أديب يبشر بـ"واقعية جديدة" تتماس مع الشعور بالانكسار

التجريب مطلوب في الأدب ولكن التجريب لغاية التجريب أسقط الكثير من الكتّاب في عوالم لم تجد ما يربطها بالقراء، فبقيت تجارب على الورق بلا حياة، حتى وإن توجتها بعض الجوائز فإنها اختفت كليا. الواقعية والتجريب الواعي مهمان وهذا ما يؤمن به الكاتب المصري أحمد صبري أبوالفتوح الذي كان لـ”العرب” معه هذا الحوار.
القاهرة– عندما اتجه الكاتب الكبير نجيب محفوظ إلى الكتابة الواقعية، كان العالم يمور بالزخم والدعاية للاتجاهات الحداثية بفعل تبشير الكاتبة الإنجليزية فرجينيا وولف بتيار الوعي، لكن الرجل مضى في طريقه لا يبالي، وسار على الدرب أبناؤه ممن يعتبرون أنه لا أدب دون حكاية، مهما يعلو الصخب في اتجاهات أخرى أو يسود العبث.
الكاتب والأديب المصري أحمد صبري أبوالفتوح واحد من هؤلاء السائرين على الدرب، ويعتبر نجيب محفوظ شيخه ويسمّيه “شيخ الطريقة” في الكتابة، إذ ينتصر مثله للمدرسة الواقعية، ما بدا من خلال أعماله الروائية والقصصية، وأبرزها “ملحمة السراسوة” المكونة من خمسة أجزاء، ونال عنها جائزة ساويرس الثقافية في الرواية.
الفكرة أم الحكاية
في حواره مع “العرب”، يبشر أبوالفتوح بشيء جديد مختلف، ربما يمكن تسميته “الواقعية الجديدة”، مؤمنا بأن الكتابة الإبداعية فردية، معترضا على قيام البعض بوضع خارطة طريق للمبدعين ليبدعوا في سياقها معتبرا أن هذا وهم، وأن الكتابات الحداثية التي تميل للرمزية والغرائبية مع تحطيم الحكاية “أشبه بموضة”.
ألمح أحمد صبري أبوالفتوح مرارا، كما يقول، إلى هؤلاء الذين يرون أن الرواية يمكن أن تتجاهل الحكاية ولا تقوم عليها، معترضا على هذا بالطبع، فهو من المؤمنين بمركزية الحكاية في الأعمال الروائية، أما مجرد تقليد المدارس الغربية في نبذ مركزيتها والتغول عليها أو نفيها فهو في رأيه تقليد غير صائب، مؤكدا أن ما يسمونه بالرواية الجديدة تعبير لم يستقر على شاطئ بعد، وقد مر أكثر من قرنين على ابتداعه، فيما لا يزال تيار مركزية الحكاية هو المتسيد.
تسأله “العرب”: الفكرة أم الحكاية؛ ما الذي يحرك أبوالفتوح بشكل أكبر قبل الشروع في كتابة رواية؟ ليجيب قائلا “إن ما يحركه نداء خفي ربما تطلقه في نفسه فكرة تجد ضالتها في حكاية، أو حكاية تتلبسها فكرة، كلا الأمرين واحد، فمجرد انفعاله بشخصية مّا يجعله يسمع ذلك النداء، وانفعاله هذا يكون إلى جانب طرافة الشخصية من الناحية الإبداعية قائما على قياسها بمقياس الأفكار التي يعيش على وقعها،” مشيرا إلى أنها “عملية شديدة التعقيد، أشبه ما تكون بالسؤال الفلسفي الذي لا إجابة عليه.”
ولا يستطيع الأديب المصري الجزم بوجود اتجاه لإعلاء شأن الكتابة الحداثية من خلال الجوائز وغيرها، وأنه ليس معنيا كثيرا بالجوائز، لأنها في النهاية لا تدل على شيء، في رأيه، فباتريك زوسكيند مثلا الذي أبدع “العطر” و”الحمامة” و”الكونترباص” وغيرها لم يحصل على جوائز، وإذا تمت مقارنته بمن يحصلون عليها سنضحك.
