الخط العربي يصنع استعاراته الخاصة ويبتكر رموزا غير مألوفة

الخطاط براء صالح: الخط العربي بدأ بالكتابة وانتهى إلى فن متجدد.
الأحد 2024/09/15
وظيفة الخط تغيرت كثيرا

تطور الخط العربي بشكل كبير؛ إذ غيّر حتى وظائفه ليأخذ له طريقا فنيا مختلفا عن مهمته الأولى، ألا وهي الكتابة ونقل الخطاب، ليصبح فنا مستقلا يولد المعنى ويستنطقه ويخرج بتمثلات جديدة ومختلفة تذهب أكثر ناحية التأويل. وهذا التطور الكبير الذي فتح آفاق الخط العربي ليصبح جمالية عالمية لم يأت من فراغ أو صدفة.

حظي الخط العربي بنصيب وافر من الإبداعات الفنية التي أتاحت له التحولات في بنيته التكوينية، فقد انتقل من البعد الوظيفي القرائي إلى ما بعده من أبعاد جمالية وتعبيرية، أسهمت في الإنضاج النوعي التصميمي لدى الخطاط، ليكون بذلك التحول فكرة تسهم في تطور فنون الخط العربي، ومواكبته باقي الفنون الأخرى؛ وعليه فقد استطاع الخطاط الانتقال إلى الاستفادة من الاستعارات الأيقونية في توظيفها ضمن تكوينات تعكس صورة مجسدة من الواقع.

حول فلسفة التكوين الخطي يقدم الباحث والخطاط والمزخرف براء صالح عبدالقادر محمد، الأستاذ في كلية الفنون الجميلة ببغداد، ثلاثية بحثية تحليلية، جاءت في ثلاثة أجزاء صدرت أخيرا عن دار خطوط وظلال الأردنية، الكتاب الأول حمل عنوان “فلسفة التكوين الخطي: بين الاستعارة التصميمية ودلالة المعنى”، والثاني “فلسفة التكوين الخطي على وفق مستحدثات النقد والتحليل (البنيوية – السيمياء – التأويل – التفكيك)”، والثالث “فلسفة التكوين الخطي بين إستراتيجية التفكير – وعوامل المهارة وخصائص التجويد في البنية التصميمية”.

تطور فن الخط

f

يوضح براء صالح أن التكوين الخطي يتصف بأنه البنية التصميمية التي تحتوي العناصر الخطية ونسقها في بنية التصميم الخطي، فهو “بنية تصميمية ممثلة تقوم على تنظيم الدوال اللغوية الخطية علاميا في ضوء دلالات مضامين كمؤولات مباشرة أو دينامية تحيل على موضوعاتها تواضعيا” بموجب قانون أو عرف “أو عبر علامة مشابهة”؛ أي إن البنية التصميمية تحتوي مضامين العناصر الخطية التي تنظم العمليات الفكرية داخل التكوين الخطي ككل جامع لمحتوى الشكل العام، ولهذا تكون “عملية تنظيم وتأليف وبناء تلك العناصر المرئية (الحروف، والكلمات، والمقاطع، والشكل”.

وهذا يعني أن التكوين الخطي هو المحيط الذي يجمع أنساق العناصر الظاهرة في تشكيل كفافي لمحتوى الشكل العام ويفسره ويظهره بشكل مرئي. وبهذا يمكن القول إن التكوين الخطي يمثل هيئة التكوين الخطية والمصنفة إلى هيئات هندسية منتظمة كالتكوينات: المستطيلة، والمثلثة، والمربعة، والدائرية.. إلخ، أو غير المنتظمة كالتكوينات الحرة التي لا تخضع لهيئة التكوينات الهندسية، وهي على أشكال عدة، كـ: التكوينات الأيقونية، والتكوينات ذات التصرف الإنشائي الحر.

ويؤكد أن الخط العربي نال نصيبا وافرا من حيث أهميته كبعد وظيفي في كتابة المدونات من القرآن الكريم أو ما يخص شؤون الحكم والسياسة أو الحياة الاجتماعية.. إلخ، فكان أول أمره، أي في صدر الإسلام وما بعده، يمتاز بالبساطة في التكوين أي استخدام “التكوين السطري” ذي الصفة القرائية التي تمتاز بالوضوح والمقروئية، إلا أنه بعد قرون تطور من خلال مروره بمراحل انتقالية تطويرية زادته بهجة وجمالا.

