معايير الجمال لم تعد تحكمها ثقافة أو مجتمع أو جنس الشخص

معايير الجمال تتغير من عصر إلى آخر، ولكنها اليوم تشهد نقلة كبيرة خاصة مع تطور طب التجميل والمركزية التي باتت تحظى بها الذات، ما منحها الحق في اختيار معايير جمالية خاصة، ومن هنا فإن المعايير القديمة التي فرضها التقسيم الجنسي والطبقي والجغرافي والثقافي تشهد انحصارا كبيرا.
يقول الفيلسوف الفرنسي جورج فيغاريلو مدير مركز الدراسات متعددة الاختصاصات في السوسيولوجيا والإنثربولوجيا والتاريخ “لا تدرك عواطفنا إلا عندما تحبس في الكلمات؛ ذلك أن الكلمات تترجم أشكال الوعي والحساسيات. وفيها تتضح معايير الجمال الجسدي، أي معايير الانجذاب والذوق”.
ومن مقولته هذه يتتبع في كتابه “تاريخ الجمال.. الجسد وفن التزيين من عصر النهضة الأوروبية إلى أيامنا” تاريخ الجمال الذي عاينه ووصفه المعنيون به وعبروا عنه بكلمات ولوحات فنية، ويتوقف عند المشهديات الجسدية ودلائلها من دون أن يغفل العلاقة القائمة بين البراني والجواني، ومن دون أن ينسى معاني الحركات والتصورات التي ترتبط بوسائل التجميل.
الجمال الجسدي
لم يكتف فيغاريلو بالوثائق التاريخية وكتب التاريخ، تاريخ الجمال، بل راح في كتابه، الذي ترجمه وقدم له الأكاديمي جمال شحيد وصدر عن المنظمة العربية للترجمة، يبحث عن تجليات الجمال في اللوحات الفنية والصور والرسوم واللوحات الدعائية وكاتولوغات شركات المستحضرات. ولا ينسى القصائد والروايات والمسرحيات والمجلات المصورة التي تنوه بالجمال ومعاييره وتنضاف إليها ملاحظات الأطباء والفلاسفة والمفكرين في الأخلاق والأديان، ويرفدها بمذكرات الشخصيات التاريخية وبمرويات الرحالة. ويتوجه الجانب الأكبر من هذه الوثائق إلى النساء، فتسدي لهن النصح وترشدهن وتحذرهن من الإفراط في التبرج ومن استعمال مواد تجميلية تضر بالصحة وتتلف البشرة.
يظهر فيغاريلو في كتابه أيضا إن تاريخ المجتمعات والثقافات يسم أجساد النساء والرجال، فهذا الشاعر رونسار يتغنى بالجمال الإلهي وبالأنفاس العطرة، وهذا ألكسندر دوما يشيد بالصدر الجريء وبمنحنيات الأعطاف وبنارية النظرات. وفي الخمسينيات من القرن العشرين فُتن الناس بثديي جينا لولوبريجيدا، وبقمصان الحفر التي كانت ترتديها صوفيا لورين وبمشية مارلين مونرو وبالحركات الانسيابية لبريجيت باردو.
الانفجار المفاجئ الذي شهده التجميل وتنوعه وانتشاره في عالم اليوم لا يمكن أن تُفسر بالممارسات الاستهلاكية وحدها
ويوضح أن المُتْعَوِيّة والتسالي قد انتصرا ما بين سنتي 1950 و1960 ولاسيما الاستهلاك، لأنه غير نظام العالم الجمالي: فتعددت النماذج وصارت سهلة المنال وتبلورت أكثر من الماضي، ويجب التنويه بانتشار: الجمال للجميع، جمال الناس البسطاء، وجمال الأجيال؛ وأعيد النظر في جمال الجنسين. لقد أصبح الجسد أجمل شيء استهلاكي عندنا. ونشأ عن ذلك جمال صمم لأن يكون معمما ـ ولم يكن هذا الأمر متصورا من قبل ـ وحملته بلاغة السوق الناعمة والمبتذلة، وازداد هذا الجمال تحرر، وحركته دينامية المساواة ولكن من دون ضجيج.
