عبدالهادي سعدون لـ"العرب": أستذكر مسيرتي الطويلة في أول معارضي التشكيلية

متأثرا بالعراق الحاضر دوما في ذاكرته وهويته وبإسبانيا التي احتضنته وزادته ثقافة وتجربة وتنوعا، يخوض الروائي والشاعر عبدالهادي سعدون تجربة تشكيلية مكتملة المعالم؛ إذ بعد أن انشغل بالكتابة شعرا وأدبا، رأى أن الوقت قد حان ليكشف عن موهبته التشكيلية التي اكتسبها منذ الطفولة ولم يظهرها إلا في مرات نادرة.
تزامنا مع صدور كتابه الشعري الجديد باللغة الإسبانية بعنوان “ديوان تراسموث: قصائد ورسوم”، أطلق الشاعر والروائي العراقي د. عبدالهادي سعدون معرضه التشكيلي الأول بعنوان “لكل ذلك الماضي” في صالة إسباثيو روندا بمدريد، يوم الخميس 26 سبتمبر الماضي، وعلى الرغم من كونه معرضا فرديا أول إلا أنه في الحقيقة -وفقا لسعدون- يعد معرضا استذكاريا لمسيرة رسم طويلة ابتدأت في العراق وتركزت في مدريد التي وصل إليها في نهاية عام 1993.
لوحات ورسوم وتخطيطات متعددة الأحجام والتواريخ والتقنيات التي يضمها المعرض بحدود 40 لوحة، وهو نوع من رؤية شاملة لنوعية رسوم سعدون وتنفيذها على مدى العشرين سنة الماضية، إذ هناك رسوم تعود إلى عام 2000 وأخرى إلى عام 2023، في مزيج منتخب لمنح المتلقي فكرة ضافية عن العلاقات بين الرسم والتشكيل عموما في كتابات سعدون ومدى تداخلها في العملية الكتابية سواء شعرا أو قصا.
هذه التجربة التشكيلية للكاتب العراقي المقيم في مدريد منذ عام 1993 لا تعد الأولى، فقد شارك في معارض فنية مشتركة في مدن إسبانية مختلفة، كما زينت تخطيطاته بعض الكتب الشعرية والفنية لكتاب عرب وإسبان. وله تجارب نصية وفنية مشتركة مع فنانين إسبان آخرين. ولعل علاقته بالفن تنبع من تعلق وعلاقة ودراسة للفن العراقي والإسباني على مدى عقود طويلة نرى تأثيرها واضحاً في كتبه النقدية وترجماته وفي أعماله الروائية الأخيرة خاصة “تقرير عن السرقة” 2020 و”متنزه الحريم” 2022. كما كانت له تجارب سينمائية مختلفة توجها بفيلمه السينمائي القصير “مقبرة” عن المنفيين العراقيين عام 2006.
ويقول سعدون في حواره لـ”العرب” إن المعرض “يجيء متزامنا مع صدور كتابي الشعري الجديد باللغة الإسبانية ‘ديوان تراسموث: قصائد ورسوم’، حيث ضم مشروعا أدبيا يعود إلى عام 2007 نظما ورسما بعنوان “خرجات جديدة”، في محاولة لاسترجاع فن القصيدة الومضة أو القصيدة القصيرة المقاربة لنمط قصائد الهايكو اليابانية دون أن تتمثل بها في البناء والغاية، وقد جاءت تلك القصائد التي يضمها الكتاب في 55 قصيدة قصيرة ترافقها رسوم وتخطيطات من وحي التجربة وكلها تعود إلى تلك الإقامة الأدبية في نزل الشاعر خلال شهر أبريل من عام 2007 في قرية صغيرة تدعى تراسموث في إقليم آراغون الإسباني، ومن هنا جاء العنوان”.
وحول تجربته مع الرسم يوضح سعدون “أتذكر الرسم وتخطيطاتي منذ الطفولة، وكان ذلك بتأثير إثنين من مرشدي للفن، لأهميته وكيفية التعامل معه سواء بالتجربة أو الاطلاع والقراءة، أولهما شقيقي الفنان التشكيلي المعروف كريم سعدون وكذلك أستاذ مادة الرسم والتربية الفنية في مدرستي الابتدائية الأستاذ علي النجار. ولكن كما تعرف لا يمكن للتأثير أن يحولك إلى رسام أو فنان في مادة فنية إن لم يكن لديك الاستعداد والدافع والقابلية بطبيعة الحال. مع ذلك يمكنني القول إن المحاولات الجادة في التخطيط والدخول في الرسم بصورة وإن كانت خجولة، كانت في مرحلة متقدمة مع سنوات الجامعة. وتركزت بشكل أكبر كأداة تعبير حقيقي وهوس وممارسة تكاد تكون شبه يومية مع أعوام المهجر والمنفى الطويلة. وعندما أعود إلى تلك السنين الثلاثين من البعد عن البلاد، أجد الرسم حاضرا في كل سنة وبحجم كبير وطرق متعددة في فهم ماهية الرسم واللون والتخطيط بالنسبة إلي مقارنة مع مشاغلي في الكتابة والبحث الأخرى”.