وبات الخط العربي يسعى إلى الاهتمام بالجوانب الجمالية والتزيينية من خلال توظيف الخط في خامات مختلفة، فوقع مثلا توظيفه في العمارة كعنصر جمالي وإيحائي، لذلك دعت الحاجة الى تطوير هذا الميدان بالانتقال من الجانب الوظيفي القرائي إلى الجمالي الذي يتمثل في “التكوينات المتراكبة الهندسية”، التي تتصف بهيئة منتظمة هندسيا، وهي عملية تراكب الحروف فيما بينها لتشكل وحدة تمتاز بالتداخل والتشابك الذي يؤطر داخل حيز معين هندسي الشكل، وتعبر عن صفة قد امتاز بها الخط العربي دون غيره من باقي الخطوط.

مراحل التفكير بالعمل الفني من أولويات الخطاط في تجسيد البنية التصميمية للوحة الخطية، وهي مراحل متتالية ومهمة

ويضيف الباحث “بعدها انتقل الخط العربي إلى جانب أكثر إبداعا وتألقا من خلال انتقاله إلى البعد الدلالي أو البعد التعبيري، وهو أقصى المديات الفنية التي وصل إليها الخط العربي من تجسيد أو محاكاة لواقع افتراضي موجود في البيئة التي تحيطنا، وهو أن يقوم الخطاط بفعل عقلي باستنباط ما موجود من علامات في النص ليقوم بتقليدها أو محاكاتها من خلال تطويع الدوال الخطية في هيئة محددة أيقونية لتمثل واقع الشبه والعلاقة الترابطية بين الدال والمدلول، وعلى الرغم من أنها تتصف بالصعوبة والتعقيد إلا أن الخطاط قد استطاع نسبيا تحقيق ما يصبو إليه، وإن اختلفت الفاعلية من فكرة تصميمية إلى أخرى من خلال الإجادة في تشبيه هذه الصفة أو تقاربها من بين الدال والمدلول وإمكانية الربط بينهما، ومقدار ما بينهما من علاقة ترابطية، فقد تكون قريبة أو بعيدة أو مخالفة أو ضعيفة”.

هذه المواضيع المهمة يجتهد فيها براء صالح ليسلط الضوء عليها من خلال إطار نظري وشرح تفاصيله المبهمة وتوضيحه للمتلقي والدارس، حيث قام بوضع ضوابط تمثل بشكل تقديري فاعلية الاستعارة من خلال دلالاتها وعلاماتها النصية في تمثيل الشكل المستعار، وتبيان المدى والتفاوت بين الأشكال المستعارة، وكمية النص العددية من كلمات، فحيثما زادت الكلمات زادت العلامات أو قلت، فكان لزاما توضيحها للمتلقي من خلال درجات الإجادة، بهذا تكون الأشكال الأيقونية خاضعة لتصنيف يمثلها حسب درجات متفاوتة يمكن الاتفاق عليها من خلال هذه الضواط.

ويضيف أن الخطاط استطاع الانتقال إلى الاستفادة من الاستعارات الأيقونية في توظيفها ضمن تكوينات تعكس صورة مجسدة من الواقع، وكانت هذه المنجزات الخطية التي استحدثها الخطاط ليعبر عن واقع دلالي يتجسد بما يأتي: الأول هو للدلالة على ما يمتلكه من مهارة وموهبة تؤهله لمثل هكذا أعمال تصميمية تمتاز بالصعوبة والدقة في التشبيه، ما يدل على أن هذا العمل لا يمكن لغير المتمكن من أصول وقواعد الخط العربي أن يلجه. الثاني هو للتقرب من الصفة الدالة لجوهر المعنى الذي يمتاز بعلاقة ترابطية مع الدوال الخطية، ومدى إمكانية إنشاء هذه العلاقة وترابطها، وهو بذلك الفعل يحيلنا إلى مظاهر من الإثارة وجذب النظر والابتعاد عما هو تقليدي؛ إذ إن الاستعارة في تكوينات الخط العربي وما تحتويه من مفاهيم “أيقونية”، فهي بالتالي تعد إنجازات فنية تحاكي المتلقي من خلال القدرة الإيصالية والمعروفة بـ “الفاعلية” بين الدال والمدلول وما بين المديات الانعكاسية على المشاهد وإمكانية قبوله لها.