إن نجمات ما بعد الحرب، نجمات سنوات 1950، عدلن في النموذج الذي كان سائدا في سنوات 1930، وطرحن حرية أطلقت تدريجيا معالم الفترة الحالية. أولا دل كل شيء على وجود متنام للشهوي؛ مفاتن ثديي جينا لولو بريجيدا، القمصان الكاشفة المطبوعة لصوفيا لورين، المشية الآسرة لمارلين مونرو، الحركات المتمردة لبريجيت باردو.. إلخ. إن الحركات الراقصة وأشكال الكشف الخليع والمواءمة بين الطبيعة والفوضى قد أبرزت الغريزة، وذلك للجمع الحسن بين “الولدنة والحيونة”. وأخذت بعض أجزاء الجسد أهمية لافتة ففرض العنصر الجنسي نفسه كجذب جنسي جديد تجلى في الشفتين المنفرجتين والمكتنزتين والصدر المقتحم والمشرئب.
ويكشف فيغاريلو أن الانفجار المفاجئ الذي شهده التجميل وتنوعه وانتشاره في عالم اليوم لا يمكن أن يفسر بالممارسات الاستهلاكية وحدها، ولا حتى بمتخيل المساواة وحده. وذلك لأن تغيرا في العمق نفسه صاحبهما، ولأن قطيعة تتعلق بالهوية قد طرأت: فظهر استثمار خاص للصورة الفردية ولمعناها. وأكثر من أي وقت مضى تقتصر هذه الهوية اليوم على الفرد نفسه، وعلى حضوره وجسده فلم يعد المجتمع الأسمى يقول للفرد ماذا عليه أن يكون؛ ولم تعد المؤسسات تتحكم بالمظهر والقوام، كما فعلت المهن ذلك طويلا، وكذلك المناطق الجغرافية والمجموعات الدينية والاجتماعية. فتلاشت الكتب القديمة التي تكلمت عن الملابس والتي فيها صنفت المدن والنقابات والمهن.
الفرد وحده هو المسؤول اليوم عن أشكال تواجده وعن صوره. إنه يمثل شكله كما قال ألان إيهرانبيرغ، لا بل يمثله حصريا، ويتماهى دائما أكثر مع ما يبرزه جسديا إلى حد ما، ومع ما يقوله. ومن هنا نشأ رهان الإبراز بأقصى صوره: وأعني بذلك الطموح المتنامي في الترويج لما يمكن أن يشاهد، وأعني به أيضا العمل على الجمال كاستكمال للفرد. ونشأ عصر تلاقى فيه الشعور بالتمكن من السيطرة على المظهر والشعور بالقدرة على تحويله إلى إشارة تسم الفرد بفرديته. فنشأ أخيرا شكل جديد من أشكال النزاعات، وظهرت عقبة حسمت أحيانا الجانبين التقليديين للجمال: الجانب الفردي بامتياز، والجانب الجماعي في أرفع مراتبه.
تاريخ الجمال الجسدي يعكس بحثا متأنيا وكشفا بطيئا للأقاليم والأمور الجسدية التي علا شأنها تدريجيا وتغيرت جذريا
يؤكد أن تاريخ الجمال الجسدي يعكس بحثا متأنيا وكشفا بطيئا للأقاليم والأمور الجسدية التي علا شأنها تدريجيا. وفيه جميع مقولات الحيز التي أثرت شيئا فشيئا مع الزمن: وهي مقولات المساحات والأحجام والتحرك والعمق. وهناك على الأقل ثلاثة مواضيع تؤكد هذا الاستكشاف المتنامي.
ويضيف فيغاريلو “في المقام الأول توسع دائما حضور لأجزاء في الجسد ساهمت في الجمال: لقد منح أولا امتيازا كبيرا ومستداما لـ “أعلى” الجسد، ولتدرجات لون البشرة وحدة العينين وانتظام الأعطاف؛ ومن ثم الاهتمام بـ “الأسفل” وقوام الأكفال، وزخم نقاط الاستناد. ولاحظنا هنا عددا من المراحل: لقد بقيت الساقان والخصر مدة طويلة لا تحظى باهتمام كاف بسبب دينامية الفساتين والحركات، وبعدها ظهرت معالمها، لاسيما في نهاية القرن التاسع عشر، وتخلت عن دورها كقاعدة فقط للوجه ولأعلى الجسم، ومنحت الجسدية للاستدارات التي تم تجاهلها طويلا.
