ناظم حكمت مازال حاضرا بقوة في الشعر العربي

مختارات لشاعر حطم الحدود الوهمية بين الحياة والشعر.
الاثنين 2024/09/23
شاعر غنى للحرية والفرح وآمال وحكايات البسطاء

أكثر من ستين عاما على رحيل ناظم حكمت، ومع ذلك لم يخبُ أبدا بريق شعره وحضوره بين محبي الشعر لا في بلده تركيا فحسب، بل وفي المنطقة العربية ومختلف أنحاء العالم. وما يزال الشاعر التركي الأشهر على الإطلاق، وربما يعود ذلك لا إلى شعره فقط بل إلى المسار الذي انتهجه في حياته النضالية وفي اشتباكه مع واقع الناس.

شهدت مدينة سالونيك في تركيا ميلاد الشاعر ناظم حكمت يوم 15 يناير 1902 ورحل عن عالمنا أثناء إقامته في موسكو عاصمة الاتحاد السوفييتي، وذلك يوم 3 يونيو 1963، وما بين الميلاد والرحيل أبدع ما أبدع من روائع شعرية وأدبية، وقضى في المعتقلات ما قضى من أزهى سنوات عمره، وتنقل بين دول وقارات مناضلا من أجل حرية الإنسان في كل مكان.

وقد زار الشاعر القاهرة قبل رحيله ضمن وفد أدباء أفريقيا وآسيا، وكان واحدا ممن التقى معهم الرئيس جمال عبدالناصر، وكان لترجمة أشعاره للعربية تأثير مهما على المشهد الشعري المصري. وقد رثاه شاعر العامية الكبير صلاح جاهين بقصيدة بعنوان “بكائية” ضمنها ديوانه “قصاقيص ورق”.

الشعر نضال

أجمل ما في شعر حكمت، وفق مترجمه، الحكايات والتعابير والصور والأمثال الشعبية وعوالمه المأخوذة من الواقع

“من شعر ناظم حكمت” الترجمة التي قام بها علي سعد، وصدرت في بيروت 1952، بمقدمة حاسمة فيما تريد التأكيد عليه في تجربة ناظم حكمت وكأنها أشبه ما تكون ببيان عسكري.

يقول المترجم “يسرنا أن نقدم شعر ناظم حكمت إلى قراء العربية، فإننا نأمل بذلك أن نتيح لهم فرصة التعرف إلى لون من الشعر الواقعي لم يفسح له بعد المجال الكافي في اللغة العربية، وإننا نعتقد أن الرجوع إلى هذا النهج الشعري الذي يستمد عناصره ووسائله من واقع العيش وينابيع الحياة الشعبية، من شأنه أن يساعد على بث بعض الصحة والعافية في عروق أدبنا الذي أفقرته وعمقته المذاهب التي نقلناها دون روية عن الأدب الغربي، من رومانطيقية إلى رمزية وسريالية، مذاهب لم تخلق لمجتمعنا الحاضر، ولم تزد الهوة بين الشعب والأدب إلا اتساعا”.

الشاعر حسن توفيق أعاد نشر ترجمة مختارات علي سعد المعنونة بـ “من شعر ناظم حكمت” لتصدر عن المركز القومي للترجمة ضمن “ميراث الترجمة”، وقدم لها برؤية متكاملة لا تتناول فقط قيمة وقامة حكمت ولكن تطرق لحضوره في الحركة الشعرية العربية عبر العديد من الترجمات التي تلت ترجمة سعد.

 وقال توفيق “الحق أن كثيرين من أبناء جيلي لم يكونوا يكتفون بمجرد قراءة ناظم حكمت عبر ترجمة علي سعد، بل كانوا يرددونها في جلساتهم وأمسياتهم، ومن أجمل وأشهر ما كنا نردده هذه الأبيات المكثفة التي تؤكد على أن المستقبل سيكون أفضل من الحاضر، فمثل هذا التأكيد من شأنه أن يحث الجميع على العمل الجاد والمثمر ترقبا لإطلالة هذا المستقبل:

إن أجمل البحار/ هو ذلك الذي لم نذهب إليه بعد./ وأجمل الأطفال/ من لم يكبر بعد./ وأجمل أيامنا/ لم نعشها بعد./ وأجمل ما أود قوله لك/ لم أقله بعد”.

 لون من الشعر الواقعي لم يفسح له بعد المجال الكافي في اللغة العربية
لون من الشعر الواقعي لم يفسح له بعد المجال الكافي في اللغة العربية

يؤكد علي سعد في مقدمته أن شعر ناظم حكمت يشكل نموذجا رفيعا من الشعر الواقعي، ويقول “من هذا الشعر يطل وجه بطل إنساني ورائد للحرية في هذا الشرق ومجاهد دفع في سبيل نصرة حقوق المغلوبين والمحرومين في بلده وفي كل بلدان الشرق الثمن الفادح فقضى في السجن ستة عشرا عاما اقتطعت من زهرة أيام شبابه”.

