الأمومة تتجاوز الحدود التقليدية في الفيلم القصير "إخوة الرضاعة"

تجاوز فعل الرضاعة كونه فعلا بشريا تقليديا تقوم به النساء قديما في فاس ليصبح ثيمة في فيلم روائي قصير للمخرجة كنزة التازي التي رأت أنه فعل يمكن توظيفه للكشف عن عمق التضامن النسائي في المجتمعات التقليدية المكبلة بالأعراف والتقاليد.
الرباط - يتناول فيلم “إخوة الرضاعة” للمخرجة كنزة التازي فكرة مميزة في المجتمع المغربي، حيث يتعرض لعلاقة الرضاعة كرمز من رموز التضامن بين النساء في المجتمعات التقليدية، مركّزًا على موضوعات الأمومة والرضاعة الطبيعية والنظرة الاجتماعية إلى الأم غير المتزوجة، من خلال قصة مريم، الأم الشابة التي تهرب من زواجها وتجد في إرضاع الطفل اليتيم كرم مساحة لتجاوز علاقتها التقليدية بالأمومة، وهذا يظهر تلاشي الحدود بين الأمومة البيولوجية والأمومة الروحية.
وقد شارك هذا الفيلم الروائي القصير في المسابقة الرسمية للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة في دورته 24 التي اختتمت في 28 أكتوبر الماضي، وفازت مخرجة وكاتبة السيناريو كنزة التازي بجائزة أفضل سيناريو ضمن المهرجان.
تعكس الفكرة العامة للفيلم جزءًا من التراث المغربي والممارسات الاجتماعية التي ترتبط بعمق بروح التضامن النسائي، حيث اختارت كنزة التازي معالجة موضوع الرضاعة الذي كان تقليدًا قديمًا في فاس، حيث تلتقي الأمهات المرضعات لتقديم الدعم للأطفال المحتاجين إلى الرضاعة، وهذه الفكرة ترمز إلى الروابط العاطفية والإنسانية التي تتجاوز الروابط البيولوجية وتعيد النظر في مفهوم الأسرة والأمومة.
موضوع الرضاعة كان تقليدًا في فاس حيث تلتقي الأمهات المرضعات لتقديم الدعم للأطفال المحتاجين إلى الرضاعة
وتعرض حبكة السيناريو شخصية مريم كأم شجاعة تتحدى الأعراف لتكوين علاقة مع كرم رغم الرفض المجتمعي، ويبرز نضج مشاعرها وتفكيرها بشكل تدريجي، ما يعطي بعدًا عاطفيًا للقصة ويجعل المتفرج يتعاطف معها ويرى فيها نموذجًا للأمومة غير التقليدية، حيث أن هذا الاشتغال يعكس كيف يتجاوز الحب والشعور بالأمومة الحدود المجتمعية ويخلق هوية جديدة لمريم.
ويجسد السرد السينمائي أجواء المجتمع المغربي التقليدي بلمسة حديثة ودقيقة، ويتضح ذلك في طريقة استخدام عناصر عديدة مثل الملابس، أداء الممثلين، وكذلك الأسلوب الفني في التصوير والإضاءة، حيث تتطرق الأحداث إلى قصص الأمومة والرعاية ضمن الفضاء الثقافي المغربي، وهذا يعكس ذكاء المخرجة كنزة التازي في بناء عوالم بصرية دقيقة تعكس الهوية المحلية.
وتعزز الأزياء التقليدية المغربية للنساء في الفيلم من روح التراث والتقاليد التي تحكم واقع الشخصيات، فقد تم اختيار الأزياء بعناية لتعكس بيئة القصة الاجتماعية والزمانية، حيث ارتدت النساء قفاطين بسيطة ومحتشمة تتناسب مع أدوارهن كأمهات مرضعات في فاس، كما أن الملابس التقليدية تخدم السرد لأنها تذكرنا بدور الأم المغربية التقليدية، وتدفع المشاهدين إلى رؤية الأمومة ضمن هذا السياق الثقافي.
ويعد أداء الممثلة نادية كوندا في دور مريم حساسًا، فقد عبرت عن أمومتها ورغبتها في تبني الطفل كرم بإحساس عميق وحركات عاطفية دقيقة، وجسدت دور الأمومة المركبة بحرقة، حيث واجهت صراعًا بين التقاليد ورغبتها الإنسانية في الاحتواء والحب، بينما يعكس تعبير وجهها والتردد البادي في عينيها عند اتخاذ القرار براعتها في نقل الصراع النفسي.
وجاء أداء الممثل فريد الركراكي، الذي يجسد دور مدير الفندق، ليضفي نوعًا من الجدية والمشاعر المتحفظة تجاه رغبة مريم، ودوره كان مليئًا بالإيحاءات ويعكس صوت المجتمع التقليدي من خلال تحفظه وتمسكه باحترام للعادات.
ويتميز المشهد داخل فضاء الأمهات المرضعات بتفاصيل بصرية دقيقة جعلت الفضاء يبدو كأنه ملاذ دافئ وحنون للأمهات وأطفالهن، كما أن الإضاءة الخافتة والموزعة بعناية أضافت طابعًا دافئا وحنونا يعبر عن روح الأمومة، فالاعتماد على الإضاءة الطبيعية البسيطة، التي قد تكون مستمدة من نوافذ ضيقة، يمنح المشاهد شعورا بالحميمية والأمان، ويعزز الشعور بالسكينة والتضامن بين النساء.