ويرى أن الكتابة الحداثية لم تستقر بعد، بل يعتقد أنها لن تستقر، قائلا “إنها ستترك مجالها لموضة أخرى، لكن كل هذا لا يذهب هباء، ستستفيد الرواية من كل هذا، تستفيد من كل ما يعلي شأن سحر الفن وصدقه، وفي الاتجاهات الحداثية يوجد الكثير مما يمكن اتباعه في الطريق إلى اكتشاف الجديد في سحر الفن وصدقيته.”
وتسأل “العرب” أحمد صبري أبوالفتوح حول ما يحتاجه الأدب العربي حاليا بشكل أكبر في ظل ما تمر به المنطقة من صراعات وحروب دامية؛ الواقعية أم المدارس الحداثية التي ربما يعتبرها البعض الأنسب للتعبير عن عبثية الواقع العربي.
يضيف “هذا السؤال يحتاج إلى إجابة بحجم كتاب، فالمسألة أعقد كثيرا من مجرد السؤال عن الأنسب، إنها تتعلق بالروح الإبداعية والموضوع الذي تتناوله، فعندما كان الصراع في المجتمعات الأوروبية اجتماعيا ووطنيا، متعلقا بالتفاوت الطبقي والظلم الاجتماعي وفي بعضه متعلق بالتحرر الوطني فرضت الواقعية بأطيافها المتعددة نفسها على الكتابة الروائية والقصصية بشكل عام.”
ويوضح أن هذه الأطياف أسبابها متعددة، فالواقعية السحرية مثلا ليست إلا أسلوبا في محاولة التماس مع روح الإنسان في مكان وزمان بعينه، هذه الروح التي تؤمن بالمرئي وغير المرئي، بالواقعي وما فوق الواقعي، كمحاولة لفهم الروح الإنسانية، فإذا ما كان السؤال مركبا يشمل إلى جانب قضايا الواقع قضايا تراثية أو متعلقة بالهوية أو بالخرافة تنشأ الأطياف التي تختلف من مجتمع إلى مجتمع، حسب الأسئلة المطروحة وتداعياتها.
ويرى أبوالفتوح أننا لسنا بعيدين أبدا عن كل هذا، إذ أن “ألف ليلة وليلة” فيها من كل الأطياف، وواقع مجتمعاتنا الآن بما تقاسيه من انفلات طبقي وظلم اجتماعي واختلاف تعليمي مربك يجعل من حالتنا الواقعية قضية مربكة، فلا بأس إذن من أن تنشأ لدينا “واقعية جديدة” تتماس مع حالة الشعور بالانكسار جراء ما سبق ونتيجة للاستبداد والتبعية وغيرها.
حاول أحمد صبري أبوالفتوح قدر استطاعته، كما يقول في حديثه لـ”العرب”، في أعماله الأخيرة “برسكال” و”حكايات من جنازة بوتشي” و”تاريخ آخر للحزن” و”صاحب العالم” أن يبين في الواقعية طيفا مبعثه الانكسار الوطني والحيرة. ولا يعرف بم يسميه أو يصفه، لكنها ليست الواقعية القديمة أبدا، وكذلك يفعل كل الكتاب الذين ينفعلون بقضايا مجتمعاتهم وبروح الإنسان في آن واحد، لكنه لا يقطع برأي حول الأنسب للتعبير عن واقعنا، فما يعنيه أن يعبّر العمل عن كل ما سبق ممسوسا بسحر الفن.
في روايته الأخيرة “صاحب العالم” يبدو أبوالفتوح كمن يمارس نوعا من التجريب الحداثي، لكن داخل عباءة الواقعية أيضا، من خلال شخصية بطل الرواية عبدالحميد دهمش الموظف المحال إلى التقاعد الذي يقف على أعتاب فضيحة كبرى بسبب تعامله على وسائل التواصل الاجتماعي مع كيان يسمى “مجمع شركات صناعة الحب” واصطدامه إثر ذلك بكيان آخر يسمى “مجلس إدارة العالم” ورئيسه هو “صاحب العالم”، ما يمكن تسميته بـ”الحداثة الواقعية” أو”الواقعية الحداثية”.
