في الذكرى العشرين لصدورها "مقبرة القناديل" ملحمة الأكراد المنسيين

شيركو بيكه س يوسع حدود العقل ويفضح الجريمة.
الخميس 2024/09/26
جريمة خلدها الشعر (لوحة للفنان سيروان باران)

مخطئ من يعتقد أن الشعر محصور في ذات شاعره وخيالاته، فالشعر هو الأكثر قدرة على التأريخ للمشاعر والأحداث ذات الوطأة الصادمة، مثل الحروب والمجازر والظلم والقهر وغيرها، فالملاحم الشعرية التي كانت تاريخا عميقا يحفر داخل الذوات ليقرأها بشكل مغاير تثبت ذلك، وهذا ما فعله الشاعر الكردي شيركو بيكه س في ملحمته "مقبرة القناديل".

تسرد الملحمة الشعرية “مقبرة القناديل” للشاعر الكردي شيركو بيكه س، قصص ضحايا حملة الأنفال، التي قام بها النظام العراقي برئاسة صدام حسين سنة 1988 ضد الأكراد، وقد صدرت في الأصل عام 2004، ويصادف هذا العام الذكرى العشرين لصدورها، وقد تُرجمت أخيرا إلى اللغة العربية وصدرت عن دار المدى.

ترجم الرواية الشعرية عن اللغة الكردية هيوا عثمان، الذي سبق له أن ترجم الكثير من أعمال شيركو فضلا عن لقائه به، وقدم لها مع مقدمة أخرى للروائي علي بدر، كما قام الفنان ضياء عزاوي بتصميم الغلاف، ورسم اللوحات التعبيرية المستوحاة من نصوص القصائد.

شاعر التفاصيل

◙ “مقبرة القناديل”، ملحمة بكل ما تحتويه من إنشاءات عميقة في السرد والرؤية والتاريخ والوقائع والوثائق والبيانات
◙ في "مقبرة القناديل" استخدم الشاعر جميع أبجدياته لتصوير قصص الضعفاء 

كتب عثمان عن ترجمته والأهمية العاطفية والتاريخية العميقة التي ينطوي عليها العمل، وقال “عندما بدأت بترجمة ‘مقبرة القناديل‘ لم أكن قارئا لها من قبل. قررت أن أصبح المتلقي للحكاية والمترجم للقصيدة في آن واحد. والنتيجة كانت رحلة شاقة ومؤلمة بين الكلمات والقصص والأوزان والقوافي. حاولت أن أمسح من ذاكرتي كل ما أعرف عن الأنفال. فقررت أن أتعرف على القصة من جديد عبر سردية بالنثر والشعر من شيركو. وما جعلني متيقنا من صحة هذا القرار في الترجمة هو ثقتي بقدرة شيركو على الحكاية والسرد. تمكن شيركو في قصائده الأخرى من أن يكون في كل مكان، وأن يتحدث باسم كل شيء".

ويضيف “في قصيدته أو قصته القصيرة عن ولادة توأم المد والجزر، كان شيركو القمر والبحر، وكل الأماكن والمسافات بينهما. عرفنا للمرة الأولى كيف أن حبا صعبا قد ينتهي، بإمكانه أن ينجب الأشياء العظيمة التي لا تنتهي، مثل المد والجزر. هذا هو شيركو في حديثه عن البدايات".

ويتابع إنه “يذكر التفاصيل، يصبح الكاميرا التي التقطت أولى لحظات التكوين. في حديثه عن رحلة الجنوب الأخرى للكردي، تمكن من أن يوثق الحروب، الإبادات، السلام بأنواعه، التهجير والتعريب، الموت ولعا أو الموت بالغاز السام. وثق بسرده الأحداث الكبيرة بقصص وحكايات الأشياء الصغيرة. تارة يفرك الثلج عن عيون جبل بيره مكرون لكي يرى الغزاة. وأخرى يصب كأسا لأبي نواس كي يستعد لحفل استقبال حلبجة في بغداد. وعن النهايات، يروي لنا كيف مات التاج والعرش والصولجان. وكيف بقيت قبعة وعكاز وحذاء تشارلي تشابلن، تحكم إلى يومنا هذا. لهذا قررت أن أسمع منه قصة الأنفال، وأرويها للقارئ العربي".