وفيما يتعلق بالارتباط المبكر بين موهبة الرسم وموهبة الكتابة شعرا وسردا، يضيف “هذا بلا شك، لا أتذكر محاولاتي الأولى في الكتابة شعرا وسردا إلا وكان التشكيل موازيا ومجاورا لها، بل أحيانا كثيرة أتصور أن العملية متكاملة ومحتشدة في بوتقة واحدة، إن لم تخرج بشكل نص وكتابة، فأميل معها على شكل تخطيط ورسم ولوحة معينة. يمكنني القول إن الكثير من كتاباتي على مدى سنين طويلة جاءت في دفاتر وأوراق ومخطوطات مازلت أحتفظ بها مزينة ومليئة بالعديد من التخطيطات والرسوم التي قد تعني ذلك الموضوع الذي تناولته أو مواضيع أخرى محاذية لها أو متركزة فيها. رواياتي الأخيرة وكتبي الشعرية المتأخرة خاصة، دائما ما أرفقت معها رؤيتي بهيئة رسم وصورة وتخطيط متخيل. وللتذكير أيضا، فقد ضمت كتب أخرى مختلفة لكتاب عرب وإسبان وأميركيين لاتينيين رسوما لي مرافقة لتجاربهم الكتابية، وكذلك مجلات أدبية نشرت في صفحاتها العديد من تخطيطاتي الفنية”.
ويعتقد سعدون أن العملية الإبداعية واحدة ويمكنها أن تتشكل بطريقة أو بأخرى سواء كتابة أو رسما أو سينما أو مسرحا، والأهم في كل ذلك أن يجد المبدع بذرته الخلاقة في هذا الحقل أو ذاك بعمق ودراية ورغبة لا تتبدل.
ويقول “أحيانا أتصور العملية غير مقنعة ومجزية بالنسبة إلي لو كنت مجزئا بينها. لا يمكنني تصور حالتي في حقل معين، بل أستريح وأقتنع وأجد نفسي مع هذا التشظي والجمع الممكن بينها كلها، بل وأضيف إليها الترجمة والبحث والتدريس، وهو ما يشعرني بارتياح وأنا أبادل جلستي ومقعدي بين محل وآخر، وهي كلها تملأني بشكل أو بآخر. سبق وأن قلت في مناسبة أخرى إنني مجموع كل ما عملته وأعمله اليوم، وهذا جوهر ما أحسه وأتبناه”.
ويؤكد الفنان أن العراق لا يغادره جسدا وفكرا، ويضيف “العراق هنا عبر رسومي ونصوصي بشكل مركز وأنا أعيش في بعد مكاني عنه منذ ثلاثين عاما. أكاد أجزم بأن كل ما بي وعندي هو من ذلك التحريض المستمر من عراقيتي بكل تأثيراتها الإيجابية والسلبية، بكل إرثها العالق في ذهنيتي ومخيلتي وذائقتي في الحياة والكتابة. قد لا يجد المتلقي تلك الإشارات المباشرة عن العراق وعراقيتي خاصة في القصائد والرسوم، لكن هي هناك مختبئة في كل بيت وسطر وخط ولون وفكرة، التمعن فيها للحظات يحيلك إليها بشكل واسع وممتد ودون نهاية. العراق تاريخا وإنسانا هو كل ما تناولت وأتناول في كتاباتي ونتاجاتي الفنية مضافة إليها خبرة أعوام النفي والبعد والاشتياق. ولعل فكرة عنونة المعرض التشكيلي بـ’لكل ذلك الماضي’ تعني الفقد واللقاء في آن واحد”.
ويرى سعدون أن هناك “تجليات إسبانية وإلا ما فائدة أن يعيش الواحد في بلد لثلاثين عاما ولا يؤثر فيه سلوكا وفنا. إسبانيا علمتني حب العراق، والشوق للعراق علمني أن أحتضن تربتي الجديدة، أعشقها كذلك وأتعلم منها كل يوم. وصلت إلى إسبانيا شابا خرج من حروب بلده الكثيرة وفي شوق لتغيير ما، ليجد نفسه أمام كل هذا الكنز الهائل من المعارف ومن الحريات والاطمئنان النفسي كي يتعلم ويكتب ويشق طريقه في عالم هائل لا حد له. ثم هناك التعرف المباشر على تراث شعب عريق له صلة كبيرة بعوالمنا العربية المشرقية، وإسبانيا مركز أدبي وفني خارق وكبير، تعلمت من ناسه وثقافته الكثير، وهو ما أفادني دراسة وكتابة ومرانا في دروب الحياة الطويلة. كل ما أخذته من العراق مزجته بما تعلمته في إسبانيا لأصنع صورتي وذائقتي وحياتي الشخصية والأدبية”.
ويشرح “في حالتي لا جدوى من الفصل بين مرحلة من مراحل حياتي عن التي تليها، كلها واحدة مجموعة في صفحة كبيرة أقلبها وأعيش فيها وأتمعن فيها، قد أزيد فيها أو أتوقف في فقرة منها، لكنها هي خاصتي ولا فكاك منها”.