مصطفى عبيد لـ"العرب": أتساءل حول جواز ممارسة الجنس لخدمة الوطن

تعيد الكثير من الأعمال الروائية النبش في التاريخ واستعادة الأحداث والشخصيات لاستنطاق الواقع والوقائع من خلال الخيال الروائي، وهي لعبة خطرة قد تسقط الكاتب في التزييف أو الاصطفاف أو سبغ آرائه على التاريخ، وغيرها من مغالطات، قليلون هم الناجون منها. “العرب” كان لها هذا الحوار مع الكاتب المصري مصطفى عبيد الذي يعي جيدا خطورة استحضار التاريخ وأهميته.
القاهرة - الباحثون عن الحقيقة بجد واجتهاد ليسوا كثرا، وأغلبهم يختارون الانحياز. ووفقا لقناعتهم وفكرهم يصنفون الأحداث، وقد يخفون من الحقائق ما يعرفونه إذا ما وجدوا أنه يعارض وجهة نظرهم، رغم أن الكل بشر، حكاما ومحكومين، ولا ملائكة أو شياطين من الناس، فالكل يصيب ويخطئ، لكن المرء أيضا لا يعدم الصادقين الموضوعيين، المجاهرين بالتنقل بين منعطفات الآراء، ولا عجب، فللحقيقة دوما رجال.
مصطفى عبيد، كاتب وروائي مصري، صدر له 22 كتابا، أغلبها في مجال البحث التاريخي، نُشرت له عن الدار المصرية اللبنانية للنشر والتوزيع في القاهرة مؤخرا رواية بعنوان “ابنة الديكتاتور”، وعلى غلافها عبارة “مستوحاة من أحداث حقيقية طمست عن عمد”، وصورة سيدة جميلة تمسك بصحيفة تظهر بها صورة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، ما أثار الجدل حول الشخصية الحقيقية التي استوحت منها الرواية أحداثها.
ويكشف مصطفى عبيد في حديثه مع “العرب” الهدف من روايته قائلا “إنه لم يستهدف الحديث عن شخصية حقيقية بعينها بقدر ما أراد أن يطرح تساؤلا منطقيا حول المدى الذي يمكن أن يصل إليه الإنسان للتضحية في سبيل وطنه، فالتضحية الشهيرة المعروفة هي الاستشهاد في سبيل الوطن، لكن أحدا لم يطرح السؤال حول ما إذا كان ممكنا أن يفرط الإنسان في أخلاقه ومبادئه ومسلماته القيمية في سبيل ما يعتقد أنه يحقق مصلحة الوطن. والسؤال التالي المهم أيضا هو هل كل ما يطرح باعتباره تضحيات في سبيل الوطن هو بالفعل كذلك؟”
زيارات جديدة للتاريخ
تدور أحداث الرواية حول بطلتها التي تحمل اسم سناء بكاش، وهي فتاة جميلة تم تجنيدها خلال عهد الملك فاروق في مصر لتكون عينا لجهاز المباحث “القلم السياسي” داخل أوساط الأدباء والمثقفين. وبعد قيام ثورة يوليو 1952 والتحول من الملكية إلى الجمهورية، لم يتم استبعاد السيدة بل استخدمت على نطاق أوسع، وقامت بعمل سري كبير.
يقول عبيد لـ”االعرب”: “باعتبار أنني باحث في التاريخ مهتم بالتنقيب عما هو مستتر أو مهمش أو منسي، وجدتُ شخصيات كثيرة يمكن الاستعانة بها لطرح تساؤلاتي وليس مجرد شخصية واحدة بعينها كالتي تتحدث عنها الرواية، وهي شخصية حقيقية بالفعل وكانت يوما ما ملء السمع والبصر، فرأيتُ أنها الأجدر بالاستخدام في الرواية لأنها مارست تدنيا أخلاقيا غير مسبوق، من شأنه أن يصيب أي إنسان بالتقزز، رغم أن الغاية الأساسية لما فعلته كان خدمة الوطن”.