ويلفت عثمان إلى أنه في “مقبرة القناديل”، استخدم الشاعر جميع أبجدياته، وقد استعان هو بصفته مترجما بجميع القواميس واضعا أمام عينيه “اختلاجات محمود درويش. متابعا “في هذه ‘المقبرة‘، رأى شيركو كل القناديل وكل فتافيت العظام في منفى ‘نقرة السلمان‘، وسمعها وهي تروي له كل شيء. إن مقبرة القناديل هي آخر ترجماتي ويفترض أن تكون في نهاية طابور النشر، ولكن كل ما فيها من صيحات وصرخات وآلام وآمال، تطلب مني أن تتقدم على القصائد الأخرى وتخرج أولا إلى هذه الصفحات، فجميع أبطالها هم الآن في القبور ولا زالوا يجهلون السبب. ولذا قرروا أن تبدأ رحلتهم الجديدة ويسألوننا نحن الذين لسنا في القبور معهم: ماذا حدث؟ كيف حدث؟ ولماذا حدث؟".

◙ "مقبرة القناديل" ملحمة بكل ما تحتويه من إنشاءات عميقة في السرد والرؤية والتاريخ والوقائع والوثائق والبيانات

في إضاءته المهمة للرواية/الملحمة الشعرية “مقبرة القناديل”، يقول الروائي العراقي على بدر “بدلا من الإنشاء الخيالي والشخصي يكتب شيركو بشغف صريح ملحمة شعرية تتضمن بما لا يقبل الشك كل فصول الملحمة، كل أدواتها الأسلوبية الخفية والظاهرة، كل فصولها ووحداتها، كل حدودها ومساحاتها. وإن كان قد أطلق عليها هو رواية شعرية".

ويضيف “إنها ملحمة شعرية، منذ ملاحم اليونانيين حتى النصوص الفخمة للحملات البطولية المعاصرة. لكنها في الوقت ذاته تختلف عن كل ملحمة. فهي ليست ملحمة مأساة ملكية على الطريقة الإغريقية كصراع بين العروش والسيوف والآلهة، ولا ملحمة قومية على طريقة بييولف الإنجليزية، أو الملحمة الإيسلندية التي تخلد الفارس ذا الدرع اللامع، أو ملحمة غريتير البطولية لشعب يقاتل وينتصر، إنما ملحمة فقراء أكراد، فلاحين بسطاء يساقون إلى موت أصم، موت أدرد، ملحمة خاسرين ومظلومين، ملحمة مهزومين أمام قوة عاتية وغادرة".

يؤكد أن “مقبرة القناديل”، ملحمة بكل ما تحتويه من إنشاءات عميقة في السرد والرؤية والتاريخ والوقائع والوثائق والبيانات، لكن أبطالها بلا بطولة، سوى بطولة موتهم، موت في الصمت والفراغ، ضحايا غائبون، بلا شهود يشهدون على موتهم سوى مقابرهم الجماعية.

والمقبرة الجماعية لفظة باردة المراد منها إخفاء كل شيء، حزنهم ودموعهم، شهقاتهم وخذلانهم، واختصار كل شيء، من هنا وجوب نص يستدعي هؤلاء الفلاحين الفقراء الذين مرت على أجسادهم عجلات التاريخ والثقافة والقومية والسياسة والحملات العسكرية والبيانات والاقتلاع والتعذيب والتشريد والخوف والقتل والدفن ومن ثم الحفرة ـ المقبرة".

