أولمبياد باريس يكشف عن الوجه المظلم لمدينة الفن والثقافة

نسمع مرارا بصدمة باريس، وهي عبارة عن حالة من الصدمة لمن يزور باريس مدينة الأنوار وعاصمة الثقافة والفن التاريخية، ليجد واقعا مغايرا تماما للصورة التي رسمها في خياله أو استقاها من اللوحات العالمية والكتب والأفلام والأغاني وغيرها. هذه الصدمة لم تعد فردية اليوم بعد الأولمبياد الأخير الذي كشف وجه المدينة وتوجهاتها.
لعل حفل افتتاح الألعاب الأولمبية الذي أقيم في العاصمة الفرنسية باريس هذا العام، والصدمة والجدل اللذين رافقاه، أعاد تسليط الضوء على مدينة الأنوار من جديد. ولكن هذه المرة بطريقة تسيء إليها بشكل كبير، وخصوصاً اكتشاف أن نهر السين الشهير يعاني من تلوث كبير ولا يصلح للسباحة، الأمر الذي لم تفصح عنه الدولة الفرنسية إلا بعد تعرض بعض السباحين المشاركين لحالات تسمم معوية وانسحاب البعثة البلجيكية من منافسات السباحة وإيقاف مسابقة السباحة من قبل اللجنة المنظمة للأولمبياد.
بعد هذه الفضيحة التي حدثت وانتشرت في وسائل الإعلام بسرعة وخصوصا أن نسبة التلوث التي يعاني منها النهر عالية جدا، الأمر الذي قد يعرض القائمين على تنظيم الأولمبياد للمساءلة القانونية بسبب تعريضهم حياة اللاعبين المشاركين للخطر وهم على دراية كاملة بأن مياه النهر ملوثة بشدة، رغم محاولة بلدية باريس حسب ادعائها بذل جهود كبيرة لتنظيفها بحيث تعود كما كانت في السابق صالحة للسباحة، لكن العامل المناخي تدخل وتساقطت الأمطار وعكرت صفو هذه المياه المعكرة أصلا. كان هذا الحدث هو الحدث الثاني بعد الحدث الأول الذي شكل صدمة عالمية وهو حفل افتتاح الأولمبياد.
لوحة العشاء الأخير
الوجه الفني لباريس لا يستطيع أن يلغيه أي شيء مهما بلغ الانحدار والسوء اللذان وصلت إليهما في عصرنا الحالي
اتهم القائمون على حفل الافتتاح بأنهم يسيئون للسيد المسيح عبر إعادة تجسيد لوحة “العشاء الأخير”، التي رسمها الفنان الإيطالي ليوناردو دافنشي، بواسطة المتحولين جنسيا والمثليين والبيدوفيليين، ليحلوا مكان السيد المسيح وتلاميذه الإثني عشر الذين ظهروا في اللوحة، ما أثار استياء مسيحيا وعالميا عارما.
وجاء الرجل الأزرق الذي أدى دوره المغني الفرنسي فيليب كاترين، وهو شبه عار، حيث يخرج من الإناء الكبير الموضوع على المائدة التي يجلس عليها هؤلاء الأشخاص ويقوم برقصات ماجنة أمامهم متشبها بإله الخمر والسعادة عند الإغريق ديونيسوس، ليثير انتقادات المتابعين واشمئزازهم، معتبرين أن ما حدث إهانة كبيرة للديانة المسيحية حين تجلس مكان السيد المسيح امرأة مثلية ومكان الحواريين الإثني عشر متحولون جنسيا ومخنثون وبيدوفيليون، فتعالت أصوات الاستنكار من المجتمع الكنسي حول العالم معتبرة أن الذي حدث غير مقبول وعلى فرنسا أن تصلح هذا الخطأ وتعتذر عنهُ.
ودفعت موجات الاستنكار الجهة المنظمة للحفل إلى الاعتذار والتبرير معتبرة أن هذا الاستعراض ليس مستوحى من لوحة العشاء الأخير لدافنشي، وبالتأكيد لا يقصدون منه الإساءة للأديان، وإنما يرمز إلى التنوع الذي يمثلهُ المجتمع الفرنسي. وتم حذف فيديو الافتتاح من موقع يوتيوب وبدأت بعض الأصوات العاقلة تعلو على مواقع التواصل الاجتماعي موضحة أن اللوحة التي تم تجسيدها في حفل الافتتاح ليست مأخوذة من لوحة العشاء الأخير وإنما من لوحة “مأدبة الآلهة” (1640) للفنان الدانماركي فان بيلجرت.
ولوحة فان بيلجرت تصور مأدبة كبيرة احتفالا بزواج ثيتيس وبيليوس في زمن الإغريق بحضور الإله أبولو الذي يجلس وسط المائدة ويضع قوسا على رأسه، مثلما تضع الفتاة السمينة التي ظهرت في الافتتاح وبحضور الإلهة والأبطال الإغريق كهرقل على حد زعمهم، لكن هذا التبرير بقي غير مقبول بالنسبة إلى المستنكرِين الذين أكدوا أن العشاء الأخير هي اللوحة المقصودة، لكن الكثيرين من الذين استنكروا توظيف اللوحة في عرض الافتتاح لا يعرفون أن لوحة العشاء الأخير التي رسمها دافنشي (1498) لا تعتبر لوحة مقدسة في المجتمع الكنسي، لكنها مرتبطة بالذاكرة الجمعية المسيحية عبر التاريخ لأن الشخص المتدين لن يعجبه سلوك دافنشي الذي كان متهما بالمثلية وبالتأكيد لن يرضى بأن تكون لوحته رمزاً دينياً.