ويعلق الأديب المصري على ذلك قائلا “أنت تقول، وغيرك قد يقول غير هذا، وأنا حاولت أن أكون قريبا مما تقول، ففي زمن الواقع الافتراضي لا مفر من أن يكون الخيال مختلفا، ويكون التناول مختلفا أيضا، بما يناسب الموضوع، وأعترف لك بأنني كنت مهموما جدا بالموضوع فلم أدرك وأنا أكتب هل ما أكتبه يدخل في باب التجريب أم لا، المهم هو الصدق الفني، والغوص في قلب الإنسان المعاصر وعقله وروحه، والذي تداهمه أوجاع لم يتهيأ لمثلها”.
يؤكد أبوالفتوح أن الكتابة الإبداعية مشروع فردي بامتياز، ولا يمكن أن تكون غير هذا، فصحيح أن التاريخ الأدبي يعرف المدارس والجمعيات الأدبية التي تجتمع على خصائص أو مفاهيم بعينها، لكن تظل الكتابة الإبداعية حتى ضمن هذه الأطر مشروعا فرديا.
يعتبر نفسه واحدًا من أفراد الوسط الثقافي المصري، غير أنه لا يشارك كثيرا في فعالياته لظروف عمله في مهنة المحاماة، قائلا “كنت أتمنى أن أشارك فيها كلها وأكون في قلب الزخم الرائع الذي يوفره هذا المجتمع الجميل، الجميل حتى بسلبياته وبعض مظاهر الشللية فيه وانقلاب أدوار بعض روافده من مجال التقييم إلى مجال وهم القدرة على وضع خارطة طريق للمبدعين ليبدعوا في سياقها، وهو وهم سرعان ما ستتضح خطورته وزيفه، فلا أحد يُعلّم أحدا كيف يكتب، ولا يحدد له شكل الكتابة المطلوبة.”
ويتمنى أن يجيء قريبا اليوم الذي يعود فيه كل رافد إلى دوره النوعي في المجتمع الثقافي، حيث يقول “لأننا بعد رحيل ‘شيخي’ نجيب محفوظ نفتقر إلى مرجعية كبيرة يلتزم الجميع في وجودها بقيم الإبداع التي لا خلاف عليها، فالتكالب على الجوائز والترجمة وغيرها من المكافآت المادية والمعنوية أصاب هذا المجتمع بالارتباك وجعل الفرز فيه صعبا، إن لم يكن مستحيلا، ما أساء إلى كل أشكال التقييم،” وقد عبرّ عن أمنيته أن ينصلح الحال قريبا.
ملحمة السراسوة
في “ملحمة السراسوة” تتبع أحمد صبري أبوالفتوح من خلال سرد روائي لتاريخ عائلته مسار الشخصية المصرية، التي كثيرا ما يحار المفكرون والأدباء في رسم ملامحها أو التنبؤ بالمسارات المستقبلية لها وسلوكياتها في ظل الأزمات المحيطة بها حاليا. سألت الكاتب المصري عن رؤيته في هذا الصدد، ليقول “في ملحمة السراسوة النداء كان عميقا، عمق الشخصية المصرية التي داهمتها عصور من القهر وطمس الهوية، وعاشت أحلاما بالانعتاق والتحقق ودفء الانتماء، ولما فكَّرَت ذات مرة في الانتماء إلى كيان أكبر أعطت هذا الانتماء زخما لم يكن له، ومعنى أكثر إنسانية، وأبعادا غير منكورة.”
يضيف “سأعطيك مثالا، فلقد احتلنا الفرس ولم نتفَرّس، إن جاز التعبير، والبطالمة والبيزنطيون والرومان، ولما جاء العرب أعطينا الفكرة الإسلامية زخما رائعا، أخرجها من فقه البداوة إلى فكر الحضر، بل وإلى التماهي مع الميثولوجيا المصرية القديمة، بكل أبعادها التوحيدية والمؤمنة بالجمال والخير والتسامح، ثم لمّا قررنا الانتماء إلى الفكرة العربية أخرجناها من مجرد الشعور بالتميز العرقي إلى الانتماء إلى أشرف ما يؤمن به الإنسان من قيم، وأخذت الفكرة القومية أبعادها التحررية التي تضيف إلى الإنسانية ولا تتعالى عليها.”
