الغرب موحد في وجه المهاجرين.. ماذا بقي من العولمة

المنظرون لسياسات إغلاق الحدود سيذكروننا بأن العولمة هي عولمة فكرية وثقافية وحضارية. الشيء الذي سيحرص هؤلاء على تجنب الحديث عنه هو كيف حولت عولمتهم الناس إلى كائنات استهلاكية.
الخميس 2024/11/07
مهاجرون.. ولكن حسب الطلب

قبل يومين من انطلاق الانتخابات الرئاسية الأميركية، قال مرشح الحزب الجمهوري والرئيس السابق دونالد ترامب “عندما غادرت (البيت الأبيض) كان لدينا أكثر الحدود أمانًا في تاريخ بلدنا. كان لدينا ذلك الجدار. كان يجب ألا أغادر”. ترامب كان يشير إلى الجدار الذي أمر ببنائه عام 2017 بين المكسيك والولايات المتحدة لمنع تدفق المهاجرين.

واليوم هناك عدة نقاط راهن عليها ترامب للعودة إلى البيت الأبيض، أبرزها إلى جانب تخفيض الضرائب على الأثرياء وتبني سياسة “أميركا أولًا” المعادية للحلفاء التقليديين والمعادية للصين، تبني موقف صارم من قضايا الهجرة.

ومع الإعلان عن إغلاق مراكز الاقتراع في جميع الولايات الأميركية بدأ ترامب تلقي التهاني من رؤساء الدول والحكومات بعد أن أعلن عن فوزه برئاسة الولايات المتحدة وسيطرة الجمهوريين على مجلس الشيوخ.

◄ التقدم التكنولوجي سيعزز الترابط الافتراضي، ويسهّل التجارة الإلكترونية والتعاون عبر الحدود. ويمكن للشركات الآن الوصول إلى الأسواق العالمية من خلال الإنترنت، ما يقلل من الاعتماد على موجات الهجرة

وكان ترامب قد وصف منافسته بأنها زعيمة ضعيفة ومتهاونة في التعامل مع الهجرة غير النظامية.

في أوروبا لا يختلف الأمر كثيرًا، بعد أن أصبح تبني موقف متشدد من المهاجرين أقصر طريق للفوز بالحكم. ونجد رئيس وزراء عماليّا مثل كير ستارمر يعد بمضاعفة تمويل وكالة الأمن الحدودية البريطانية واعتماد نهج يعامل عصابات تهريب البشر معاملة الشبكات الإرهابية.

لغة مشابهة تتكرر في معظم الدول الأوروبية التي اتحدت فجأة في وجه المهاجرين. وقد تكون رئيسة وزراء إيطاليا، جورجيا ميلوني، الأشد صرامة تجاه الهجرة غير الشرعية، فهي تؤكد أن التدفقات غير الشرعية للمهاجرين تلحق ضررًا بجميع البلدان على البحر المتوسط، وتدعو الدول إلى التعاون لمواجهة مهربي البشر، مع تشجيع الهجرة القانونية وتوفير تصاريح إقامة للمهاجرين المدربين في اختصاصات مختلفة.

فجأة أصبحت محاربة الهجرة والتصدي للمهاجرين والتخلص منهم على رأس قائمة الوعود التي تقدمها الأحزاب والمرشحون للفوز بالانتخابات. وفي هذا تلتقي أحزاب اليمين واليسار وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة.

الهجرة كانت دائمًا جزءًا لا يتجزأ من تاريخ البشرية، حيث سعى الناس عبر العصور إلى البحث عن فرص أفضل وحياة أكثر استقرارًا. أعداد الأوروبيين الذين استوطنوا الأميركيتين وأستراليا ودولا آسيوية وشرق أوسطية وشمال أفريقيا والقارة الأفريقية نفسها تصل إلى مئات الملايين. رغم ذلك، هذا لم يمنع الولايات المتحدة والدول الأوروبية من اتخاذ موقف معادٍ للمهاجرين. فما هي الأسباب وراء هذا الموقف؟ وهل من حق هذه الدول اختيار المهاجرين “حسب الطلب” وحرمان دولهم الأصلية من كفاءاتهم؟

تتعدد الأسباب التي تتذرع بها الدول الغربية اليوم لاتخاذ موقف صارم تجاه الهجرة غير الشرعية، على رأس القائمة يأتي الأمن القومي. تقول هذه الدول إنها تخشى تسلل عناصر إرهابية أو مجرمين عبر الحدود غير المحمية، ما يشكل تهديدًا لأمنها الداخلي.

ويعتقد البعض أن تدفق المهاجرين غير الشرعيين يمكن أن يؤثر سلبًا على سوق العمل، حيث يمكن أن يؤدي إلى زيادة البطالة بين المواطنين الأصليين أو خفض الأجور، وزيادة الضغط على الخدمات العامة مثل الصحة والتعليم والإسكان، وهو ما قد يؤثر على جودة هذه الخدمات للمواطنين.

◄ اليوم لم تعد هناك حاجة إلى التوسع في الورشات بعيدًا عن حدود الوطن الأم، ولكن في الوقت نفسه لا تريد أي حكومة من هذه الحكومات المشاركة في تأبين نظام العولمة
◄ اليوم لم تعد هناك حاجة إلى التوسع في الورشات بعيدًا عن حدود الوطن الأم، ولكن في الوقت نفسه لا تريد أي حكومة من هذه الحكومات المشاركة في تأبين نظام العولمة

وهناك مخاوف من أن تؤدي الهجرة غير الشرعية إلى تغييرات ديموغرافية وثقافية كبيرة، ما قد يؤثر على الهوية الوطنية والثقافية للدول المستقبلة.