ويواصل “كانت أشعار حكمت وأغانيه تدوي داخل سجن بورصة وتنفذ من بين قضبانه، لتنطلق من شفة إلى شفة، فتشيع البهجة والرجاء والإيمان بالحياة في كل زقاق وكل بيت تركي، وتحمل إلى آذان العالم أصداء نضال الشعب التركي في أبلغ بيان، وأخيرا أذعنت السلطات التركية لنداءات العالم الحر، واضطرت لإخراجه من السجن الذي كان مقضيا عليه أن ينهي فيه بقية عمره. وبانتصار الفكر الحر حل اسم ناظم حكمت في جو الأسطورة. ولا عجب فهو سيد من بنى الأساطير وهدم الأساطير. إنه الشاعر الذي غنى للحرية والفرح وآمال وحكايات القوم البسطاء الذين لم يلتفت إليهم أحد من رجال السياسة والقلم في الشرق”.

ويرى سعد أن حكمت لم يستخدم شعره وسيلة للزخرفة أو لزيادة راحته ومجده الشخصيين وإنما أداة نضال شعبي وسلاحا ذو حدين يعمر به ويدمر ويبدع ويتقلب على خط النار الذي اختار لنفسه درب العيش عليه في معركة التحرر الاجتماعي. إنه لم يرض لنفسه درب العيش السهل كغيره من أدباء الشرق، ولم يجعل من قلمه حاجزا بينه وبين الناس ولا سلما يرقى به إلى برج مرصود يسكر فيه ويسكر سحره الألفاظ ورنين القوافي، بل آثر اتباع الطريق الشاقة الوعرة، طريق النضال حتى الاستشهاد البطولي في سبيل نصرة أفكاره ومثله وغايات الكثرة الساحقة من أبناء مجتمعه.

ناظم حكمت، وفق سعد، لا يفصل بين عمله الشعري وعمله السياسي ولا بين جماليته ونضاله، إن شعره مظهر من مظاهر نضاله. وشعره، لذلك، يحمل هذا الطابع المحبب من الحيوية ومن الصدق والإخلاص والصراحة. إن فيه كل حرارة الصراع وكل عنف العواطف القصوى من حب وكره وحنين وشفقة وعبادة للجمال والحرية. وإذا أبغض ناظم فإن بغضه لا يتناول الأشخاص بحد ذاتهم، وإنما معاني الظلم والاستبداد أو الجهل والغدر والخيانة التي يمثلونها. وإذا أحب فإن حبه لا يقف عند شيء، فهو يحب السماء والشمس وأبناء بلاده الذين يصفهم بقوله “إنهم أطفال وشجعان وجبناء وجهلة وحكماء، وهو يحتوي في حبه الموت والجوع والبائسين وامرأته ورفاقه في النضال ورفاقه في السجن، بل هو يحب سجنه وسجانيه.

ثورة في الأدب التركي

يوضح سعد أن ناظم حكمت انحنى على الحياة التركية في القرى والمزارع والدروب والمصانع والسجون، وشاء أن يضبط في الكلمات روح القوم الذين يعطون لهذه الإطارات وللحياة فيها كل قيمتها. فروى بؤس الفلاحين والعمال ومشاغلهم وهمومهم وآمالهم وآلامهم حتى أصبح في مواقفه المتناقضة، وأظهر قدرة هذا الشعب على التحلي أحيانا بأرفع صفات البطولة والشغف بالحرية والخير، وأحيانا بكل ضروب المهانة والخيانة والقسوة.

ولكن أجمل ما في شعر حكمت، وفق مترجمه، تلك الحكايات وتلك التعابير والصور والأمثال الشعبية التي تزهر كالنجوم على قلمه بين ثنايا حديثه الواقعي، فتشيع فيه من البراءة والنداوة والعفوية بما يتيح لشعره الدخول دون استئذان إلى الأفئدة والألباب. لقد نجح ليس فقط في التعبير عن مطالب الشعب التركي بأشكال وصيغ في متناول كل الناس، ولكن أيضا في توسيع آفاق الشعر التركي وتجديدها، بإعطاء هذا الشعر الطابع الجديد الذي يعكس عالمنا وعصرنا الحديثين.