هذه هي الشخصية المصرية، في رأي أبوالفتوح، وستعبر الهوة التي يراد لنا الوقوع فيها، وستكسب التحدي مستعينة بطبقات لا نهائية من الخبرات والثقافة والتنوع والقدرة على خلق سبيكة إعجازية، وستنتصر على كل ما ينال من كينونتها كشخصية عالمية بامتياز، لا تشوب قيمها شائبة، ويقول “أعرف أن هذا يشبه الحديث الخطابي، لكن هذه هي الحقيقة.”
قبل رحيل الفنان الكبير ممدوح عبدالعليم، تحمس بشدة لتقديم “ملحمة السراسوة” دراميا، والتقى مرارا الكاتب أحمد صبري أبوالفتوح لوضع تصور لها، وتمت كتابة ملخصات درامية وبعض الحلقات كتجربة، وكان مفتونا بها مثل آخرين من الفنانين والمخرجين.
يقول أبوالفتوح “ممدوح عبدالعليم لم يكن فنانا عاديا، كان مثقفا ومنتميا وصاحب رؤية، وتمنى أن يقدم السراسوة في عمل درامي ضخم، وكنت أعرف أن ضخامة العمل تتطلب تدخل الدولة أو شركات الإنتاج الدرامي العامة، لأن الملحمة خمس روايات تتناول الفترة من منتصف القرن الثامن عشر إلى بدايات القرن الحادي والعشرين، لكن العمر لم يسعفه فخسرنا برحيله فنانا عظيما وخسرت السراسوة واحدا من أكبر عشاقها.”
في زمن الواقع الافتراضي لا مفر من أن يكون الخيال مختلفا، ويكون التناول مختلفا أيضا، بما يناسب الموضوع
لم يتخل الأديب المصري أبدا عن حلم تقديم ملحمته دراميا، لكن ظروف الإنتاج الضخم تتطلب دورا للدولة ومؤسساتها الإنتاجية الرائدة، قائلا “على كلٍّ هي موجودة وليس على من يريد إلا أن يمد يده ويحصل عليها، فأنا لم أكتبها إلا تلبية لنداء أسمعه في أذني حتى الآن وأعرف أنه نداء مصريتي وهويتي وموهبتي إن كانت لديَّ موهبة، ولا أبغي من وراء إنتاجها دراميا إلا أن تكون رافدا من روافد التعرف على روح الشخصية المصرية في العصر الحديث.”
ولا يوافق أحمد صبري أبوالفتوح على الآراء التي تذهب إلى أن مركز التأثير في الدراما العربية انتقل في الوقت الحالي من مصر إلى السعودية، إنما يعتبر أن مركز التأثير سيظل في مصر، ولا بأس من أن يشاركها الاستفادة منه شقيقاتها، وكان يمكن أن نخشى على الدراما المصرية لو أن المملكة لا تزال تلتزم بالفكر الوهابي الذي يضع إطارا ضيقا يحمّل الأعمال الدرامية بمضامين لا تتفق مع روحها المنطلقة وتنوعها وحريتها.
ويرى أن الأنشطة التي تقوم بها المملكة في هذا المجال من استضافة فعاليات والاستعانة بالفنانين المصريين تصب في مصلحة الفن بشكل عام والفن المصري بالذات، فهي تضخ أموالا مطلوبة في صناعة الدراما، وإذا كان لها بعض السلبيات الآن فإنها سرعان ما ستتعافى وتنطلق إلى آفاق الإنتاج الكبير والمتميز، ويقول “أنا من أنصار التقدم، وأرى أن الحياة صاعدة نحوه باطّراد.”
انتهى الأديب المصري أحمد صبري أبوالفتوح من كتابة رواية بعنوان “مراد العالم” ستصدر عن دار الشروق المصرية في الدورة المقبلة لمعرض القاهرة الدولي للكتاب في شهر يناير. ويعكف حاليا، كما كشف في ختام حواره لـ”العرب”، على كتابة رواية ستكون عملا كبيرا بعنوان “المنصورة” قائلا “إنها عن بلدي ومدينتي الجميلة الأثيرة في إطار مشروعي الأدبي للغوص في بحر التنوع الاجتماعي والثقافي لهذا الجزء الثري الغالي من دلتا مصر، دعواتكم لي بأن تكتمل.”