الشكل والمضمون

t
براء صالح يرى أن التكوين الخطي إبداع فني إسلامي متجدد

يشير المؤلف إلى أن من أهم آليات التكيف التي لجأ إليها الخطاط في التكوينات الخطية هي الاستعانة بالاستعارة الشكلية، كأن تكون استعارة من صورة معروفة ومألوفة يقوم الخطاط باقتباسها وتوظيفها في عمله الخطي، لتشير إلى فعل جديد مركب ما بين مهارة التنفيذ وقدرته على تحقيق وتوصيل الفكرة التعبيرية المستعارة.

ويمكن القول إن لجوء الخطاط إلى توظيف الاستعارة الشكلية للغاية القصوى التي ترتبط بالإبداع، إذ يتفق علماء النفس على أن الإبداع هو حالة متميزة من النشاط الإنساني يترتب عليها إنتاج جديد يتميز بالجدة والأصالة والتكيف، كما أن الجماعة التي يوجه إليها هذا الإنتاج تميل إلى قبوله على أنه مقنع ومفيد. فتكون صفة الإبداع خاصية للتعبير والارتقاء الابتكاري الذي يجسده الخطاط من خلال فاعلية الاستعارة.

ويتمثل الإبداع بأن تكون للخطاط حالة من الاستعداد النفسي والعاطفي، إذ إن هذا الاستعداد يولد لديه فكرة ما تستوجب التعبير عنها بشكل مادي مرئي وملموس، فيستدعي الفنان/ الخطاط عند ذلك خزينه من الصور والأشكال من خلال العلاقات في ذاكرته. فيقوم بعملية الربط بين إحدى تلك الصور والرمز حدسيا، عندها يأتي دور المادة في تجسيد الأيقونة ومن خلال وعي الفنان وخبراته التراكمية يخضع الشكل الأصلي إلى الكثير من التعديلات ليصبح أكثر ملاءمة لتلك الفكرة.

ويرى براء صالح أن التكوين الخطي إبداع فني إسلامي متجدد، نشأ في ظروف عربية إسلامية، وأسهمت في بروزه واختلاف أشكاله وتطور أساليبه التجويدية في مساراته وفق الرؤية الفلسفية التي حملها الفنان الخطاط، والذي بدوره أرسى به نحو الاتجاه الجمالي الإبداعي، فقيل في الخط العربي إنه “هندسة روحية ظهرت بآلة جسدية”، وهذه إشارة توضح حقيقة الخط الفلسفية؛ لأنها تبرز العلاقة الوطيدة بمفهومها الحاصل بين الحس من خلال الروح والتجويد من خلال الجسد.

الخطاط استطاع الانتقال إلى الاستفادة من الاستعارات الأيقونية في توظيفها ضمن تكوينات تعكس صورة مجسدة من الواقع

يتأثر الفكر بتأثر وتوجه الرؤية البصرية وبإدراكه لعوامل يحكمها التنظيم الشكلي، فينصب وفق عاملين، هما: الأسس الجمالية في الخط العربي، والتكوين الخطي وفلسفته.

وفي ضوء توظيف الخط العربي لخصائص شكلية أساسية “تصميمية وتنظيمية” قادرة على إيصال المفاهيم البصرية، نجد بالإمكان توظيفها فكريا وإدراكيا وفق أسس جمالية عنت الخط العربي وأولته اهتماما وتنظيما، فأسهمت في إبراز الخصائص والقيم الجمالية التي من خلالها يرتكز الإنشاء البنائي للفكرة التصميمية في اللوحة الخطية على توافق الشكل بكل عناصره، والمضمون الذي يحدده خيال الخطاط المصمم، وأن “أي اختلاف في ذلك التوافق بين الشكل والمضمون من شأنه جعل العمل الفني إما شكليا خالصا، وبالتالي يجنح نحو الزخرفة المسطحة، وإما وسيطا سلبيا يحمل مضمونا تعبيريا، وبالتالي يتحول إلى نتاج خبري، ينتهي تأثره بانتهاء ظروف ما يعبر عنه”.