ويستبعد الكاتب المصري إمكانية ظهور مشكلات قانونية بسبب الرواية، لأنه لا يتحدث عن شخصية معينة باسمها، وإن كانت البطلة مستوحاة من شخصية حقيقية، وهو مستعد لمواجهة من يستطيع إثبات أنها المقصودة بشكل يقيني، قائلا إنه استشار في ذلك عددا من القانونيين، كما أن الرواية صادرة في نشر كبيرة تحترم المهنية وتلتزم بالقواعد القانونية في النشر.
ويلفت عبيد إلى أنه يهتم بالأغلفة في كتبه ويؤمن بأن الغلاف يجب أن يكون جاذبا، إعدادا وتخطيطا وتجريبا، والغلاف الموضوع على رواية “ابنة الدكتاتور” هو النسخة السادسة مما فكر فيه مع الكاتب الروائي أحمد مراد مصمم غلاف رواية “ابنة الديكتاتور”.
ويضيف “مراد هو مستشاري الإبداعي وصديق العمر، ونتبادل الأفكار معا باستمرار، وصمم معظم أغلفة كتبي السابقة، وهو عندما يصمم الغلاف يستمع لي ويشاركني حتى في أفكار وأطروحات السرد الروائي باعتباره روائيا له بصمات مهمة وصاحب خط عظيم ومهم في الرواية العربية الحديثة”.
وحول وجود صورة الرئيس جمال عبدالناصر على الغلاف، يؤكد الكاتب المصري أن صورة الجريدة الموجودة على الغلاف ليست مصطنعة، إنما حقيقية من أحد أعداد جريدة الأهرام، وبه عنوان “سقوط أسرة محمد علي”، فلم يتم اختلاق أو اصطناع صورة جمال عبدالناصر.
ويوضح أن الفكرة الأساسية كانت وضع الجمال الشديد والعينين اللتين تحملان إغراءً أنثويا، مع السياسة، في لحظة تحول كبيرة وغير مسبوقة في التاريخ السياسي لمصر وهي التحول من دولة ملكية إلى جمهورية.
بطلة الرواية شخصية حقيقية بالفعل وكانت يوما ما ملء السمع والبصر وقد أعاد استحضارها الكاتب لاستنطاق التاريخ
نسأل الكاتب والباحث عبيد عما إذا كان يشير بروايته إلى القضية الشهيرة المعروفة باسم “قضية انحراف المخابرات” خلال فترة الستينات، التي شهدت محاكمة قيادات الجهاز الأمني عن أعمال ضمت تجنيد سيدات للقيام بممارسة الجنس بهدف التجسس وجمع المعلومات.
ليقول “أتصور أن هذه ليست وقائع مختلقة في التاريخ لأنها مثبتة بوثائق موجودة في أرشيف الجهاز القومي للوثائق، فهي قضية معروفة وشهيرة وتدل على شيء مهم للغاية وهو أن كل مؤسسة أنشأها بشر من الوارد أن تتعرض لانحراف أو تغيير المسار أو خروج عن مقتضى عملها الأساسي، لكنها سرعان ما تصحح نفسها بالتحقيق والرقابة والمراجعة”.
ورغم تحفظ الكاتب على شخصية الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وعصره، فهو يعتبر أن هذه القضية تحسب له، لأنه حقق في هذه الوقائع وطرحها للعلن، فالحديث عن هذه القضية ليس محرما أو ممنوعا، إنما يمكن استخدامه بشكل مثالي في الفن والدراما، وسبق أن تم تناولها في أعمال سينمائية كثيرة.
مصطفى عبيد كاتب صاحب مشروع جاد هدفه محاولة قراءة التاريخ بموضوعية، وإزاحة التراب عما يتم إخفاؤه من أحداث ووقائع تحت تأثير الانحيازات والأيديولوجيات، بأسلوب سلس رشيق بسيط، في كتبه التاريخية أو رواياته الخيالية.
ويرى أن التاريخ يكرر نفسه في الأمم المتخلفة والمتحضرة، وأنه معقد إلى درجة كبيرة حتى أنك لا تستطيع وضع قوانين عامة يمكن من خلالها فهمه وإدراك مساراته، لكننا مطالبون بالتعلم والقراءة ووضع سيناريوهات للمستقبل بناء على مضى، فالدول الراشدة تفكر دائما في الغد وتستخدم الماضي لقراءة المستقبل ووضع تصورات عن كيفية التصرف والتعامل مع ما هو قادم.
