مبادرة السيسي لـ"بناء الإنسان المصري" تحت الاختبار

انسحاب السلطة من تقديم الدعم وتوفير فرص العمل يحد من فرص التغيير.
الأحد 2024/09/22
هل ستقدر الحكومة على تنفيذ مشروع السيسي

المصريون يتخوفون من أن تطغى الدعاية الإعلامية والسياسية على مبادرة الرئيس عبدالفتاح السيسي الهادفة إلى تحسين شروط العيش وتمكينهم من مختلف الخدمات. كما أن المشكلة لا تكمن في محتوى المبادرة، ولكن في مدى قدرة الحكومة على تجسيدها على الأرض وتوفير التمويلات اللازمة لها.

القاهرة - تتجه الحكومة المصرية نحو تدشين العديد من المبادرات التي من شأنها تعويض انسحابها من الأدوار التقليدية التي كانت تقوم بها في السابق عبر توفير فرص عمل داخل هيئاتها وتقديم الدعم الكبير لغالبية السلع والخدمات الرئيسية مع حفاظها على مجانية الصحة والتعليم لعقود طويلة، قبل أن تتراجع بفعل خطوات الإصلاح الاقتصادي التي تنفذها بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، في محاولة للحفاظ على علاقة مقبولة بين الطرفين، ووسط امتعاض شعبي من قرارات تتخذها وتتعلق بمجمل حياة المصريين اليومية.

وشهد رئيس الحكومة المصرية مصطفى مدبولي احتفالاً، الثلاثاء، لإطلاق المبادرة الرئاسية “بداية جديدة لبناء الإنسان”، التي سبق وأن قالت الحكومة إنها مشروع قومي للتنمية البشرية، “تتيح طريقا للمواطن المصري نحو التنمية الذاتية والصحية والتعليمية والرياضية والثقافية والسلوكية، لتقديم مواطن متعلم ومثقف للمجتمع”.

ويرى مراقبون أن هذه المبادرة وما تحمله من تعدد وتنوع في الأهداف والمسارات المتعلقة بها تهدف إلى تحصين الجبهة الداخلية وإيجاد سبل تضمن التفاعل بين الحكومة والمواطنين كبديل عن الأدوار التقليدية للأولى، في خضم مخاوف من أن تواجه الدولة تحديات قد تكون لها تأثيرات سلبية على الاستقرار.

ويشير هؤلاء المراقبون إلى أن المبالغة في الدعاية الإعلامية للمبادرة قبل أن تظهر نتائجها على الأرض سوف تضر بها، وإن كانت تحمل أوجها إيجابية، لأن التعامل معها على أنها تستهدف تصويب صورة الحكومة يسهم في النفور منها، خاصة أن القدرة على تحقيق تغير ملموس في واقع الملايين من المواطنين في حاجة إلى إستراتيجية أكثر شمولية لتأتي على رأس أولويات الدولة من دون أن تظل مبادرة ضمن مبادرات عديدة بعضها حقق نتائج إيجابية، والآخر أخفق في تحقيق أهدافه.

حسام علي: المبادرة تأتي في توقيت يتزامن مع جهود تبذل من أجل القيام بإصلاح سياسي وآخر اقتصادي
حسام علي: المبادرة تأتي في توقيت يتزامن مع جهود تبذل من أجل القيام بإصلاح سياسي وآخر اقتصادي

ولا تنفصل مبادرة “بداية جديدة لبناء الإنسان” عن إطار عام تحتاج فيه الحكومة إلى التفاعل على نحو أكبر مع المواطنين، لأن الموروث الثقافي لديهم يقوم على أن السلطة يقع على عاتقها مساعدتهم في تنظيم شؤون حياتهم، والانسحاب الكبير ستكون نتائج عكسية على تماسك الجبهة الداخلية.

وتقتنع شريحة من المواطنين بأن الحكومة تركتهم فريسة لسياسات رأسمالية مغايرة للمزيج القائم منذ سنوات بين الاشتراكية والرأسمالية، وهو ما ظهر في عدم الثقة بقدرتها للسيطرة على الأسعار كأساس للأدوار الفاعلة التي كانت تقوم بها في السابق مع تحكمها الكبير على مفاصل الأسواق.

وبعثت الحكومة برسائل للمواطنين مفادها أن تراجعها عن الرعاية المباشرة يصاحبه تقديم يد المساعدة لتطوير مهارات المواطنين، ما يجعلهم أكثر قدرة على التفاعل مع تطورات حركة السوق وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية، من منطلق المثل الشهير “لا تعطني سمكة لكن علمني حرفة الصيد”، وتهدف للتأكيد على أن الدعم المباشر في السابق لن يكون له وجود مع السياسات الاقتصادية الراهنة التي تهدف إلى تحرير الاقتصاد وفتح المجال للمزيد من فاعلية القطاع الخاص في المجالات المختلفة.