وأبدعت المخرجة كنزة التازي في استخدام اللقطات القريبة والقريبة جدًا لتصوير ملامح الشخصيات بدقة، وهذه التقنية منحت الجمهور فرصة لرؤية تفاصيل العواطف والانفعالات على وجوه الشخصيات، حيث كان التركيز على تعبيرات العيون والملامح الدقيقة يسهم في نقل الشعور الداخلي العميق لكل شخصية، لاسيما عند البطلة مريم التي تمر بتجربة متضاربة من مشاعر الأمومة والحب، كما استخدام اللقطات القريبة أضفى إحساسًا بالتقارب بين المشاهدين والشخصيات، وجعل المشاهدين يشعرون وكأنهم يعيشون تلك اللحظات الحميمة، وهذا يساهم في بناء علاقة عاطفية أقوى مع القصة.
ويظهر احترام المخرجة كنزة التازي لقواعد الفيلم القصير من خلال الاختصار والدقة في عرض الفكرة وتتابع المشاهد بتركيز عالٍ لتحقيق الأثر المرجو، وحافظت على الإيقاع السريع للفيلم عبر ترتيب المشاهد بسلاسة، حيث يبدأ الفيلم بطرح الخلفية الاجتماعية لمريم ويأخذنا إلى عمق مشاعرها وصراعها مع المجتمع دون إطالة أو إغراق في التفاصيل، فكل مشهد جاء بوظيفة محددة سواء لتطوير الشخصيات أو لتصعيد الحبكة، بينما تلتزم المخرجة بقواعد الفيلم القصير من حيث إيجاز الحوار وتوجيه اللقطات بعناية أسهم في إبراز الفكرة الرئيسية حول علاقة الأمومة بالتقاليد بأسلوب موجز ومؤثر، ليصل إلى الجمهور دون حاجة لشرح زائد أو مشاهد إضافية، محافظا بذلك على جودة السرد البصري.
ويتميز فيلم “إخوة الرضاعة” بالالتزام بقواعد الفيلم القصير، حيث يجمع بين سرد مكثف وعناصر بصرية متقنة تسمح بتقديم قصة متكاملة في إطار زمني محدود والتركيز على الفكرة الأساسية من دون تشتيت، مع الحرص على تطوير الشخصيات بشكل يجعلها مؤثرة وقابلة للتفاعل العاطفي مع المشاهد، كما تعتمد التازي في إخراجها على زوايا تصوير مدروسة وإضاءة تعزز من أجواء الفيلم ويبرز التوازن بين سرد القصة والإبداع البصري، ليصبح الفيلم تجربة مكثفة تعكس تجربة التازي وموهبتها كمديرة تصوير ومخرجة.
وكنزة التازي مديرة تصوير موهوبة، بدأت رحلتها السينمائية بعد دراسة استمرت ست سنوات بين جامعة السوربون في باريس ومدرسة ميتفيلم في برلين. خلال مسيرتها، اكتسبت خبرات متعددة في عدة أقسام، مما ساهم في تخرجها كمديرة تصوير محترفة. شغلت هذا المنصب في العديد من الأفلام القصيرة، والأفلام التلفزيونية، والكليبات، مما أكسبها خبرة عملية واسعة. بعد كتابة “إخوة الرضاعة”، قررت التازي إخراج أول فيلم قصير لها، حيث جمعت بين تجربتها خلف الكاميرا وبين إبداعها ككاتبة ومخرجة.
وكنزة التازي هي ابنة المخرج المغربي البارز محمد عبدالرحمن التازي، الذي يُعد من أعمدة السينما المغربية بفضل مسيرته الفنية الطويلة وأعماله المتميزة. وُلد التازي في 3 يوليو 1942 بمدينة فاس، ودرس السينما في المعهد العالي للدراسات السينمائية في باريس، حيث تخرج عام 1963، ثم تابع دراسته في مجال التواصل بجامعة سيراكيوز في نيويورك.
واستطاع من خلال مشواره الفني أن يترك بصمة واضحة على السينما المغربية، مقدما عددا كبيرا من الأعمال التي لاقت استحسانا كبيرا لدى الجمهور والنقاد، من أبرزها: “أمينة” (1980)، و”باديس” (1981)، و”الرحلة الكبرى” (1981)، و”لالة شافية” (1982)، و”البحث عن زوج امرأتي” (1993)، و”للا حبي” (1997)، و”جارات أبي موسى” (2003)، و”محاين د الحسين” (2005)، و”خيط البحرار” (2008)، و”الحسين والصافية” (2011)، و”هنية مبارك ومسعود” (2013)، و”البايرة” (2013)، و”الترقية” (2015)، و”الدار المشروكة” (2019).
وعبر هذه الأعمال المتنوعة، أسهم التازي في تقديم رؤى جديدة للمجتمع المغربي وتناول قضاياه بعمق، مما عزز مكانته كأحد رواد الفن السينمائي في المغرب.