ويقول إن الشكل والمضمون يعدان ذا قيمة مهمة داخل العمل الفني “اللوحة الخطية”، فهو تجسيد الابتكار الذي يحاكي به مضمون المعنى الداخلي الذي هو أقصى قدرات إستراتيجية التفكير والتأمل والمهارة، وهو تأكيد على قدرات الارتباط بالقراءة الباطنية للنص أو ما يسمى بـ”القراءة المحايثة” وهي قراءة باطن النص، ليس من خلال الانحباس داخل النص فحسب، وإنما من خلال الانتقال بين داخل النص وخارجه انتقالات موضوعية، إذ ينتقل السؤال فيها من “طبقة” معرفية إلى أخرى.

مراحل العمل الفني

هندسة روحية ظهرت بآلة جسدية
هندسة روحية ظهرت بآلة جسدية

إن مراحل التفكير بالعمل الفني من أولويات الخطاط في تجسيد البنية التصميمية للوحة الخطية وهي مراحل متتالية مهمة، فأي عمل فني يتصف بالإبداع يرتبط ارتباطا وثيقا بشخصية الخطاط المبدع كونه أحد نتاجاته التي تتحضر في عقله لفكرة أي عمل من الأعمال الفنية، وانتهاء بإنتاج العمل الفني، وهناك “منهجان لهذه العملية: المنهج التفصيلي، والمنهج التتابعي. فالأول يعني وضع تصميم متكامل للعمل الفني من خلال تحديد الخطوات التي سيمر بها خطوة بخطوة حتى نهاية المطاف، والثاني يعني وضع الخطوات الأولى أو تحديدها، التي تعني بحسب اعتقاده أنها ستؤدي إلى الخطوة الثانية، والتي بدورها توضح الخطوة الثالثة، وهكذا… إلخ، إلى أن تكتمل جميع خطوات العمل”.

وقد تكون هذه القدرات للتفكير متوافرة في كل إنسان، إلا أنها تختلف من فرد إلى آخر، بمعنى آخر إن هذه الفروق الموجودة سواء أكانت بين الأفراد أو الجماعات هي فروق في درجات التفكير، وكل منها تخضع لمراحل التفكير في العمل الفني “اللوحة الخطية”، وهي كما يأتي: أولا مرحلة التبصر: وهي مرحلة تفهم المشكلة التصميمية.

التكوين الخطي إبداع فني إسلامي متجدد نشأ في ظروف عربية إسلامية أسهمت في بروزه واختلاف أشكاله وتطوره

ثانيا مرحلة الإعداد: تتعدد تسمية هذه المرحلة، فقد أطلق عليها المختصون: الإعداد، والتحضير، والتهيؤ، ولكن عموما تعني “دراسة المشكلة بالاضطلاع والخبرة والتجربة”. ثالثا مرحلة الحضانة: مرحلة المجهود الفكري غير المدرك، أو ما يسمى بعمل العقل الباطن، فبعد عمل العقل المدرك فى مرحلة الإعداد، تبدأ مرحلة من النشاط غير الحسي، وهنا يأتي دور الإلهام الذي لا يأتى إلا إذا بدأ العقل الباطن فى العمل وتسمى أيضا بمرحلة الاختمار، أو الإحباط، وتتضمن “الاستيعاب لكل المعلومات والخبرات المكتسبة الملائمة وهضمها أو تمثيلها عقليا”.

رابعا مرحلة الإشراق: وتتسم ببذل وافر الجهد لحل المعضلة الأساسية أو المشكلة الجوهرية، وتسمى أيضا مرحلة: الإلهام، والبصيرة، والبزوغ، والوميض، “وهذه المرحلة تتضمن انبثاق شرارة الابتكار، وهذه اللحظة تنبثق فيها الفكرة الجديدة”.

خامسا مرحلة التحقق: وتتضمن الاختبار التجريبي للفكرة المبتكرة وبناء وتفصيل الفكرة العامة الناتجة من البحث السابق، ولا تعد مرحلة الإشراق مقبولة إلا اذا مرت بمرحلة التحقيق والتحقق، “وتتضمن المادة الخام الناتجة من البحث السابق، ومن الاستبصار الذي يكون في حواره النهائي، ويتم إخضاع هذه المادة للتحقيق فيما إذا كانت صحيحة، فإذا كانت هذه المادة مشروعا، فإن الباحث يتحقق من صلاحيته في التطبيق العملي”.

11