وبالتأكيد لم يكن ذلك مجرد موضة ملابسية، وإنما طريقة جديدة لتعزيز القوام بشكل عام؛ الطولانية، شد الثياب على أعلى الجسم، تناسق الظهر. وهذا أيضا غير مكان ممارسات التجميل أكثر نحو كامل الجسد والتي فتنت منذ نهاية القرن التاسع عشر بتنحيف الخصر واستطالة الساقين، في حين أنها اقتصرت حتى تلك الفترة على مستحضرات الوجه والمشهد المحيط بالجذع وعلى أنواع الحمية العرضية التي تقاوم البدانة.
وهذا اقتضى وجود علامات جديدة بين المذكر والمؤنث: ففي نهاية القرن التاسع عشر مثلا أصبح جسد المرأة أكثر تحررا، وصار يظهر في الحيز الجماعي بطريقة مختلفة؛ ودخل حيز العمل والترفيه، وراح أحيانا ينافس المذكر، وابتعد عن أشكال الجمال الديكورية ومال إلى أشكال جمال أكثر استقلالية، وطفق يراوح بين الكدح والحرية. وهذا ما عززته أيضا أماكن العطل الصيفية والشواطئ والمنتجعات والمقاصف، وخلقت وحدها ثورة في طريقة تقييم الجسد وإبرازه.
النشاط في العمل تحديدا، والاعتبار التدريجي للحركة في جمالية الجسد، هما الموضوع الثاني الذي يؤكد فيه فيغاريلو أن الاستكشاف المتنامي للجسد شكل الانتقال من جمالات شكلية إلى جمالات أكثر دينامية وإلى جمالات تنادي بال مزيد من اللدانة والانعتاق، شكل عالما متغيرا انتقل من الصور الغارقة في الرسوم الكلاسيكية الجامدة إلى صور النساء المتنزهات التي ظهرت في رسوم الموضة في نهاية القرن الثامن عشر. إنه عالم متغير انتقل من صورة المرأة المتنزهة في باريس الرومانسية إلى صور نساء الاستعراض اليوم التي انتشرت فيها كثيرا الخطوات الراقصة والموسيقى التي ترافق ارتساماتهن والتي حولت موضوع الحرية إلى موضوع حركة، إنها قوة دائما كامنة، إنها كثافة شبه إيقاعية تطفو على سطح الأعطاف والاستدارات.
إعادة بناء المظهر
يرى فيغاريلو أن التعبير شكل في هذا الاستكشاف المتنامي للجسد الانتباه أولا إلى الروعة في المجتمع الحديث منذ القرن السادس عشر، والانتباه أكثر من ذلك إلى الجمال الحيوي وإلى انتصاره في أوروبا الكلاسيكية، وإلى نظرة التي تكشف عن الأمور الحميمة وإلى الخارج الذي يفضي إلى الأغوار. ودل هذا على التنامي في الوعي. وظهر بخاصة أن السطحازداد تجذرا مع الوقت، وازداد سماكة وأفسح المجال تدريجيا للقوى المنطلقة من الداخل، القوى التي تستطيع أن تعلي من شأن الجمال لتسكنه بشكل أفضل، وركز على قوة العينين اللتين تسألان كثيرا واللتين هما بمثابة رسولتين “للروح”، يبحث عنهما من دون انقطاع لاستجلاء مؤشرات اللانهاية فيهما؛ وهذا ما طوره الرومانسيون وعالمهم. إن هذا اللعب بالعمق يستمر اليوم فعلا ويتجذر، إذ تتجلى الآثار الجسدية للتوازن النفسي، آثار القلق والصدمات النفسية، وفيها يزداد الفرد انشراحا كلما تصالح مع جوانيته المهددة.
يؤكد المؤلف أن الجمال يتغير متجاوزا بشدة الآثار الوحيدة للموضة: إنه ينسجم مع الديناميات الاجتماعية الكبرى، ومع القطعيات الثقافية، ومع النزاعات بين الجنسين والأجيال. هناك مثلا عالمان ينأى أحدهما عن الآخر ويفصلان الأفواه الرقيقة والضيقة دائما، والتي نشاهدها في لوحات عصر النهضة الأوروبية، وفيها تكون الشفاه ناعمة ومنكمشة في آن، ويكون لونها كابيا وخطوطها مغلقة، هي شفاه تنكظم، أو بالأحرى تنطمس فيها كل ابتسامة. عالمان يفصلانها عن الأفواه الأكثر انفتاحا، كما نشاهد ذلك في اللوحات المعاصرة، هي أفواه أكثر تلونا وحركة، ويفصلانها عن الشفاه العريضة الشكل والكريمة والناتئة: من جهة نرى الخفر مقوننا بوضوح، ومن جهة أخرى نرى الإثبات بارزا بجلاء، ونرى الحركة حاضرة، والمكان مهيأ للشبقية والإغراء.