اللوحة رسمها دافنشي بناء على طلب من أحد رؤساء الأديرة في مدينة ميلانو الإيطالية وبقي يعمل عليها لمدة ثلاث سنوات، الأمر الذي أثار امتعاض رئيس الدير آنذاك الذي كان لحوحا يريد أن يستلمها كي يعلقها في قاعة طعام دير سانتا ماريا ديلي غراسي، وفي آخر مرة أرسل فيها إلى دافنشي رسالة يسأله فيها لماذا تأخر في تنفيذها كل هذه المدة الطويلة؟ فرد عليه الأخير قائلا إنه لم يجد حتى الآن وجها شريرا يصور به يهوذا الأسخريوطي -التلميذ الذي وشى بمكان السيد المسيح في العشاء الأخير معه قبل أن يقتاد إلى المحاكمة والصلب- وأردف “إذا لم أجد وجهاً مناسباً له سأرسم وجهك” يقصد رئيس الدير.
وفي النهاية سلمها لهُ وعلقت في قاعة طعام الدير وأصبحت بجماليتها وخصوصيتها إحدى أشهر لوحاته بسبب الجمالية التي ظهر بها وجه المسيح وردود الأفعال التي تظهر على وجوه التلاميذ وهم يتحدثون بعد أن أخبرهم المسيح بما سيحدث له بعد قليل، فبدت كأنها لوحة ناطقة وتدرس حتى هذه اللحظة لطلاب المعاهد المسرحية في الجامعات العالمية.
تاريخ المدينة الفني
باريس منشأ السينما ومدينة شهدت ولادة الكثير من الحركات الفنية العالمية والتيارات الأدبية الرائدة، لكن ذلك تغير
أما الحدث الثالث الذي عكر صفو الجماهير التي جاءت إلى باريس من كل أنحاء العالم فهو وجود الجرذان بكثرة في المدينة، فحسب وسائل الإعلام العالمية أن أعداد هذه الجرذان أضعاف عدد سكان المدينة، الأمر الذي أزعج السياح وأخافهم، فتعرضت فرنسا وباريس تحديدا للانتقاد من رواد وسائل التواصل الاجتماعي وخصوصا منهم العرب، واصفين فرنسا بـ”مرحاض أوروبا” وأن “شعبها كان من أقذر الشعوب في القرون الوسطى لذلك اخترع العطور كي يخفي روائحه الكريهة”، ومستذكرين ما قاله سفير روسيا القيصرية حين زار ملك فرنسا لويس الرابع عشر في قصر فرساي؛ حيث قال بعد أن قابله “رائحتهُ أقذر من رائحة حيوان بري، وقصر فرساي الذي يسكنه من أقذر الأماكن على وجه الأرض”.
كل ما سبق سلط الأضواء على الجوانب السلبية من مدينة باريس وكشف ما كان مخفيا، باريس التي كانت خلال القرنين الماضيين مدينة الفن والثقافة الأولى في العالم في القرن التاسع عشر أنجبت أعظم فنانيها يوجين ديلاكروا رسام الملاحم الأوروبية الكبرى ولاحقا غوستاف كوربيه، الذي أسس المدرسة الواقعية في الفن التشكيلي، وفيها ظهرت المدرسة الانطباعية في الفن التي انتشرت في كل أنحاء أوروبا والعالم على يد كلود مونيه وأصدقائه كبول سيزان وكميل بيسارو وأوغست رينوار وإدوارد مانيه.
ونهر السين الملوث حالياً وغير صالح للسباحة هو الذي أوحى للفنان جورج سورا برسم لوحته الشهيرة (بعد ظهر يوم أحد في لاغرانت جات) حيث ابتكر أسلوبا جديدا في فن الرسم وهو الرسم بالتنقيط، ولوحته الجميلة الأخرى السباحون في أسنيير يصور فيها بعض الرجال والفتيان وهم يسبحون في نهر السين، فأسس للحركة الانطباعية الجديدة وفي باريس، أيضاً فيها ولدت المدرسة الوحشية بداية القرن العشرين على يد هنري ماتيس ورفاقه، وفيها استقر الفنان الإسباني الكبير بابلو بيكاسو وأبدع أجمل لوحاته التي تنتمي إلى المدرسة التكعيبية ومن جاداتها ودوائرها ولدت الحركة السوريالية في الفن والأدب على يد أندريه بريتون.
أما السينما فحديث آخر؛ فقد ولدت في فرنسا على يد الإخوة لوميير ومنها انطلقت إلى العالم، وفي باريس صنع جورج ميليس (ساحر السينما) أجمل أفلامه واكتشف القمر قبل عقود من الصعود إليه في فيلمه “رحلة إلى القمر” وفيها صنع أبيل غنتس تحفته السينمائية “نابليون” الذي عرض بنسخة مرممة في مهرجان كان السينمائي الماضي، فكان القرن العشرين هو قرن السينما هذا الفن الجديد الذي صدرته فرنسا إلى العالم.
وفي خمسينات ذلك القرن ولدت في باريس أيضاً الموجة الجديدة من السينما الفرنسية على يد نقاد مجلة دفاتر السينما الشهيرة كفرنسوا تروفو وكلود شابرول وأصدقائهم، فأصبحت السينما في أوروبا تصنف وفق ما قبل الموجة الفرنسية الجديدة وما بعدها، هذه الحركة التي ولدت على يد فنانين طموحين أرادوا كسر كل التقاليد المتعارف عليها في فن السينما فصنعوا أعظم الأفلام بأبسط الإمكانيات فدخلوا التاريخ، وهذا هو الوجه الفني للمدينة الذي لا يستطيع أي شيء أن يلغيه مهما بلغ الانحدار والسوء اللذان وصلت إليهما في عصرنا الحالي.