وكانت فكرة بناء الإنسان المصري على رأس مطالب قوى سياسية ومجتمعية بعد أن أولت الحكومات المتعاقبة في السنوات الماضية اهتماما لبناء الحجر والتطوير العمراني، فيما لم تتخذ خطوات كبيرة لتحسين جودة الصحة والتعليم، وإن كان ذلك يرتبط بقدرات الدولة وكيفية تعاملها مع 28 مليون طالب في مراحل التعليم، والملايين من المترددين على المستشفيات الحكومية والخاصة، وأن تزايد المشكلات الاجتماعية خلق ضرورة تحتم التدخل لإعادة بناء الثقة مع المواطنين.

وقال أستاذ العلوم السياسية بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بالقاهرة حسن سلامة إن اتجاه الدولة للاهتمام بالعنصر البشري بدأ منذ استحداث منصب نائب رئيس الوزراء للتنمية البشرية مع تشكيل حكومة جديدة مطلع يوليو الماضي، وعد ذلك بداية لطريق لم يكن واضحا وبدأ يتبلور الآن، ولدى جهات رسمية قناعة بأن الموارد البشرية لا تعوض ويصعب الاستغناء عنها أو تركها بعيدة عن الاهتمام.

وأضاف لـ”العرب” أن الهدف كسب الشباب وثقل مهاراتهم بما يساعد على مسارات التنمية الأخرى، وتحسين دخلهم المادي، بما يجعلهم يتواءمون مع متطلبات سوق العمل، في وقت تعاني فيه مصر من تحديات إقليمية قاسية.

وأوضح أن أحد مفاهيم الأمن القومي تتعلق بـ”الأمن الفكري” الذي لا يتم تسليط الضوء عليه بشكل كبير، وهناك قناعة بأهمية تحصين الشباب وألاّ يتحولوا إلى طاقة هدم، شريطة أن يكون ذلك عبر دمجهم في مبادرات التدريب والتطوير وألاّ يكون الأمر قائما على التوجيه المباشر الذي لن يأتي بمردودات إيجابية، وأن تكون عوامل كسب الثقة قائمة على تعزيز علاقة الشباب بمؤسسات الدولة.

وأشار سلامة في حديثه لـ”العرب” إلى وجود دوائر رسمية تدرك أن الجبهة الداخلية يجب أن تبقى متماسكة في ظل مواجهة تهديدات أمنية من اتجاهات إستراتيجية مختلفة، لأن التطورات في المحيط الإقليمي ليست واضحة، وتبدو مفتوحة على احتمالات مجهولة، ما يستوجب الاعتماد على جيل يساند السياسات التي تتبعها الدولة، وثمة قناعة بأن القدرة على التأثير السياسي والعسكري لن تتحقق في غياب تماسك الجبهة الداخلية.

◙ الحكومة تجد نفسها أمام تحديات جمة لأن الوصول إلى الملايين من المواطنين في حاجة إلى ميزانيات طائلة

وتجد الحكومة المصرية نفسها أمام تحديات جمة إذا توافرت لديها رغبة لإنجاح المبادرة، لأن الوصول إلى الملايين من المواطنين في حاجة إلى ميزانيات طائلة وقدرة على ضخ تمويلات حكومية كي لا يتم الاعتماد فقط على الجمعيات الأهلية التي تظل إمكانياتها محدودة مقارنة بالحكومة.

كما أن الاكتفاء بالتقارير التي تشير للتأكيد على تدريب مئة ألف شاب دون التعرف على كيفية تأثير التدريب عليهم سوف يجعل الحكومة بعيدة عن تحقيق الأهداف المرجوّة على المستويين السياسي والمجتمعي.

ووضعت المبادرة برامج لجميع المراحل العمرية. وينقسم الأول منها للأطفال من الولادة إلى ستة أعوام، ويهدف إلى تنمية مهارات الأطفال وتشجيعهم على الإبداع، والاهتمام بصحتهم وتقليل معدلات وفيات الأطفال في سن مبكرة، ثم برنامج آخر للفئة العمرية من ستة أعوام حتى 18 عاما، ويتضمن برامج تعليمية وتدريبية لتحسين مهاراتهم وتجهيزهم صحيا وتعليميا وثقافيا وبدنيا لسوق العمل.

وأولت اهتماما ببرنامج الشباب والكبار من سن 18 حتى 65 عاما وما فوق وتشمل برامج تدريبية لرفع القدرات والتأهيل لسوق العمل، وبرامج لدعم كبار السن، والمشاركة المجتمعية، في إطار الحفاظ على القيم التي تمثل الهوية المصرية.

وأكد نائب رئيس كتلة الحوار (حزب تحت التأسيس يقف في منطقة وسط بين المعارضة والموالاة) حسام علي أن المبادرة تأتي في توقيت يتزامن مع جهود تبذل من أجل القيام بإصلاح سياسي وآخر اقتصادي، وأن خلافات سابقة مع الحكومة انتقدت تجاهلها توجيه دفة اهتمامها للشباب وعدم وضع التعليم والصحة على رأس أولوياتها.

