المغربي عبدالنور خرافي لـ"العرب": على العرب الاقتداء باليابان ووضع مشروع للترجمة

العرب لم يصلوا بعد إلى مشروع ترجمة في مستوى بيت حكمة المأمون.
الخميس 2024/09/19
الترجمة لم تكن دوما عملا بريئا

تعد الترجمة نشاطا إنسانيا ظهر قديما لنقل جواهر العلم والمعرفة من لغة المصدر إلى لغة الهدف، ولمد جسور التواصل والتعارف بين الشعوب والأمم. ومن ثم، فالترجمة عملية لغوية ونشاط سوسيوثقافي على حد سواء، يفرضان على المترجم امتلاك القدرة اللغوية من ناحية، والإحاطة الوافية بالبنيات الثقافية للنصوص المزمع ترجمتها من ناحية أخرى.

كتاب “أرخبيلات معرفية في الترجمة” للمفكر والمترجم المغربي عبد النور خرافي أستاذ المثاقفة واللسانيات بجامعة محمد الأول، يعد ثمرة تجربته الطويلة مع الترجمة تنظيرا وممارسة، لذا فهو يقدم مادة معرفية دسمة في الترجمة وعلاقتها بقضايا التنمية المستدامة، والمثاقفة، والبيداغوجية، والتكنولوجيا. ويقف عند آراء المنظرين والمهتمين بالشأن الترجمي، قديما وحديثا؛ فيحللها ويناقشها مناقشة موضوعية هادئة تنأى عن التعصب الفكري الذي يفسد التعايش بين الأمم.

يضمن خرافي كتابه، الصادر عن دار خطوط وظلال، أهم المواضيع الترجمية التي تشغل بال المهتمين بهذا الحقل المعرفي على مر العصور، انطلاقا من حرص المترجمين على نقل معارف الآخر للاستفادة منها في بناء صرح حضاراتهم من ناحية، وبغية استعادة ذواتهم المفقودة في مظان الكتب والرسائل، والمخطوطات من ناحية أخرى، ويرصد في الوقت نفسه أسباب توجس حماة تلك الحضارات خيفة من الانفتاح على الآخر؛ ومن ثم العمل على مد جسور التواصل والحوار من أجل ترسيخ معاني التعايش وحسن الجوار.

الترجمة واليقظة

الكتاب يقف عند آراء المنظرين والمهتمين بالشأن الترجمي، قديما وحديثا، فحللها وناقشها موضوعيا بعيدا عن التعصب الفكري
◙ الكتاب يقف عند آراء المنظرين والمهتمين بالشأن الترجمي، قديما وحديثا، فحللها وناقشها موضوعيا بعيدا عن التعصب الفكري

كما ناقش مزالق الترجمة الدينية وتجلياتها في مسألة المثاقفة من خلال عرض نظرية المعرفة التي تقوم عموما على حقيقتين اثنتين في الكون: حقيقة عقلية مصدرها العقل، يهتم بها الفلاسفة العقلانيون، وحقيقة مادية تجريبية تستند إلى الاختبار والخبرة المرتبطين بالواقع الحسي المباشر، يقول بها الفلاسفة الوضعيون الماديون والحقيقتان كلاهما ترتبطان ارتباطها حتميا باللغة في عرض الواقع وتقطيعه؛ بل إن اللغة هي مفتاح الحقيقة وجسرها الرئيس؛ وإن التأويلات المتباينة التي تخضع لها هي ما يجعل منها كائنا حيا لا يقتصر على نقل الواقع آليا؛ وإنما ينحته نحتا يتوافق مع هوية أصحابها الثقافية والدينية.