ولا يعتبر أن التاريخ يكتبه المنتصرون فقط، وفقا للمقولة الشائعة، إنما يكتبه المنهزمون أيضا، في رأيه، لكن هناك أوقاتا يكتب فيها المنتصرون التاريخ، وأوقاتا أخرى يتغير فيها مساره.
ويدلل على ذلك بضرب الأمثلة، ومنها أدهم الشرقاوي، وهو لص وقاطع طريق مشهور في فترة العشرينات بمصر، وتم قتله في مطاردة مع الشرطة، لكن الحس الشعبي رفض رواية السلطة في ذلك الوقت وهي الطرف المنتصر، وانتصر بروايته الشائعة حتى الآن في ذهنية المصريين وهي أن الشرقاوي بطل وليس لصا، وكذلك ياسين عاشق بهية، حوله الموال الشعبي إلى رجل شهم وشجاع وبطل، لكنه في حقيقة الأمر قاطع طريق، فلا قواعد عامة في التاريخ يمكن الارتكان إليها.
"ابنة الديكتاتور" لم يكتبها عبيد بهدف تقديم تاريخ إنما وظف بعض اللمحات والأحداث المهمشة تاريخيا لطرح تساؤله
ويضع المفكر الفرنسي جوستاف لوبون في كتابه المرجعي “سيكولوجية الجماهير” توصيفا لسلوك الشعوب أو الجماهير وتعاملها مع السلطات الحاكمة والشعارات السياسية التي تطلقها، فيقول إن الجماهير تنفعل ولا تفكر، تتأثر بالشعارات ولا تعقل الأفكار.
ويتفهم مصطفى عبيد فكرة الشعارات الرابحة عند لوبون، لكنه يعبر عن تصوره أن الشعارات تربح في زمان إنتاجها فقط خاصة لو كانت نتاج السلطة، لكنها فيما بعد يكن أن يُستهزأ بها وتتحول إلى مثار سخرية، فمثلا عقب ثورة 23 يوليو 1952 أطلق شعار شهير هو “ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد”، وبعد خمس أو ست سنوات تحول هذا الشعار في كتابات بعض المعتقلين السياسيين إلى “ارفع رأسك يا أخي حتى يسهل لنا قطفه”.
وسعيا إلى رفع وعي الجماهير بالتدريج، يعتبر الكاتب المصري أننا بصفتنا مثقفين لا نملك إلا ممارسة الوعي والثقافة والإبداع بشكل فردي، وشحذ الهمم، واستخدام الفن لدعوة الناس إلى التفكير فيما يتم تقديمه باعتباره ثوابت ومسلمات، فلا ثابت إلا الله. وهذا المنهج كفيل بأن يجعل كل الآراء جائزة ومقبولة ويشيع بين الناس التسامح مع من يختلفون معهم.
ويرى أيضا أهمية وجود جهد رسمي حكومي، مطلوب ومنتظر، يتمثل في فتح النوافذ والأبواب لأشعة الشمس كي تدخل، وإتاحة الفرصة لكل صاحب فكر وفن ورأي أن يمارس حقه في أن يقول ما يراه حتى لو اختلف مع السياق العام، فوجود آراء عديدة أمر إيجابي، ولا ينبغي أن تخاف المجتمعات من آراء تخالف القطيع.
حتى سنوات قريبة، كان الكاتب المصري مصطفى عبيد منحازا ومحبا بشدة لحزب الوفد المصري وتياره السياسي وزعاماته التاريخية، مثل سعد زغلول ومصطفى النحاس، لكنه رأى أن الأفضل لكل شخص يكتب بموضوعية ألا يكون منتميا لتيار بعينه، لأن المحبة تقيم جدرانا تحجب رؤية السلبيات، فالجميع بشر، والكل يخطئ ويصيب، ولا مجال لتقديس أية شخصية مهما كانت محبتها لنا.