ملحمة ضرورية

◙ نص الملحمة الذي نقرأه على شكل طبقات يستدعي التاريخ والفلسفة طبقة فوق طبقة ويستدعي حوارات ثقافية عديدة
◙ نص الملحمة الذي نقرأه على شكل طبقات يستدعي التاريخ والفلسفة طبقة فوق طبقة ويستدعي حوارات ثقافية عديدة

يرى بدر أن نص الملحمة/الرواية الشعرية الذي نقرأه على شكل طبقات، يستدعي التاريخ والفلسفة طبقة فوق طبقة. يستدعي حوارات ثقافية عديدة، صراعات مثقفين وأحاديث بسطاء، تنافس قوميات وطوائف فقرات من تاريخ بعيد وقريب، آثار حركات منتصرة وانكسارات، قصص فلكلورية وفقرات مبعثرة، إنه اكتظاظات شتى لصيغ صريحة وقاسية، هو تاريخ واقعي يستدعينا بقوة، يستدعي كل تاريخ الشرق الأوسط مرة واحدة. يستدعي شرفنا، بكل سجونه وشجونه، برقة ضحاياه وعنف قاتليه، بتسامح فقرائه وعصبيات مثقفيه، بعقلانيته وجنونه.

لكن النقطة الأبرز في كل هذا النص الصريح والمعقد، وفق رأيه، هي الموت. كيف يتحول الموت إلى عمل بيروقراطي من قبل سلطة قاهرة. الموت الكردي موت حزين، لكنه ليس تراجيديا على الطريقة الأرسطية، ليس موتا فرديا إنما هو موت عائلي. موت الأمهات والأخوات والأطفال موت لا يمسرح. موت أعزل، موت في الظلام والتراب، حارساه الرفوش والجرارات، موت بارد أمام عدوان صريح وغافل وقاس.

ويلفت إلى أن شيركو يقدم وصفا لاعتقاده أن القتل هو جوهر التاريخ العربي “هذه الصحارى كانت دائما أرض السعير، ووطن المنجنيق، ومملكة السنن، والجراد، وأرض عاقول. أرض الدم وغمد الحقد المتقيء بقبيلة الغدر بالسيف والرمح”، وتتحول القصيدة لديه إلى نقد الشر وتكراره الذي يسبب الاعتياد، فيقدم تأملاته حول هذا الموضوع بنسب فلسفية تعيدنا إلى نقاشات قديمة بين المثقفين القوميين العرب ومثقفي الأقليات حول التاريخ العربي، البداوة، القبيلة، نبذ الحداثة، العنف، الأهلية العقلية للسلطة والحكم.

ويضيف “هذه القصيدة الملحمة الشعرية، ضرورية. لأنها تكشف ضعف النقاش في ثقافتنا، لقد سقطت فيما مضى أية إمكانية من حيث المبدأ في معارضة دولة الأمن ببنية فكرية، وقد استقال العقل ولم تعد له أية وظيفة اجتماعية، والمثقف في دولة الأمن معزول وخامل ومدان، لذلك انتصرت دولة الرعب نصرا جذريا على الفكر بالكلية. وحولت عقلنا إلى عقل مهزوم وأهمية هذه القصيدة أنها تعيد تفسير التاريخ شعريا وتسلط الضوء على الأجهزة المفاهيمية للدولة القومية التي حولت القتل إلى عملية بيروقراطية".

يتابع بدر “كأنه يقول لا فرصة للعقل المأزوم لفهم التاريخ أو تفسير البنية الاجتماعية، وهذا سبب غياب نقاشاتنا العقلية، وبغياب العقل فإن الشعر سيقوم بذلك فأدواته كافية، وهو من يقوم هنا بفضح الجريمة لا يبررها مثل ‘عقلنا المأزوم‘ ولا يقوم بإخفائها. كل شيء فاقد معناه ومنهار، حتى بعد انهيار دولة القتل: الأفواه عاجزة عن الكلام، الأجساد جثث باردة، الأيديولوجيات بلا معنى، والأعلام قعقعة في مهب الرياح”.