يبين خرافي بجلاء ضرورة الترجمة في تحقيق تنمية مستدامة شاملة، من خلال الوقوف عند تجارب العرب القدامى الذين أبدعوا في هذا المجال الذي أضحى علما قائما بذته، يدرس في أعرق الجامعات العالمية، والتساؤل عن تخلفهم ـ مع الأسف ـ عن حمل هذا المشعل التنموي، ومن ثم العبث بالأمانة الفكرية التي تركها لهم المأمون. ثم يتساءل عن مدى استعداد العرب والمسلمين لتجاوز محنة جمود النشاط الترجمي ورغبتهم في الاهتمام بالمترجمين، وبالترجمة ممارسة وتنظيرا، خصوصا ما يتعلق بالجانب التربوي والتكنولوجي.

ويؤكد أن وظيفة الترجمة انتقلت من رسالة التقريب بين الشعوب واللغات إلى حلبة صراع بين القيم الحضارية؛ بين حضارة تدعي لنفسها المعرفة والنضج الذين يسوغان لها السيطرة على العالم ومراكمة مقدراته الاقتصادية وبسط هيمنتها الإيديولوجية الغربية، وبين حضارة مغلوبة على أمرها ترزح تحت وطأة التخلف والتشرذم، وتشكو من الإقصاء والحصار الفكري. ولهذا، فإن الترجمة لم تكن دوما عمال بريئا، بل كانت وما تزال نشاطا تحكمه الميولات الأيديولوجية في كثير من الأحيان.

الأيديولوجية حسب فان دايك هي أنساق من الأفكار، وهي تمثلات مشتركة لمجموعات اجتماعية. وتشمل هاته التمثلات المبادئ والمواقف، والقيم المشتركة التي تحكم سلوكات معينة لهاته المجموعة الاجتماعية. وتبدأ بذور الأيديولوجية في الظهور في العمل الترجمي لما يتم التركيز على اختيار طبيعة المادة التي يقررترجمتها، بدل الانشغال بالكيفية المتبعة في نقل هاته المادة. ولابد من وضع هذا الاختيار في سياقه المؤسسي والاجتماعي والسياسي الذي يعمل ضمنه المترجم، إذ يخضع إلى توجيهات الجهات التي يعمل لصالحها وتفرض عليه تبني ـ عمدا ـ تأويلات مجانبة للصواب.

ويكشف خرافي “لا أنكر أنني عندما أترجم، أحاول التحلي بأعلى نسبة من اليقظة خشية تمرير فكر مسموم يمس هويتي الثقافية والدينية من حيث لا أعلم. وسأكون خائنا لهاته الهوية إذا كنت أدرك جناية مضمون النص عليها، ولم أقم خلال ترجمتي بأي محاولة تقويمية، تضع حدا لهاته الصورة السلبية النمطية في شكل هوامش أو مقدمة تصحيحية قبل الشروع في عملية الترجمة.

◙ الترجمة مسؤولية جسيمة ومطارحة فكرية تتطلب رباطة الجأش، وعدم المحاباة أو المتاجرة بقيم أمة لها جذور حضارية

إن الترجمة مسؤولية جسيمة ومطارحة فكرية تتطلب رباطة الجأش، وعدم المحاباة أو المتاجرة بقيم أمة لها جذور حضارية، يستحيل اجتثاثها. ومن عجز عن المواجهة الفكرية خشية أن تعطل مصالحه، أو بغية الحصول على فتات من الآخر، فليمتهن عملا آخر غير الترجمة، ولا يختبأ وراء العبارة المضللة أحيانا: “ناقل الكفر ليس بكافر”، بل إن ناقل الكفر كافر إذا لم يدفع عن نفسه اتهامات مغرضة تنال من عرضه، ودينه، ومقدرات تراثه الثقافي”.

