أي معنى للحياة دون موت؟

“عندما لا ندري ما هي الحياة، كيف يمكننا أن نعرف ما هو الموت”.
تذكرت قول الفيلسوف الصيني كونفوشيوس، وأنا أشاهد بودكاست استضاف المفكر والفيلسوف التونسي يوسف الصديق، الذي أعادنا إلى بدايات تشكل وعيه المختلف والذي دأب على هدم المسلمات المتوارثة وحث الآخر على إعادة التفكير في الحياة.
ومن حسن الحظ أن البودكاست اليوم أصبح بديلا مهما نوعا ما عن البرامج التلفزيونية والإذاعية من التي احترفت الكلام في اللاشيء والركض وراء الترند ونسب المشاهدة، فهو يمنح للمحاور وضيفه مجالا للحديث بحرية والخوض في الكثير من المسائل المثيرة للجدل دون رقابة.
لن نستعيد في هذا المقال المقتضب سيرة يوسف الصديق، بل سننظر في أول ما أشعل الرغبة في التساؤل لديه، إنه الموت.
يحكي المفكر التونسي أنه في العام 1948، وهو لم يتجاوز بعد الست سنوات، وجد نفسه صبيحة ذات يوم خريفي في مقبرة الجلاز وهي مقبرة شهيرة في العاصمة تونس، وسط نساء ملتحفات بالسفساري (رداء تونسي تقليدي)، يبكين ويولولن، بينما انشغل هو بالتركيز في أصواتهن والتفكير في سر المربعات البيض المنتشرة في ذلك المكان الغريب.
حالة من الحيرة طغت على الطفل، حتى علم بعد لحظات من جنود الاحتلال الفرنسي في حديثهم مع أخته أنهم في جنازة محمد المنصف باي، أحد المتمردين على نظام الحماية.
والمضحك في القصة، أنه حين أسكت “الجدرمية” (أي العسكر الفرنسي) النساء، انطلق الفتى في البكاء، فأكل ضربة لم ينسها إلى اليوم.
هذه الواقعة أثارت لدى المفكر التونسي التساؤل طوال حياته عن ماهية الموت، وحين قرأ في التاريخ وعرف كيف يموت الحكام الثائرون والمدافعون عن شعوبهم، حاول أن يزج بنفسه في سجون الحماية الفرنسية حالما بفكرة “الموت” معدما بأيديهم.
أراد يوسف الصديق وهو طفل ومراهق طائش أن يخلد اسمه بالموت، لكنه سرعان ما غير رأيه بأن استثمر حفظه للقرآن في الصغر، ثم تكوينه الفلسفي في فرنسا، في إعادة قراءة النص القرآني، محاولا فهم الحياة، وبالتالي فهم الموت. فهما شيء واحد لا يكتمل بغياب أحدهما. لولا الحياة لما كان هناك موت والعكس صحيح.
ومع النضج وزيادة وعيه واطلاعه على علوم مختلفة، أدرك المفكر أن للموت أوجها عديدة وهو ليس حكرا على الجسد، لكن تلك الأوجه يدركها من يريد فقط وليس من فعل الموت الجسدي الذي لن ينجو منه أحد.
أمات يوسف الصديق الكثير من الأفكار الموروثة، وتخلى “عما وجدنا عليه آباءنا”، وقرر أن يعيد فهم كلام الله الذي جاء به النبي محمد. أمات كل التقديس الجمعي للأئمة ومفسري الأحاديث ومن يصفونهم اليوم بالعلماء، مشددا على أنه “أعلم” منهم، وأن أي شخص متعلم وباحث اليوم هو أكثر علما منهم.
لقد أمات أيضا فكرة أن القرآن أزلي غير متغير، معتبرا أن ذلك يتناقض مع فكرة أن الله هو الثابت الوحيد في الكون، وأن تغير القرآن هو في الأساس مرتبط بتغير البشرية والحضارات، فما فهمه السابقون من قرون من الآيات، يمكن أن نفهم اليوم أفضل منه، وسيأتي مستقبلا من يصل إلى درجات أعلى من فهم كلام الله.
الصديق الذي بلغ من العمر 81 عاما، لا يزال يؤكد لنا أن “الجماعة رجعية لا تتغيّر إلا بزلزال المبادرة الفردية”. ويضرب لنا مثلا “النبي محمد بن عبدالله الذي كان مبادرة فردية في مجتمع قريشي رجعي”.
هو بدوره قد خاض مبادرة فردية تسعى لتغيير فهمنا وتقبلنا للنص الديني، مبادرة “تميت” كل المسلمات بحثا عن معنى أعمق للحياة، وتسألنا من فترة إلى أخرى “هل قرأنا القرآن أم على قلوب أقفالها؟”.