وذكر لـ”العرب” أن السلطات تسعى للتأكيد على أن مسار الإصلاح الاجتماعي حاضر أيضا، لأن الشباب في حاجة ماسة إلى إعادة تأهيلهم بما يتماشى مع متطلبات سوق العمل وإعادة تعريفهم بالأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في البلاد حاليا.

وأضاف أن الحكومة تستهدف تحويل الزيادة السكانية إلى قدرات بشرية إيجابية، وهو مسار يحظى بتوافق الجميع، بما في ذلك المعارضة، لأن ابتعاد الشباب عن خطط التنمية وعدم قناعتهم بها ضمن أسباب عزوفهم عن السياسة، ولا توجد ثقة بأن الدولة مستعدة للتواصل والنقاش معهم حول آليات تلك الخطط ودوافع السير فيها.

عاطف مغاوري: نقدّر المبادرات التي تستهدف تحسين جودة حياة المواطنين وتستر عورات عجز الأداء الحكومي
عاطف مغاوري: نقدّر المبادرات التي تستهدف تحسين جودة حياة المواطنين وتستر عورات عجز الأداء الحكومي

ولفت في تصريحه لـ”العرب” إلى أن المشروع الأخير يتزامن مع اتخاذ قرارات إصلاحية في مجال التعليم، لكنها تصطدم بعراقيل، في مقدمتها كيفية الوصول إلى الشباب وإقناعهم أن الدولة تتوجه إليهم لتحسين مهاراتهم، بدلاً من الاهتمام بإنشاء الطرق والكباري فقط، وأن التدريبات التحويلية التي تضمن توجيه الشباب لسوق العمل قد لا تواكب تطورات الصناعة ومساعدتهم في الحصول على هذه الفرص أمر مهم للغاية لكسب الثقة.

وأطلقت المجموعة الوزارية للتنمية البشرية (وتضم وزارات التخطيط والشباب والتعليم العالي والتنمية المحلية والتضامن الاجتماعي والأوقاف والعمل والثقافة والتربية والتعليم والصحة)، مبادرة سفراء التنمية البشرية لتحسين قدرة الأفراد، وتطوير مهاراتهم، وزيادة فرصهم في تحقيق النجاح الشخصي والمهني، ومنحهم فرصة للحوار مع كبار المسؤولين بشكل مباشر، وهؤلاء بعد ذلك سيكون لهم دور رئيسي في التواصل مع المواطنين عبر مبادرة “بداية جديدة لبناء الإنسان".

وأوضح رئيس الهيئة البرلمانية لحزب التجمع اليساري عاطف مغاوري أن حزبه يقدّر جميع المبادرات الرئيسية التي تستهدف تحسين جودة حياة المواطنين وتستر عورات عجز الأداء الحكومي، وأن العائق الأكبر يكمن في مدى استجابة الأجهزة الحكومية لتفعيل المبادرة عمليا، وأن رعايتها من الرئيس أمر ضروري يعزز الاهتمام بها، لكنها قد تصطدم بتعارض مع بعض السياسات الحكومية القائمة حاليا.

وشدد في تصريح لـ”العرب” على أن نجاح المبادرة الذي يطال جزء منها الجانب الصحي في حاجة إلى هيئات حكومية قادرة على استقبال المواطنين والتعامل مع أوضاعهم الصحية، وهو ما يتعارض مع قرارات تسعير الخدمات التي تقدمها المستشفيات التابعة لوزارة الصحة، والوضع كذلك بالنسبة إلى سياسات التعليم التي يتم تعديلها بشكل سريع ولا توجد معرفة بحقيقة الدراسة التي يتم بموجبها اتخاذ قرارات التطوير وعدم تجاوب الحكومة بالشكل الكافي مع عجز المعلمين وتنصلها عبر تقليص عدد المواد الدراسية.

ولفت إلى أن التنمية البشرية في حاجة إلى جهات تقوم بدورها الثقافي، وهي غائبة أو غير فاعلة بالشكل المطلوب، ويجب إنعاش دورها في المبادرة، كذلك الوضع بالنسبة إلى المراكز الشبابية التي يستلزم تطويرها والتعامل مع الفساد المنتشر في بعض المؤسسات الرياضية واستعادة الأنشطة في المدرسة التي غابت عنها مؤخرا.

وكشف أن بنية الطفل واستفادته من البروتين اللازم لتأسيسه صحيا تعاني مشكلات مع ارتفاع معدلات التضخم وعدم الالتزام بالسعرات الحرارية التي يحتاجها جسم الطفل في المراحل العمرية المبكرة ما يجعل الدولة أمام زيادة في معدلات التقزم ونقص التغذية، وهؤلاء الأطفال في حاجة إلى تأمين صحي لعلاجهم، ما يعزز لديهم الصحة الجسمانية.

3