يتساءل: هل هناك الآن من سبيل إلى ترجمة تعمل على رأب الصدع بين النص الأصلي الحامل إلى مرجعية دينية ثقافية معينة والنص المنقول، فتتحقق المثاقفة المرجوة، أم إن هذا المسعى بعيد المنال؟ ويشير إلى استحالة الترجمة وإمكانها؛ فلكي تتحقق الترجمة خاصة ترجمة النصوص الدينية كالقرآن الكريم والكتب المقدسة الأخرى، لابد أولا من الاستجابة إيجابا إلى السياقات والمقامات الثقافية والدينية من خلال التوفيق بين الترجمة الحرفية والترجمة الحرة دون الإخلال بلب المعنى. وهذا لا شك فيه إقرار بوجود الآخر واحترام له، واعتراف بنسبية الحقيقة الفكرية.

ومن جهة أخرى يرى خرافي أنه لابد لمن يترجم النصوص الدينية أن يكون ذا خلفية دينية عميقة محاولا قدر الإمكان الابتعاد عن الرواسب الإيديولوجية أو الفكرانية بتعبير طه عبدالرحمن. ويستحسن أن يشرح جميع الألفاظ ذات الحمولة الدينية الثقافية في مقدمة العمل المترجم مع نسخها كما هي في اللغة الأصل مثل نسخ لفظ الجلالة االله إلى “Allah” عوض “God” أو “Dieu“، ولفظ “Zakat” عوض “alms“، ولفظ Jihad عوض “War Holy” وغير ذلك من الألفاظ الدينية، ولا بأس أن يضيف المترجم بجانب الكلمة شرحا دقيقا ومختصرا من أجل البيان واحترام الموروث الثقافي الديني للآخر والابتعاد عن سياسة الإقصاء.

النهوض بالترجمة

 الجهود التي تبذل للنهوض بحركة الترجمة باعتبارها رافعة تنموية، وضامنة للإقلاع الحضاري، وتقوم بها مؤسسات ودور نشر ومجلات عربية، فضلا عن تنظيم جوائز محفزة حول أجود الأعمال الترجمية، لكن كل هذه الجهود غير كافية
◙ خرافي يلفت إلى أن الجهود التي تبذل للنهوض بحركة الترجمة باعتبارها رافعة تنموية غير كافية

يلفت خرافي إلى أن الجهود التي تبذل للنهوض بحركة الترجمة باعتبارها رافعة تنموية، وضامنة للإقلاع الحضاري، وتقوم بها مؤسسات ودور نشر ومجلات عربية، فضلا عن تنظيم جوائز محفزة حول أجود الأعمال الترجمية، لكن كل هذه الجهود غير كافية، ويقول “إن العرب لم يصلوا بعد إلى مستوى تحقيق مشروع ترجمة جاد، يعمل على النحو الذي كان يعمل به المأمون في بيت الحكمة، على الرغم من كل المبادرات الطيبة المبذولة لاستعادة دور الترجمة في التنمية العلمية والثقافية.

ولعل الأرقام التي يذكرها شحادة الخوري تطلعنا على جزء من حقيقة هذا الأمر، ذلك بأن ما ترجمه العرب مجتمعين، ما بين السبعينات والثمانينات، لم يكن ليضاهي ـ من حيث عدد الدول ونسبتها ـ ما ترجمه المأمون بمفرده، إذ تمكن من ترجمة 114 كتابا في الفلسفة، و123 كتابا في الرياضيات، و149 كتابا في الطب، في حين لم يتجاوز العرب ترجمة 2840 موزعة على النحو التالي: المعارف العامة 42 ـ الفلسفة 165 ـ الديانات 235 ـ العلوم الاجتماعية 560 ـ اللغات 20 ـ العلوم الأساسية 224 ـ العلوم التطبيقية 184 ـ الفنون الجميلة 93 ـ الآداب 1002 ـ تاريخ وجغرافيا 315.

