من الحب ما قتل

نحن في دول لا تنظر إلى الطفل المخطئ بعين المصلح بل بعين المعاقب، وعوض أن تخضعه لعلاج نفسي، ستحمله إلى السجون، حيث سيكبر ويعيش ويتعلم أنه مجرم.
الأربعاء 2024/09/18
الوسط المدرسي يسجّل سنويا بين 13 و21 ألف حالة عنف

“من الحب ما قتل”، مثل شعبي رائج في أغلب الدول العربية، يتجسد من حين إلى آخر على أرض الواقع، فكم من عاشق قتل نفسه بعد أن سئم وصال محبوبه، وكم من زوج أنهى حياة زوجته من شدة العشق والغيرة، وكم من حروب يذكرها التاريخ دفعت بنار الغرام.

هذه المرة يتجسد لنا المثل على أرض تونس، حيث أقدم أحد التلاميذ على قتل زميله في الدراسة بسبب خلاف حول فتاة تدرس مع الضحية.

استنجد المعتدي بصديق له، ليوجها عددا من اللكمات للضحية على مستوى البطن والرأس، إحداها تسببت في وفاته على عين المكان، دون أن يحرك أحد بالجوار ساكنا، وإنه لأمر غريب أننا وصلنا إلى درجة من اللامبالاة بما يدور من حولنا من سلوكيات، حتى تلك الصادرة من أطفال.

في صبيحة العودة المدرسية للعام الحالي، التي وافقت هذا العام السادس عشر من سبتمبر الجاري، وبينما تعالت الأصوات المنددة بتوقيت الدراسة المجهد للتلميذ والمنظومة التعليمية المهترئة، واختار البعض التذكير بارتفاع مستوى العنف في المؤسسات التربوية، اهتزت تونس على خبر مقتل التلميذ الذي جاء محبطا لكل الآمال، فإلى أين تسير المؤسسات التعليمية وهي عاجزة عن ضمان سلامة التلاميذ حتى في أول أيام العودة المدرسية؟

قد يستغرب البعض هذا السؤال، لكن أغلبنا مر بتجربة الدراسة، ونذكر جيدا كيف كان وقع العودة المدرسية على أنفسنا، وكيف كان الجميع يظهر انضباطا في أول أيامها، وحتى أسبوعها الأول، فهو عادة أسبوع للتعارف بين التلاميذ والأساتذة، وتجديد للقاء بين التلاميذ وزملائهم.

لكن منذ سنوات قليلة، يبدو أن الحب والكره أصبحا يدفعان التلاميذ إلى القتل، فقد انتهت السنة التعليمية الماضية بحوادث قتل تلاميذ لزملائهم، أحدهم قتل بركلة كاراتيه.

وشهدت عدة مؤسسات تربوية عدة حوادث عنف ارتكبها تلاميذ ضدّ مربيهم أيضا، إما داخل الفصل أو في ساحة المؤسسة، بعضها تم فيها استعمال الأسلحة البيضاء كالسكين أو السيف أو الساطور. نعم، استعمل التلاميذ الأسلحة البيضاء، وكأننا نشاهد فيلما هنديا أو نحن داخل حي شعبي ولسنا داخل فصل دراسي.

ورغم هذا الخطر المتنامي، لا تزال الدولة تقلل من شأن الوقائع وتعتبرها دون المعدلات العالمية ولا تتخذ خططا للحد منها ولتوجيه سلوك الطلبة خاصة مع الانفتاح التكنولوجي الهائل الذي يجعل من حسن تنشئة الأجيال الجديدة مسألة أكثر صعوبة على العائلات.

وتفيد معطيات وزارة التربية بأن الوسط المدرسي يسجّل سنويا بين 13 و21 ألف حالة عنف خاصة منها المدارس الإعدادية والمعاهد، مقدرة بأن هذه النسبة تتراوح بين 1.7 و2 في المئة، لكنها تذكر أيضا أن هذه النسب دون المعدلات العالمية للعنف في الوسط المدرسي.

إنه لأمر مضحك أن نكتفي بإصدار المؤشرات ومقارنتها بالمعدلات العالمية، ونحن في بلد لا يتعدى عدد سكانه مدينة من مدن بعض الدول المجاورة. أمر مضحك رغم مرارته، أن لا تعتمد الدولة مقاربة إستراتيجية وطنية وتطبقها للحد من العنف في الوسط المدرسي وتعديل سلوك التلاميذ.

الأكثر خطورة، أن التلميذ الذي ارتكب حادثة القتل سيوجه رفقة زميله إلى “الإصلاحية” (مركز إصلاح الأطفال الجانحين)، طبعا إن كان سنهما دون 18 سنة، حيث سيقضيان ما أمكن من الوقت حتى بلوغهما السن القانونية ثم ينقلان إلى السجون المدنية، حيث يتعلمان الإجرام داخلها “على أصوله”.

نحن في دول لا تنظر إلى الطفل المخطئ بعين المصلح بل بعين المعاقب، وعوض أن تخضعه لعلاج نفسي، ستحمله على وجه السرعة إلى السجون، حيث سيكبر ويعيش ويتعلم أنه مجرم أحب فقتل، ويخرج علينا بعد سنوات كارها للبلد ومن فيها، وربما كارها للحب أيضا.

18