ما دور الذكاء الاصطناعي في النظرية الأدبية

بتنا نسمع مرارا وتكرارا اليوم عن تدخل الذكاء الاصطناعي في الأدب وتأثيره فيه، بينما المسألة لا تتجاوز النظرة النمطية التي يتناقلها المحتجون دون وعي بعمق العلاقة بين الأدب والذكاء الاصطناعي، وهي ظاهرة قام ببحثها عدد من النقاد سابقا ومن بينهم ماري لوري رايان في كتاب لها صدر قبل أكثر من ثلاثين عاما.
يسعى علم السرد الرقمي إلى اللحاق بالتطورات في مجال الذكاء الاصطناعي عامة والذكاء الاصطناعي الأدبي خاصة. وهو في هذا السعي إنما يجاري علمين سرديين أخريين معنيين أيضا بالذكاء الاصطناعي، هما علم السرد المديوي وعلم السرد المعرفي. ذلك أن العلاقة بين الرقمية والميديا والإدراك متشابكة إلى حد يصعب معه فصل حدود كل واحد منها عن الاثنين الآخرين.
وليس في هذا التشابك ضير، بل هو موجب تفرضه قواعد وسياقات ما يشهده عالمنا من فضاءات تتداخل فيها التخصصات والمنهجيات بانفتاح وشمول عولميين لا مجال لمواجهتهما أو غض النظر عنهما.
توظيف الذكاء الاصطناعي
تعود بدايات علم السرد الرقمي، شأنه شأن علوم السرد ما بعد الكلاسيكية، إلى أواخر ثمانينات القرن العشرين حين اتجهت جهود بعض النقاد الإنجلوأميركيين نحو سرد القصص باستعمال التقنيات الرقمية والإفادة من تكنولوجيا الأقراص المدمجة والوسائط التفاعلية المتعددة باستخدام تقانة النص الفائق التشعبي (Hypertext) سواء في إنشاء محتوى افتراضي قصصي بطريقة Digital Storytelling أو عمل أفلام متحركة ومقاطع الفيديو وأفلام تفاعلية تمزج الواقعي بالافتراضي داخل بيئة سبرانية، فيها يتمكن القرّاء من التفاعل واختيار مسارات خاصة في أثناء عملية القراءة، تارة بالاحتواء والانغماس وتارة أخرى بالتدفق والتماسك وما إلى ذلك.
وكان للتطورات المتسارعة في تجريب مستويات مختلفة من السرد الرقمي أن ساعدت في الاتجاه بالنظرية السردية اتجاهات جديدة تبحث في مسائل هذا السرد كخصائص فنية وتحديات مفاهيمية ونماذج وأطر مستقبلية.
وتعد ماري لوري رايان أهم المنظرين الذين عنوا بالبحث في دور الذكاء الاصطناعي في السرد نظرية وممارسة، واعتمدت منهجا تعدديا يجمع السيميائية بالشكلانية. ووضعت في ذلك نظرية خاصة هي “نظرية العوالم الممكنة” كنموذج تطويري للمربع العلاماتي والقواعد التوليدية، يقرأ السرد من خلال عمليتين: الأولى “استعارة العالم (The Metaphor of World) لوصف المجال الدلالي الذي ينشئه النص؛ والثانية الوضعية (Modality) وتعني الطرق الممكنة والضرورية لتوظيف ما هو استحالي ضمن المجال الدلالي الذي تمثله الأقوال أوالأفعال أو تتواجد به الكيانات داخل النصوص السردية.
لا شك في أن العملية الأولى “استعارة العالم” غير جديدة؛ فلقد عرفتها كتب البلاغة، وتناولها المفكرون ونقاد الأدب بيد أن فهم الاستعارة في إطار سيميائيات النص يجعل الإشكالية حاصلة بين المجالات الدلالية الممكنة وغير الممكنة. وتُرجع رايان بدايات الاهتمام بالمجالات غير الممكنة إلى تودوروف الذي تحدث عام 1969 عن الترميز الشكلي أو ما سماه قواعد النحو في قصص “الديكاميرون”. واكتشف أن الأحداث التي تؤديها الشخصيات ممكنة، ولكنها غير واقعية بما تصنعه من عوالم تنشأ من النشاط الذهني للشخصيات أو ما يسمى “الكون النصي” (textualuniverse).
وناقش أمبرتو إيكو دور المنطق الشكلي وديناميات القراءة في بناء أفق توقع يمكِّن القراء من فهم العوالم السردية غير الممكنة. وهناك تصورات مماثلة لمنظرين آخرين، لا ترى فيها ماري رايان تفصيلا أو شمولا من ناحيتي البعد الخيالي والتمثيل الواقعي، وإنما هي تصورات تتعامل مع ما هو غير ممكن من منطلق استعاري غير محدد بفاعلية العوالم الممكنة في السرد، وتضيف قائلة “أشعر أن معظم هذا العمل لم يتجاوز التعميم السطحي وغير الدقيق إلى حد كبير، فالنصوص الخيالية تمثل العوالم الممكنة، والنصوص غير الخيالية تمثل العالم الواقعي”.