ويوضح “وفي ظل هذه الإحصائيات غير المتوازنة، يتساءل الباحثان أحمد عنكيت وسعيد فايق في مقالهما الهام “الترجمة في العالم العربي”، “إذا كان المأمون قد تمكن من خلق ثقافة ترجمة، أفضت إلى ترجمة مئات الكتب، في وقت كان فيه استيعاب هاته الكتب وترجمتها، عملية مرهقة ومستهلكة للوقت، فإن المرء قد يتساءل عن سبب ترجمة ست عشرة دولة عربية، 2840 عملا فقط، على الرغم من توافر كل التقنيات الحديثة رهن إشارتها؟”. إن سر النجاح يكمن ـ لا محالة ـ في الكد والمثابرة، كما أشار إلى ذلك الخوري في ذلك العهد مجامع لغوية أو لجان جامعية أو مكاتب تعريب أو دوائر معاجم، ولذا كان جهد الفرد النابه هو الذي يعوض عن ذلك كله ويسد سده”.

◙ الوضعية الراهنة لحركة الترجمة بالبلاد العربية تشكو ضعف الاهتمام المؤسسي بها رغم أهميتها في تحقيق التنمية

ويؤكد خرافي أن الوضعية الراهنة لحركة الترجمة بالبلاد العربية تشكو ضعف الاهتمام المؤسسي بها؛ فالمراكز موجودة، ولكنها ـ بتعبير شوقي جلال ـ “جزر منعزلة تعمل دون تنسيق لرؤية مشتركة”. من أجل ذلك، تدعو الحاجة إلى اتخاذ تدابير عاجلة لتجاوز الأزمة؛ لابد من الاقتداء باليابان حين أحست بجفاف ينابيع مدخراتها من العلم والمعرفة، وعجزها عن مواكبة عصر التقانة الجديد، فصّممت على اللحاق بالركب الحضاري المتقدم، من خلال انصرافها إلى تعليم اللغات الأجنبية الغربية، متخذة شعار “أمة غنية، وجيش قوي”، لتحقيق هذا المسعى.

 ثم أصلحت التعليم، متوسلة في الوقت نفسه بتنشيط حركة البعثات التعليمية والتكنولوجية وأنشأت حركة ترجمة شاملة، تمكن اليابانيون من خلالها من الاطلاع على الفكر والعلم الأوروبيين، بلغت عدد عناوينها المترجمة في مستهل القرن العشرين، زهاء ألف وسبعمئة عنوان سنويا. وقد قام الاتحاد السوفييتي السابق بالخطوة ذاتها حينما قرر التخلص من التخلف، حيث أنشأ لينين جهازا للترجمة ضم أكثر من مئة ألف مترجم لنقل علوم الغرب إلى اللغة الروسية. والمدهش أن “لينين” وقف بنفسه على هذا الجهاز إلى أن أصبح الاتحاد السوفييتي المنهار، قوة عظيمة في مصاف المتحضرين. ويذكر أن الاتحاد السوفييتي كان يضم أكثر من مليوني مترجم عن جميع لغات العالم قبل تفكك عراه.

ويبين أن تحقيق التنمية رهين بشكل كبير بارتقائنا بحركة الترجمة في شتى التخصصات، ولهذا لابد من إنشاء كليات وجامعات تهتم حصريا بالترجمة (باعتبارها تخصصا مستقلا يُدرس في أقسام أو شعب مستقلة) كما جرى في طليطلة التي تعد مختبر الغرب في الترجمة. وينبغي أيضا إنشاء مراكز ترجمة لإعداد جيل جديد من المترجمين، ومراكز تنسيق وتدريب موازية (مع تفعيل نشاطاتها طبعا)، ونسج شراكات بين كل ألسنة العالم لتلبية حاجة السوق المعرفية الفقيرة. ولابد من أن تكون الترجمة مشروع أمة، ترعاه بالمال والمؤطرين، وليس مشروع دولة بمفردها أو أفراد متفرقين هنا وهناك، يشتكون التعب جراء الكم الهائل من الأعمال المعروضة عليهم لإنجازها، في غياب فريق بحث يتولى العمل بشكل جماعي ومسؤول.

12