لا جديد في قائمة المخاوف المطروحة، وهي لم تمنع في الماضي دولا أوروبية وأميركية من استقبال المهاجرين وتدفقهم. حتى وقت قريب نسبيًا كان الحديث يدور عن الغنى الثقافي الذي حمله معهم المهاجرون إلى مدينة مثل باريس ونيويورك. فما الجديد الذي أغفلته القائمة السابقة؟

إنها التكنولوجيا؛ وبالتحديد الأتمتة ومن ثم الذكاء الاصطناعي.

مع تقدم التكنولوجيا وظهور الذكاء الاصطناعي والروبوتات، شهدت الكثير من الصناعات تحولًا جذريًا في كيفية تنفيذ الأعمال. هذا التحول لم يؤثر فقط على الاقتصاد وسوق العمل، بل امتد تأثيره ليشمل سياسات الهجرة في الدول المتقدمة.

أحد أبرز تأثيرات الأتمتة تقليص الحاجة إلى العمالة غير الماهرة. في الماضي كانت عدة صناعات تعتمد بشكل كبير على العمالة اليدوية، سواء في المصانع أو المزارع، وبدخول الروبوتات والآلات الذكية أصبحت هذه الأعمال تُنجز بكفاءة أعلى وبكلفة أقل، وهو ما قلل الحاجة إلى استقدام عمالة غير ماهرة من الخارج. هذا التحول أدى إلى تقليل تدفقات الهجرة غير الشرعية التي كانت تعتمد على هذه الفرص الوظيفية.

ورغم الفوائد الاقتصادية للأتمتة فإنها تأتي مع تحديات اجتماعية واقتصادية، من بينها فقدان الوظائف لبعض الفئات من السكان المحليين، وهذا يزيد التوترات الاجتماعية والاقتصادية. في هذا السياق يُنظر إلى المهاجرين على أنهم منافسون على الفرص المتاحة، وهو ما يعزز المواقف المعادية للهجرة. هذا التوتر يمكن أن يؤدي إلى سياسات أكثر صرامة تجاه الهجرة غير الشرعية، حيث تسعى الحكومات إلى حماية مصالح مواطنيها.

وهذا ما يفسر تزايد الحديث عن اختيار المهاجرين حسب الطلب. أصبحت الدول المتقدمة تفضل استقدام المهاجرين ذوي الكفاءات العالية الذين يمكنهم المساهمة في الاقتصاد الرقمي والتكنولوجي. هذا الاتجاه نحو “الهجرة الانتقائية” يعني أن الدول تختار المهاجرين بناءً على مهاراتهم واحتياجات سوق العمل. على سبيل المثال، برامج تأشيرات العمل التي تستهدف المهندسين والمبرمجين أصبحت أكثر شيوعًا، بينما تقل الفرص المتاحة للعمالة غير الماهرة.

ويثير هذا الأمر جدلاً أخلاقيًا حول ما إذا كان من العدل حرمان الدول الأصلية من كفاءاتها. فالهجرة غالبًا ما تكون نتيجة لظروف اقتصادية أو سياسية صعبة في الدول المصدرة للمهاجرين، وبالتالي فإن حرمان هذه الدول من كفاءاتها يمكن أن يزيد من معاناتها.

على عكس ما يحدث الآن، في القرن الماضي عندما كانت هناك حاجة إلى اليد العاملة رأينا الاستثمارات الغربية تتجه شرقًا إلى دول ذات كثافة عالية ويد عاملة رخيصة. الحل كان مرضيًا للطرفين: الطرف الباحث عن تحقيق ربح أكبر، والطرف المحتاج إلى خلق فرص عمل وتنمية.

◄ فجأة أصبحت محاربة الهجرة والتصدي للمهاجرين والتخلص منهم على رأس قائمة الوعود التي تقدمها الأحزاب والمرشحون للفوز بالانتخابات، وفي هذا تلتقي أحزاب اليمين واليسار بدرجات متفاوتة

لم يفكر أصحاب رؤوس الأموال ومعهم الحكومات آنذاك في مصير مئات الآلاف بعد إغلاق المصانع التي يعملون فيها. تمثل الحل في زيادة مجزية للمعونات الاجتماعية والخدمات الصحية والسكنية.

في ذلك الوقت كثر الحديث عن فضائل العولمة. ولم نسمع أي احتجاج من الحكومات الغربية على انتهاكات لحقوق الإنسان سواء في الصين أو الهند، أكبر ورشتين للصناعات الغربية. ولم يأت أحد على ذكر المخاوف الأمنية.

اليوم لم تعد هناك حاجة إلى التوسع في الورشات بعيدًا عن حدود الوطن الأم، ولكن في الوقت نفسه لا تريد أي حكومة من هذه الحكومات المشاركة في تأبين نظام العولمة. بدلًا من ذلك اخترع الغرب تعريفًا جديدًا للعولمة، وقال إن العولمة ليست عملية ثابتة، بل تتكيف مع التغيرات في البيئة السياسية والاقتصادية. يمكن أن تظهر أشكال جديدة من العولمة تركز على التعاون الإقليمي أو التكنولوجي بدلًا من الاعتماد على تدفقات الهجرة المكثفة.

التقدم التكنولوجي سيعزز الترابط الافتراضي، ويسهّل التجارة الإلكترونية والتعاون عبر الحدود. ويمكن للشركات الآن الوصول إلى الأسواق العالمية بسهولة أكبر من خلال الإنترنت، ما يقلل من الاعتماد على موجات الهجرة.

في النهاية، سيذكّرنا المنظرون لسياسات إغلاق الحدود بأن العولمة هي عولمة فكرية وثقافية وحضارية. الشيء الذي سيحرص الجميع على تجنب الحديث عنه هو كيف حولت عولمتهم الناس إلى كائنات استهلاكية.

9