وانطلاقا من هذا الشعور باللاممكن السردي ودور الذكاء الاصطناعي في جعله ممكنا، وضعت رايان كتابها “العوالم الممكنة: الذكاء الاصطناعي ونظرية السرد” 1991 سعيا منها إلى تحديد ماهية التخييل وفاعلية الخيالية بوصفها وسيلة للتنقل عبر الفضاء النصي ضمن مجال دلالي يتعدد بتعددية العوالم الممكنة الصانعة للحبكة.
ويأتي الذكاء الاصطناعي كمؤثر مهم من مؤثرات بناء هذه العوالم وكمصدر إلهام للنظرية الأدبية. ويقوم عمله على محاكاة العمليات العقلية بواسطة الكومبيوتر، وتعتمد تغذية الذكاء الاصطناعي بشكل كبير على تجميع المصادر والمراجع والبيانات من مجالات عدة، وتسمى هذه العملية بـ”Imports”، وليس الكومبيوتر سوى أداة بحث تمنح الذكاء الاصطناعي وضعا مناسبا لاستجماع كمية كبيرة من البيانات ومجموعة واسعة من المصادر، يمكن لمستخدم الذكاء الاصطناعي الاستعانة بها والإفادة منها في تحليل الخطاب على وفق نظريات وعلوم معينة، ومن تلك النظريات مثلا نظرية الأفعال الكلامية وعلم النفس الإدراكي ونظرية الرسوم البيانية ومنطق الأفعال.
وتذهب رايان إلى أن لتوظيف الذكاء الاصطناعي في السرد وظيفتين هما: الإدراكية في معالجة النصوص والتوليد الأوتوماتيكي للقصص من ناحية صنع الحبكات السردية وتنظيم المعلومات بشكل تلقائي. وأن التحدي الذي يواجه العلماء في هذا المجال هو كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يماثل البشر في الإدراك والاستدلال فـ”وضع قطعة جبن في فم ثعلب ليس كافيا لإنقاذه من الجوع: يجب إخبار الكمبيوتر بأن الجبن قابل للأكل، وأن الثعلب يعرف هذه الحقيقة، ويجب أن تكون هناك آلية استدلال لجعل الثعلب يدرك موقع الجبن”.
من هنا ترى رايان أن من الممكن تعزيز فهمنا لديناميات العمل السردي بشكل كبير من خلال توظيف الذكاء الاصطناعي على مستويي الخطاب والقصة؛ فالكتابة فعل لفظي، والسرد فعل تعبيري، إما بشكل لفظي أو جسدي، يسميه سيمور شاتمان “مستوى الخطاب” حيث الأهداف والخطط تتعلق بالمتحدث أو بشكل دلالي على “مستوى القصة” حيث الأقوال ترتبط بالشخصية.
وما يقوم به الذكاء الاصطناعي هو اقتراح أدوات تحليلية على مستوى الخطاب تسمى في نظرية النص بالوحدات المفاهيمية هي بمثابة تلميحات مثل القول “لكن”، “بالمناسبة”، “على فكرة”، “لكن انظر”، ووظيفة هذه التلميحات إستراتيجية في فعل الكلام من ناحية التحدي والدعم وفتح السياق وإغلاقه. وهو ما اقترحه رايشمان في كتابه “إقناع الحواسيب بالتحدث مثلك ومثلي” 1985. أما على مستوى القصة فإن هياكل البيانات هي نماذج بصرية بها ينظم الذكاء الاصطناعي وحداته المفاهيمية فيبنيها على طريقة بروب في كتابه “مورفولوجيا الحكاية” ومنها وحدة التجريد الموضوعي ووحدات عليا أخرى، وظيفتها التمثيل الدلالي للحبكة.
الخيالية والاستعارة
يستخدم الذكاء الاصطناعي مخزون الاستعارات التقليدية للإطار والتضمين في تصوير وشرح ظاهرة عبور الحدود في الفضاء النصي، وهي تشبه مخطط الشجرة وعلى وفق قواعد تشومسكي التوليدية ومفهوم نحو القصة عند نقاد السرد مثل جيرالد برنس وبافيل، ومن خلالها يتم تصميم نسخة من النموذج اللغوي تكون ملائمة لوصف الهياكل السردية.
وتؤكد رايان دور اللغة الاستعارية في جعل عمل الذكاء الاصطناعي لا مجرد تفكير منطقي فحسب بل أيضا حدسي تشبيهي.
