لمَ لمْ تسوِّ لنا الطريق يا قيس

الفوز المريح الذي حققه قيس سعيد لا يعني أن الشارع التونسي ليست لديه مطالب بل على العكس "انتظارات الشعب كبيرة لا بدّ من العمل على تحقيقها خاصة استرجاع الدولة لدورها الاجتماعي".
الثلاثاء 2024/10/15
هل تكفي خمس سنوات لتسترجع الدولة التونسية دورها

خمس سنوات قد تبدو للمراقب الخارجي فترة طويلة، ولكنها بالنسبة إلى حكومة مطالبة بتصحيح أخطاء تراكمت على مدى عقدين وأكثر، هي فترة قصيرة جدًا.

جولة قصيرة في تونس تكفي للاطلاع على حجم الصعوبات التي يعيشها المواطن التونسي، سواء كان ذلك في البنية التحتية ووسائل النقل، العام والخاص، وفي ارتفاع الأسعار وغياب بعض السلع وتراجع الخدمات الصحية والتعليم وارتفاع نسبة البطالة. ولا ننسى بالطبع الفساد الذي هو بالنسبة إلى الرئيس التونسي المنتخب قيس سعيد العدو رقم واحد ويقف خلف معظم، إن لم يكن جميع، الأزمات التي يعاني منها التونسيون.

رغم كل الصعوبات، أبرز الشعب التونسي “وعيًا عميقًا بدقة المرحلة”، والدليل على ذلك أننا لم نشهد سوى احتجاجات محدودة جدًا على ارتفاع الأسعار وغياب مواد غذائية وسلع في الأسواق. على العكس من ذلك تمامًا، منح التونسيون الرئيس سعيد فوزًا مريحًا في الانتخابات الرئاسية التي جرت يوم الأحد 6 أكتوبر، وحملوه بذلك مسؤوليات جسام.

◄ الرئيس قيس سعيد يركز على مفهوم العدالة الاجتماعية كجزء أساسي من رؤيته السياسية، ويرى أنها تعني توزيع الثروات بشكل عادل، لضمان حصول الجميع على فرص متساوية في المجتمع

الفوز المريح الذي حققه قيس سعيد لا يعني أن الشارع التونسي ليست لديه مطالب، بل على العكس “انتظارات الشعب كبيرة ولا بدّ من العمل على تحقيقها، خاصة استرجاع الدولة لدورها الاجتماعي”، وهو ما أكده الرئيس سعيد الذي شدد على ضرورة مضاعفة كل المسؤولين لجهودهم والمرور إلى السرعة القصوى لتلبية حاجيات المواطنين واختصار المسافة في الزمن ورفع شتى أنواع التحديات.

في بلاغ صادر عن رئاسة الجمهورية، أكّد قيس سعيّد على ضرورة تخطّي كل العقبات ومراجعة العديد من التشريعات بفكر جديد وبعزيمة لا تلين، مطالبًا “كل مسؤول عن أي مرفق عمومي أن يكون مثالًا في البذل وفي التعفّف وفي العطاء وأن يجد الحلول السريعة”. وقال إن تونس دخلت مرحلة جديدة في التاريخ، وعلى كل المسؤولين أن يكونوا في الموعد لتحقيق طلبات الشعب المشروعة.

تجربة تونس خلال السنوات التي تلت سقوط بن علي، رغم مرارتها، أثبتت أن تونس قادرة على الصمود، وهذا يعود بالدرجة الأولى إلى وعي الشارع التونسي، وبالدرجة الثانية إلى كفاءة الإدارة التونسية. رغم كل العقبات ورغم الفساد الذي تغلغل بهدوء إلى مفاصل هذه الإدارات، لم يصب أي قطاع بالشلل التام، كما حدث في العديد من دول الجوار.

واللافت للنظر، أن الرئيس قيس سعيد كلما ذكر الفساد تحدث عن العدالة الاجتماعية وتلبية حاجيات المواطنين، وكأني به يقول إن الفساد ليس ظاهرة متأصلة بالنفس البشرية، بل كثيرًا ما تكون الدوافع وراء ذلك الحاجة.

