطر، مشية لفظية على حبل مشدود يجمع فتات الجنة الخفية أو الدائمة، من الأسفل، من “جحيمنا” الصغيرة أو الكبيرة.
بدلا من الالتزام بالتسلسل الزمني البسيط الذي يُقَدمُ رؤية مسطحة ومختزلة للزمن يترك الشاعر قصائده تُعِيدُ ترتيب نفسها
إذا كانت قصيدتي “إضاءة” (كما في مزامير القرون الوسطى)، “رقا مضاءً” بالجمال الذي لا يمكن التنبؤ به والذي يكسر كل الضمانات، فهي مع ذلك أكثر تضررا، وممزقة، ومظلمة بسبب وحشية عالمنا الذي منه ينشأ بعيدا عن اليأس والعدم، أسعى جاهدا لإصلاح لحظات الإضاءة البسيطة هذه وحفظها بشكل متواضع. أنا لست غافلاً عن الهمجية البشرية أو السخرية التي تولدها. بالنسبة إلي، يتعلق الأمر بالاستماع والنسخ ومحاولة عزف المقطوعة بشكل صحيح تحت ضجيج العالم. على العدم الذي يغوي العقل، أفضل القيامة التي تثيرُ الفضائح. والأمر متروك للجميع للاختيار بين هاتين السخافتين.
ومع ذلك، فإن “المخطوطة المضيئة” جاءت في خمس حركات، مثل مقطوعة موسيقية، ببداية (“غرفة الليل”) ونهاية (“الباقة”). تتناوب الحركات البطيئة في القصائد الطويلة “إضاءات” مع الحركات السريعة وصولا إلى القصائد القصيرة مع “جلبة”. يتغذى إلهامي بشكل خاص من استكشاف الأشكال، واللعب على المقاطع الثنائية، والثلاثية، والرباعيات، والعشرات، وما إلى ذلك، وكذلك على الأبيات والأصوات.
أخيرا، بالنسبة إلي، بعيدا عن المأساة المعترف بها، والعاطفة والحب والاهتمام بالآخرين، فإن التعاطف مع الضعف البشري الشديد وأرضنا المشوهة يسمح لنا بتجاوز حدود الذكاء الوحيد والضروري والذي غالبا ما يكون مدعيا، مع لمسة من الفكاهة (وهي بمثابة التتويج النهائي).
قلب الطفل
العرب: لو كان عليك أن تبدأ من جديد، ما هي الاختيارات التي ستتخذها؟ لو كان عليك أن تتجسد أو من جديد في كلمة، في شجرة، في حيوان، أي منها ستكون في كل مرة؟
إيف لوكلير: أنا لا أحب الجمل التي تبدأ بلو… لكني احتفظتُ بقلب طفل. لذا، “لو” اضطررت إلى اللعب مرة أخرى، حسنا، أعتقد أنني سأقوم بنفس الاختيارات.
الآن، لا شك أنني لم أكن لأواجه نفس المصير، لأن كل شيء كان غير محتمل. ربما، مع ذلك، كنت أود أن أصبح طبيبا أو موسيقيا؟ لا شك أنني كنت أود أيضا أن أتعلم لغات أخرى مثل العربية والإيطالية؟
أما التناسخ في شكل حيوان أو شجرة فلا أحلم به على الإطلاق، حتى لو كنت أحب القطط أو الذئاب أو الطيور أو القرود أو الحمير. مثل دانتي، أتمنى القيامة حيث تتصالح البشرية جمعاء وتجد أخيرا جنتها. يبدو أن أفضل الشعراء بيننا، وأكثر مبصرينا شجاعة، يلمحون فُتَاتًا منه في جحيمنا الأرضي، للأسف محكوم عليه بالفناء إلى الأبد بسبب الظلم والعنف.
العرب: إذا كنت ترغب في أن يترجم لك نص واحد فقط إلى لغات أخرى، إلى العربية على سبيل المثال، فأي لغة ستختار ولماذا؟
إيف لوكلير: بالنسبة إلى سؤالك الأخير حول اختيار قصيدة لترجمتها إلى اللغة العربية، وأنت من ترجمني إلى لغة أبي نواس والمتنبي، فأعتقد أن معظم قصائدي يمكنها تحمل هذه المسؤولية. ولكن بما أنني أفكر في تلك القصائد من مجموعتي الأخيرة، فإنني سأختار، على سبيل المثال، القصيدة التي تحمل عنوان “نساء على قبر المسيح” والتي تفتح “المخطوطة المضيئة” لغربي الكئيب في الكثير من الأحيان على جمال الشرق، وهي بمثابة قربان وإمكانية للتشارك.