ويبدو من خلال التركيز على بعض الاستعارات ومتابعة تداعياتها لسنوات، أن الاستعارة الرائدة في التفكير الأدبي هي الاستعارة اللغوية حيث الأدب عمل لغوي وتجسيد مجازي مصنوع من نظام من الرموز. أما النصف آلة اصطناعية فتعمل بعلوم الكمبيوتر. وإذا كان الأدب لغة، فلماذا لا تكون اللغة كمبيوترا؟
وتفصِّل رايان القول في فائدة الاستعارات الموظفة في هندسة الكمبيوتر والدور العمومي لنظرية الحوسبة والسيمياء الأدبية في صناعة ألعاب لفظية وخدع بصرية، فيها تناقضات وتركيبات وتحويلات ولا فرق إن كانت حروفا أو أرقاما أو كلمات أو جملا.
وثمة هياكل بنائية وظواهر نصية أثارت اهتمام منظري ما بعد الحداثة ولها نظائر في لغات الكمبيوتر. وهي تعكس الممارسة الأدبية في وضع الأشياء في حيز ضيق وبصورة تكرارية ينشط فيها برنامج الكمبيوتر فيعمل من نفسه، باستخدام الإشارات الذاتية، على تفكيك النصوص وتحويلها إلى بيانات وتنظيمها بشكل هرمي. وأكثر الهياكل النصية توظيفا في أجهزة الكمبيوتر هي التي تمده بالتعليمات وباستعمال لغة افتراضية عالية المستوى، مثل LISP أو PASCAL أو D – BASE أو PROLOG أو LOGO، ومن خلالها تتم ترجمة الرسالة المرسلة فتتحول من كونها افتراضية إلى واقع حقيقي. وهذا ما تجد فيه رايان توافقا مع نظريتها في العوالم الممكنة، فتقول “إن فكرة التنظيم الهرمي تقود إلى مفهوم الافتراضية فتتلاقى تأثيرات نظرية العوالم الممكنة للبنى الافتراضية والأحداث الافتراضية والسرد الافتراضي والخطط الافتراضية مع الإلهام المستمد من الذكاء الاصطناعي”.
◄ الممارسة الأدبية في وضع الأشياء في حيز ضيق وبصورة تكرارية ينشط فيها برنامج الكمبيوتر فيعمل من نفسه
ومن المفاهيم التي طرحتها رايان في هذا الصدد، مفهوم “القص الآلي” (The Fiction Automaton) وفيه تتحول عملية التخييل من كونها فعلا ذهنيا يقوم به الدماغ البشري إلى فعل ذهني تنجزه آلة مصممة للجمع بين ما هو خيالي وواقعي.
ولا تعمل الآلة من تلقاء نفسها إنما هي تعمل على وفق ما تمت برمجتها عليه من وظائف لها أهمية كبيرة في تجميع المتفرقات وتنظيمها والتنبؤ بالاحتمالات في صنع الحبكة. بمعنى أن قدرة الآلة هي ليست في ابتكار ما لا يعرفه الدماغ البشري، بل بما لا يستطيع الإحاطة به من حالات رئيسة وهامشية. وما توظيف أنواع مختلفة من الأفعال التواصلية باستعمال الآلة سوى محاولة لمضاهاة الفعل البشري في الكتابة القصصية من منحيين هما التشابهات والاختلافات. وترى رايان أن التخييل في جوهره غير ثابت ولا محدد كي نتمكن من تحديد أبعاده. وعمومية فاعليته تكمن في ما يريد المستخدم بلوغه من أغراض.
ولا يهم في تعريف التخييل وضع حدٍّ فاصل بين الخيال والواقع، طالما أن الغاية هي المتعة في اللعب بالكلمات. ومعظم أشكال اللعب بالكلمات افتراضية والقصد منها المزاح أو التمثيل أو التحدث إلى الأشياء غير الحية، وفيها يتقمص السارد شخصية هي نظير له، يعبر عن عالمها وبه ترتبط هويتها. وهذا اللعب بالكلمات هو تعبير استعاري يخلق عوالم غير واقعية ومجازات دلالية تتجاوز قوانين الطبيعة وتنتهك مبادئها المنطقية كأن تنمو للوردة أجنحة، وتكون للفجر أصابع وردية، أو يكون البشر المحاربون أسودا وبشرا في الوقت نفسه، يتشاركون في جوهر غير متوافق. فالعالم الخيالي، بحسب رايان، بناء مستقل، والفرق الوظيفي فيه هو في فهم الاستعارات بدلالتها الحرفية أو بدلالتها المرجعية على واقع متخيل وعالم فعلي محتمل.
وتصف ماري لوري رايان العلاقة بين الخيالية والاستعارة الأدبية بأنها مغناطسية، وتوزع السرد وفقا لنظريتها في العوالم الممكنة بين أربعة أنواع هي: 1/ السرد الخيالي مثل الروايات والقصص القصيرة والدراما 2/ السرد غير الخيالي مثل السيرة الذاتية وأدب الاعترافات والقصص التاريخية 3/ الخيال غير السردي كالنصوص المناهضة للسرديات ما بعد الحداثة 4/ الأدب غير السردي وغير الخيالي كنصوص العلوم والفلسفة.