جميل الدخلاوي صاحب الصوت الجميل

ذات يوم قال الفيلسوف أبوحيان التوحيدي إنّ "الصوت الجميل، يسرقك من نفسك، ويعيدك إليك، يأخذك ويردك"، صدق أبوحيان فهكذا بالفعل كان صوت جميل الدخلاوي، الصحافي التونسي الذي احترف الاشتغال على الوثائقيات التاريخية إلى جانب برامج أخرى في التلفزيون الرسمي التونسي.
جميل صاحب الصوت الجميل، كان يسرقنا من لحظات اللعب في طفولتنا، ويأخذنا إلى عوالم فسيحة ورحبة، عوالم مليئة بالحكايات والمعلومات، ثم يردنا إلى الواقع ونحن ندمن على متابعته يوما تلو يوم.
رحل جميل الدخلاوي مطلع هذا الأسبوع، بعد معاناة مع السرطان، صمت صوته إلى الأبد تاركا أرشيفا مهما وكبيرا اشتغل فيه على كل ربوع تونس، فقد وثق بصوته تاريخ المدن وآثارها.
صوت جميل وهو يصف لنا المدن التونسية يزيدها جمالا، يحببنا فيها، يمنحها بريقا آخر لم ننتبه إليه لولاه. وهو الصوت الجميل ذاته الذي ستحبه الأجيال الصاعدة وستجد فيه الكثير من الأمل.
كان الراحل صاحب حنجرة ذهبية، لم تنطق بحروف اللغة اعتباطيا وإنما رفعت راية التفرد، تختار الكلمات بدقة متناهية، تجملها، تمنحها الكثير من روحه وأفكاره، تعيدها إلى التاريخ السحيق لتكون الكلمة معبرة عن هوية الأمكنة، وكاشفة لفرادة صاحبها.
"تبعني" (اتبعني) هكذا خاطبنا جميل، فتبعناه، وكما يتعلق الرضيع بصوت أقرب الناس إليه، وعادة ما تكون أمه، تعلقت أجيال من التونسيين منذ ثمانينات القرن الماضي تعلقا شرطيا بصوت الدخلاوي، فمنذ أن تسمع شارة البداية، يتأهب عقلك وكل حواسك، تستعد لسفر في التاريخ، سفر ممتع للأذن قبل العقل.
جميل هذا الأستاذ الذي لم يتشبه بأحد، صحافي اختار لنفسه هوية مغايرة، هوية ترفع راية الثقافة، تسعى لتغيير الأفكار بقراءة التاريخ، فالتاريخ كما يصفه العلامة التونسي ابن خلدون "في ظاهره لا يزيد عن الإخبار، ولكن في باطنه نظر وتحقيق"، وصوت جميل الدخلاوي لم يحترف الإخبار فقط إنما احترف النظر والتحقيق والعودة بنا إلى الحكاية منذ أولها.
عمل الراحل في التلفزيون التونسي لسنوات، تعرض لمظالم كثيرة وحاول البعض إبعاده عن المشهد الإعلامي، لكنه لم يتخل عن شغفه بالتعليق الصوتي، وحتى بعد تقاعده عن العمل، استمر في الإنتاج مع العديد من المحامل، فصوته النادر وتجربته المميزة كانا دوما يستحقان فرصا كثيرة.
تونسيته، أو لنقل تمسكه بالعمل في تونس، ربما هو أحد أهم أسباب محليته، فلو غرّد البلبل وحلق بعيدا عن هذه الأرض لكنا اليوم ننعى واحدا من أشهر المعلقين العرب. وهو بالفعل كذلك في نظر التونسيين، فجميل لن يتكرر.
أحب الراحل عمله، وهو ما تبوح به كل إنتاجاته، فأحبه التونسيون رغم أن أغلبهم لم يعرف شكله إلا عند وفاته، نعاه الكبار والصغار، كتبوا فيه وعنه كلاما شاعريا، استعادوا معه ذكرياتهم مع آباء وأمهات وعائلات فقد الكثير من أفرادها بفعل الغربة أو الموت، وجاء نبأ رحيله ليكشف كم يحبه الناس وكم يحظى بقيمة إنسانية ومهنية كبيرة.
موت جميل، الصحافي والمنتج الإعلامي، خير مثال على أن المرء يستطيع أن يخلد ذكراه بين الناس دون أن يروه، “فالأذن تعشق قبل العين أحيانا”، مثال يكسر الفكرة السائدة بأن الشهرة تحتاج الكثير من الابتذال، فهو أحد القلائل الذين اشتهروا بما يقدمونه لنا من فكر وثقافة ومعرفة. وحتى حضوره على السوشيال ميديا كان حضورا رصينا، يكتب فيه كلماته الموزونة، يستفز به ذاكرة الأجيال بين الحين والآخر، يلتقط لها أجمل ما تراه عيناه من أماكن وأزقة تونسية، ويثير في عقولها التساؤل حول أشهر المباني الأثرية وحكاياتها.
رحيل الدخلاوي، ناقوس آخر يدق في تونس، يذكر بأن المبدع على هذه الأرض لا يكرم إلا بعد الممات، فإلى متى لا ننصف كل صوت ينهض بهذه البلاد عند حياته؟