المختارات لا تتناول فقط قيمة وقامة حكمت بل تبرز حضوره في الحركة الشعرية العربية عبر العديد من الترجمات

وهكذا حقق حكمت ثورة عميقة في الأدب التركي، فقد حطم الإطارات الشكلية الخانقة التي فرضتها التقاليد العربية والفارسية على الشعر التركي، فنقله من مجال الجمال اللفظي إلى تيار الحياة الحقيقة، إلى الأعماق الشبيعة، أعني إلى مصدر كل حق وخير وجمال. وبتحقيق ذلك هذه الخطوة فصل حكمت عربة الشعر التركي من ركب الآداب الشرقية التي لا تزال تحتضر في جو من البلاغة الآسن؛ حيث تتخبط أرستقراطية فكرية بعيدا عن أحاسيس الجماهير وروحها، وسير شعر بلاده في اتجاه الشعر الغربي المعاصر.

ويشير سعد إلى أن الصورة الشعرية عند حكمت على صلتها باللفظ، هي فعل شعري أكثر منها تشبيه أو تقريب مفردات متباعدة، وهذا الفعل هو الذي يحدد في أكثر الأحيان الطابع الملحمي في أشعاره، حتى ليمكن القول إن شعره ليس إلا شعر أفعال وإن الظرف الذي يرتكز عليه ليس إلا مظهرا من تجربة جميع بني الإنسان في كل الأصقاع. وإن المعنى والمبنى عند حكمت بترابطهما المتبادل، غير قابلين للانفصال إما من الوجهة التكتيكية أو من وجهة الصيرورة الإنسانية. لقد دلل على أن الحدود بين الحياة والشعر ليست إلا وهما وأن بوسع الشعر الحقيقي أن يكون امتدادا للحياة العادية في نفس الشاعر وإخصابا متبادلا بينهما لا ابتداع حياة مصطنعة من وهم الكلمات.

ويقول إن شعر ناظم حكمت الذي يستقي مادته من واقع العيش العادي وأبسط الحوادث اليومية التي تعطي للحياة طابعها البغيض ذي الوتيرة الرتيبة يعرف كيف يجنبك الشعور بتفاهة هذا الواقع أو بعبث العيش فهو إلى جانب موهبته في اكتشاف المغزى العميق والدلالات الخصبة في أتفه الحوادث (وهو يتبع أعرق تقاليد الحكمة عند القدماء) يتقن فن تحبيب الحياة إلى الناس.

وبذلك يستطيع كل إنسان أن يتلقى في شعر حكمت دروسا في التفاؤل والرجاء والإيمان بالحياة، ففي كل بيت من شعره نشعر بإمكانية غلبة الحياة على الموت والمرض والألم والظلم. ورغم أن الحياة لم تهادنه ولم ترفق به ولا بإخوانه، بؤساء الأرض، ولم تسخ عليه بمقدار ما حاول أن يسخو به على الناس فإن أي مرارة لم تتطرق يوما إلى قلبه أو شعره، ففي أعماقه ظلت تضيء شعلة من الإيمان بجمال الحياة والولاء لها.

مقتطفات من قصائد المختارات

إن عالمنا كبير وفسيح وجميل

وإنه لرحب شاطئ البحار

لدرجة أن بإمكاننا جميعا أن نستلقي كل ليلة

جنبا إلى جنب على الرمال الذهبية وأن تغني المياه المشعشعة بالنجوم

كم هي حلوة الحياة، يا تارانتا بابو وما أجمل كوننا نعيش فندرك الكون

كما لو كنا نقرأ في كتاب ونميد به

كما أغنية حب وندهش كالأطفال أن نعيش…

” ****

إنني أتطلع إلى الأرض وأنا راكع

إنني أتطلع إلى الحشائش،

وأتشوف إلى الهوام،

وأتطلع إلى اللحظة المزهرة المطلقة الزرقة

أنت كأرض الربيع، يا حبيبتي فأنا أتطلع إليك.

إنني مستلق على ظهري فأرى السماء،

وأرى أغصان الشجرة،

وأرى البجع السابح في السماء،

أنت كسماء الربيع،

يا حبيبتي فأنا أراك.

لقد أشعلت النار في الليل، في الريف،

إنني ألمس النار وألمس الحرير

وألمس الفضة.

أنت كنار خيمة تحت النجوم، فأنا ألمسك.

أنا أعيش بين الناس،

وأنا أحب الناس أنا أحب العمل وأحب الفكر

وأحب نضالي وأنت إنسان في نضالي فأنا أحبك.

****

لقد أدركونا، فنحن الاثنين، في السجن،

أنا داخل الجدران، وأنت خارجها.

ولكن ما هو أسوأ من ذلك هو أن نحمل السجن في نفوسنا.

وكثير من الناس وصلوا إلى هذا الحال عن وعي أو لا وعي،

أناس شرفاء، وعاملين وطيبين،

كان بوسع الإنسان أن يحبهم كما أحبك.

12