وهنا لا يمكن فصل المشهد التونسي عن المشهد العالمي. ما يحدث اليوم في تونس من أزمات هو انعكاس لما يحدث في العالم، ليس فقط بسبب التغيرات المناخية والجفاف، أو بسبب تداعيات وباء كورونا والحرب في أوكرانيا ومنطقة الشرق الأوسط والبحر الأحمر، بل بسبب ما بات يسمى اليوم “الرأسمالية المتوحشة”، التي أدت إلى تركز الثروة والسلطة في أيدي حفنة من الأفراد والشركات العملاقة، وإلى استغلال العمال واستنزاف الموارد الطبيعية، وبالتالي زيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء.

هذا النظام غالبًا ما يتجاهل الأبعاد الاجتماعية والبيئية لصالح تحقيق الأرباح القصوى. والغريب أن في طليعة الداعين إلى مواجهة الرأسمالية بمرحلتها المتوحشة يقف كبار الأثرياء في العالم، وأبرزهم بيل غيتس ووارن بافت. كلاهما يرى أن الرأسمالية يمكن أن تكون أداة قوية لتحسين العالم إذا تم استخدامها بحكمة، وكلاهما يقترح حلولًا تشمل إعادة توزيع الثروة، الاستثمار في التعليم والصحة، والابتكار التكنولوجي.

◄ رغم كل الصعوبات، أبرز الشعب التونسي "وعيًا عميقًا بدقة المرحلة"، والدليل على ذلك أننا لم نشهد سوى احتجاجات محدودة جدًا على ارتفاع الأسعار وغياب مواد غذائية وسلع في الأسواق

هناك دعوات متنامية على مستوى العالم لفرض ضرائب تصاعدية على الأغنياء واستخدام العائدات لتحسين الخدمات العامة ودعم الفئات الأقل حظًا، ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي تركز على الفوائد الاجتماعية والبيئية بدلًا من الأرباح فقط.

ولم يعد مستغربًا أن نرى كبار المستثمرين يدعون إلى تقوية النقابات العمالية لضمان حقوق العمال وتحسين ظروف العمل، مما يقلل من استغلال العمالة، وتنظيم الأسواق بوضع قوانين صارمة لمنع الاحتكار وضمان المنافسة العادلة، حماية للمستهلكين والشركات الصغيرة وتعزيز فرص الجميع في تحقيق حياة كريمة.

الرئيس قيس سعيد يركز على مفهوم العدالة الاجتماعية كجزء أساسي من رؤيته السياسية، ويرى أنها تعني توزيع الثروات بشكل عادل، لضمان حصول الجميع على فرص متساوية في المجتمع بغض النظر عن خلفيتهم الاجتماعية أو الاقتصادية. ويدعو لدعم الفئات المهمشة من خلال تعزيز دور الدولة في تقديم الدعم للفقراء، وضمان عدم رفع الدعم عن السلع الأساسية، وتطهير المؤسسات من الفساد وإعادة هيكلتها لتكون أكثر كفاءة وعدالة في تقديم الخدمات.

هذه الخطوات يمكن أن تساعد في خلق نظام اقتصادي أكثر عدلًا واستدامة، حيث يتم توزيع الثروة والفرص بشكل أكثر توازنًا. وهو ما يفسر موقف قيس سعيد من المنظمات الدولية، خاصة صندوق النقد الدولي، ورفض ما يسميه “إملاءات” الصندوق، ويعارض الشروط التي يفرضها للحصول على القروض، مثل رفع الدعم عن المواد الأساسية وتقليص كتلة الأجور. وفق الرئيس التونسي، هذه الشروط ستزيد من صعوبة الأوضاع الاجتماعية في البلاد.

ولكن، هل تكفي خمس سنوات لتسترجع الدولة التونسية دورها الاجتماعي؟ هذا ما سيعمل على تحقيقه قيس سعيد، الذي يخشى أن يقول له التونسيون يومًا: لمَ لمْ تسوِّ لنا الطريق يا قيس؟

8