ويقول: “الانحيازات السياسية تؤثر بالطبع على الكتابة الموضوعية الصادقة للتاريخ، وبعد جهد جهيد ومراجعات شخصية كثيرة صرت أرى أن الكاتب والباحث الحقيقي في مجال التاريخ هو اللامنتمي سياسيا”.
سؤال مهم وشائك
عبيد يلفت إلى أنه يهتم بالأغلفة في كتبه ويؤمن بأن الغلاف يجب أن يكون جاذبا، إعدادا وتخطيطا وتجريبا
تسأل “العرب” الكاتب والروائي مصطفى عبيد حول فن الرواية التاريخية، أو “الرواية ذات الخلفية التاريخية” كما يحب أن يسميه، وما إذا كان يمكن أن تؤدي إلى خلط الأمور لدى القارئ العادي غير المثقف، فلا يفرق بين الحقيقة والخيال في التاريخ، ما يقود إلى إمكانية شيوع قصص وأحداث خيالية باعتبارها حقائق، في الوعي الجمعي، الذي لا يميل إلى البحث والتدقيق.
يصمت عبيد قليلا ويفكر، ثم يقول “إن السؤال مهم وشائك، وكل من السؤال والإجابة يحتمل الخطأ والصواب”. ويؤكد أن الأفضل بالطبع لنقل التاريخ هو الكتب التحليلية وليس فن الرواية، لكنه لم يكتب رواية “ابنة الديكتاتور” بهدف تقديم تاريخ، إنما وظفت بعض اللمحات والأحداث المهمشة تاريخيا، لأطرح فكرة عامة تحمل تساؤلا. وأتصور أن الغالب من جمهور القراء الآن يدرك أن التاريخ تاريخ والرواية رواية.
ويفصِّل إجابته موضحا أن فن الرواية عموما يقوم على الخيال، وقد يستدعي بعض الأحداث من التاريخ، لكنه ينبغي ألا يُعامل أبدا معاملة حكي التاريخ، فالرواية ليست تاريخا بالقطع. والعمل الروائي يطرح تساؤلات أما الكتاب البحثي فيقدم أمورا يتصور كاتبها أنها حقائق، وهذا فارق كبير جدا.
ويلفت إلى لجوء بعض أساتذة التاريخ مثل الأكاديمي محمد عفيفي إلى كتابة رواية ذات خلفية تاريخية، كروايته “يعقوب” و”سلام على إبراهيم”، ليس بهدف طرح حقائق تاريخية إنما لطرح تساؤلات.
وفيما يتعلق برواية “ابنة الديكتاتور”، يقول الكاتب المصري “أطرح تساؤلا وهو: هل يجوز خدمة الوطن بممارسة الجنس بشكل غير شرعي أم لا؟ قد يرى شخص ما أنها ضرورة حتمية لخدمة الأوطان في ظل صراعات أجهزة الاستخبارات الدولية التي تستخدم كل شيء، وقد يرى آخر أنه أمر منحط وحقير، لأن القبح قبح والتدني الأخلاقي لا يمكن أن يكون إلا تدنيا أخلاقيا. أما أنا فليست لديَّ إجابة شخصية”.
في كتابه “ضد التاريخ” الصادر عام 2021، يقول مصطفى عبيد “يربح الشعبيون ولو أخطأوا. يفوز بالرضا السامي أصحاب الشعارات والخطباء ومنافقو الجماهير، أما العقلاء النابهون العمليون، مَن يزنون الأمور بمقياس المكسب والخسارة فهم غالبا متهمون، ودائما دائما منبوذون”.
ويسري هذا في رأينا أيضا على الكُتاب والمثقفين، يفوز أصحاب الشعارات ويُتهم العقلاء الراشدون، لكن هؤلاء الأخيرين هم في النهاية من يربحون، عبر الزمن، وبمُضي الوقت، يفهم الناس أفكارهم، ينجذبون إليها وإليهم، تداعب عقولهم حلاوة الفكر دون تعصب وانحياز. والكاتب والروائي مصطفى عبيد بمشروعه الممتد المهم يعد واحدًا من هؤلاء العقلاء دون شك.