هناك أيضا عالمان يفصلان القامات الأرستقراطية عن القامات التي أعقبت الثورات. نرى حركات أهل البلاط الكلاسيكي مثلا بأكتافهم المدفوعة إلى الخلف وببطونهم البارزة وبرؤوسهم المتراجعة إلى الوراء، ونرى الشرف يتجلى في تقويسة جسيمة تنم عن الفخار، ونرى من جهة أخرى عالما آخر مختلفا تظهر فيه حركات البورجوازي العصري بكتفيه الظاهرتين ورأسه المتقدم وبأعلى جسمه البارز وبنطاقه المشدود وبقامته العمودية التي تفصح عن إرادة فعالة وعن التزام بالأفعال وعن قوة في الحقوين، لا بل عن كثافة فيهما. هنا تتعارض رؤيتان وتتناقضان وتجسدهما مناظر الجسد بشتى جوانبه.
ويبين أن تغيرات الثقافة قد تؤثر في نوع الجمال بالذات. فالمثال الأعلى الذي ترفع امرأة باذخة من شأنه ـ وهو مثال التلقي وعدم النشاط ـ لا يستطيع أن يبقى كما كان بعد أن تغير وضع المرأة القانوني مثلا، وبعد أن تأكدت جمالات نشيطة، جمالات المبادرة والعمل الحثيث، فتهاوت الانتماءات القديمة للمؤنث.
وفي عالم ينادي بتشاطر النشاطات والأوضاع القانونية، لم يعد يحق للنوع (مؤنث/ مذكر) أن يطرح قوانين الجمال. وقد تغيرت أخيرا مؤشرات الكمال الجسدي ـ وهذا يجب التشديد عليه ـ لأن العوالم ابتعدت نهائيا عن الحلم بجمال مطلق روج له قبيل الحداثة، لاسيما الجمال الذي نادى به عصر النهضة الأوروبية برساميها وجهابذتها الذين كانوا يبحثون عن الرقم الذهبي كمؤشر على اللفتة الإلهية.
وتناءى يقين الثبات الجمالي كثيرا بعدما احتل الفرد مكانة متنامية في بداية عالمنا المعاصر؛ إذ بحث الناس عن جمالات فريدة، جمالات تزداد حصريتها كلما ازداد تميزها. وانتصر التجميل أكثر من أي وقت مضى، لاسيما ذلك التجميل الذي أتاح إعادة بناء المظهر بوسائل عديدة؛ منها الماكياج الذي رأى فيه بودلير طريقة “لخلق الذات من جديد” ومنها أيضا العناية بالجسم والمواد التجميلية وأشكال الجراحة التي تتيح لكل إنسان أن يبرز شخصيته الخاصة بشكل أفضل.
وأخذ الافتنان ـ أكثر من أي وقت مضى ـ أهمية مركزية، فشحذ السمات الفريدة، ونوع الإمكانات، ونقل الجمال للجميع، وبعد أن كان حكرا على الطبيعة أو الاستثناء. وتعقد هذا الافتنان كثيرا بعد أن صار الرفاه الفردي غاية معممة وبحثا مستمرا داخل مجتمعاتنا ومثالا أعلى قيل إنه سهل المنال وضروري.
ويشير فيغاريلو إلى أن هذا ما دفع بالمجابهات بين المعايير الفردية والمعايير الجماعية إلى أن تصبح محتمية وأكثر حدة، وخلق صعوبة حقيقية لبعض الناس أمام تمكنهم من بلوغ الجمال، في حين أن عددا من نماذج الاستعراض التي تبناها الجميع أصبحت بالضرورة وبالتضمين ذات عبء ثقيل: ومنها النحافة والرشاقة والحركة، وكلها تضمن السيطرة على الذات وإمكانية التلاؤم. وبناء عليه، قد يطغى الكرب عندما يفرض الانشراح نفسه كمعيار قطعي. خلق عالمنا مسحة من الشكوى، عندما زرع ضيقا مستشريا، مع العلم أنه قدم نفسه دائما ـ وأكثر من أي عالم آخر ـ كوعد من وعود الجمال.