ويخلص بدر إلى أن “هذه القصيدة هي لنا، هي توسيع لحدود عقلنا، هي فحص لعواقب هذا التدمير الذي لحق بنا، والذي لحق بفكرنا وقد كشفته مقابرنا. هذه القصيدة تجعلنا أن نسأل هل هذه الإبادة تحت مسمانا القومي هي الأخيرة في تاريخنا؟ هذه القصيدة تجعلنا ندرك أن تاريخنا بمجمله هو لودوس ـ نوع من التعمية والفوضى ـ وإن أعمالا أدبية مثل هذه تزيل الغموض الجذري عن العقل. وإلا فإن العقل لا فائدة منه، هو ترفيه أو لعبة بين مثقفين يحترفون قول الشيء حتى في أكثر أوقات الأزمات عنفا".

مقتطف من الملحمة

      جموع جموع

      من عبيد الإله من أمة الجن

      من قبيلة الضالين وأناس كافرستان

      جموع جموع

      قافلة من الجواري والسبايا العذاروات

      من الجبال والثلوج

      حشد من خطايا الفقر

      وجموع جموع جموع

      من أهل الجحيم

      ومن العرق الأجرب للمجوس!

      ما أذله حقي هذا!

      كم هي مسكينة براءتي!

      كم هي مهانة

      لغة الجبال!

      كم نحن متصالحان

      أنا والموت!

      وعندما يأتي الليل

      كيف تأكلنا الكلاب السوداء

      واحدا تلو الآخر!

      كم أنا وحيد!

      آه

      كم أنا وحيد كم أنا وحيد!

      وحيد في هذا الزمان!

     الأكثر وحدة منك يا الله

      الأكثر عزلة منك يا الله

      هم فقط الكرد!

      العذراوات

      في الليالي القمراء والغبراء

في كل ليلة وبين الدروع وبيوت الصفيح

أمام الضوء المشع للحافلات

وضعوهن في صف وعزلوهن عن الذكور

واختاروا الأجمل

من بين الورود!

الورود كانت عطشى

ورقابها مائلة!

كوردة الدفلى أمام الريح.

كن يبكين ويحترقن

في غيمة ضباب رمادية من (توبزاوا).

كن يتضرعن إلى الإله

ويتمنين أن يتضرعن إلى الإله

ويتمنين أن يقوم الله، بكن فيكون،

بثقب الأرض وابتلاعهن..

العذراوات..

لم يكن موج الماء وكن يرجفن!

لم يكن ثلجا وذبن!

لم يكن نارا واحترقن!

لم يكن خريفا وسقطن!

لم يكن زجاجا وانكسرن!.

العذراوات،

إحدى أعينهن كانت على الله

ووصول قدرته!

وعيونهن الأخرى على أجسادهن

العارية الوحيدة بلا سياج.

في تلك اللحظة

العذراوات

كن يشبهن شجرة رمان حزينة

وطائر محبوس بشبكة!

جدير بالذكر أن “شيركو بيكه س” من مواليد عام 1940 في السليمانية، ومن عائلة معروفة بالشعر والنشاط السياسي والثوري، يعتبر واحدا من أهم شعراء الأدب الكردي في القرن العشرين، وأبرز وجوه جيل الستينات الذي تولى مهمة تحديث الشعر الكردي، بعد مرحلة الشاعر عبدالله گوران، الذي عاصر تجربة بدر شاكر السياب. عاش 73 سنة ولديه أكثر من 8 آلاف صفحة من الشعر، ابتداء بأول دواوينه عام 1968 الذي حمل عنوان “ضوء القصيدة”، وصولا إلى آخر قصائده التي لم تكتمل قبل أن يداهمه الموت، والتي كانت تحمل اسم “مذكرات دراجة هوائية من كركوك”. نفاه النظام البعثي إلى الأنبار، بسبب دعمه للانتفاضات الكردية المتعاقبة، وحصل عام 1998 على جائزة توخولسكي، وهي من أهم الجوائز العالمية في السويد. وتوفى في أحد مستشفيات السويد عام 2013.

12