طبيعة الليبرالية الغربية اللابطولية واللاطوباوية تصنع العداء الأعمى للغرب

العداء للغرب ظاهرة تتوسع باستمرار وهي ليست جديدة ولا هي مقتصرة على المتدينين أو المحافظين أو الإسلاميين والحركات الجهادية، بل تمتد إلى جغرافيات فكرية وثقافية كثيرة منذ قرابة القرن من الزمان. وهذا ما يحلله الباحثان إيان بوروما وأفيشاي مرغليت في كتابهما “الاستغراب: موجز تاريخ النزعة المعادية للغرب”.
بين ما قاله هاياشي فوازوا في مؤتمر “كيوتو” باليابان عام 1942 من أن الهجوم على الغرب أفعم قلبه بالبهجة، وما صرح به أسامة بن لادن في سبتمبر 2001 من أن الحضارة الغربية التي تتزعمها أميركا تحطمت قيمها وأصبحت هباء منثورا، تاريخ حافل بالكثير من الأفكار والجماعات المعادية للغرب، مثل: الصينيين، والمسلمين، والشيوعيين، واليابانيين في بعض الفترات، بل وحتى الألمان في فترة صعود الفكر النازي، كل حسب منظوره الأيديولوجي أو القومي.
ولفهم هذا التاريخ، وفهم سياقه الحضاري والزمني، يأتي هذا الكتاب “الاستغراب: موجز تاريخ النزعة المعادية للغرب” للباحثين الهولندي إيان بوروما الأستاذ بكلية بارد في نيويورك، وأفيشاي مرغليت أستاذ الفلسفة في مركز دراسات العقلانية بالجامعة العبرية في القدس، والذي يتناول بالتحليل النزعات المعادية للغرب بما يمثله من ثقافة وحضارة، وما يتبعه من سياسات، إذ يلقي الضوء على أسباب الكراهية للغرب، ومفهوم المدنية الغربية، والعولمة، والحداثة لدى هذه الجماعات، وصعود التيار الإسلامي في هذا الصراع، كما يعقد مؤلفاه مقارنة بين عقلية الغرب، وروحانية الشرق.
البطل عابد الموت
يقول الباحثان في كتابهما، الذي ترجمه ثائر ديب وصدر أخيرا عن مؤسسة هنداوي، إن أحد السبل لتوصيف الاستغراب يتمثل في تتبع تاريخ صلاته وتداخلاته جميعا، من الإصلاح المضاد إلى التنوير المضاد في أوروبا، إلى التنويعات الكثيرة التي اتخذتْها الاشتراكية الفاشية والقومية في الشرق والغرب، إلى مناهضة الرأسمالية ومناهضة العولمة، وأخيرا إلى التطرف الديني الذي يتفشى اليوم في أماكن كثيرة جدا. غير أن قرارنا قد قر على اتباع سبيل آخر. فبدلا من الرواية التي تلتزم التسلسل التاريخي الصارم أو التوزع المناطقي، عمدنا إلى تحديد أصناف بعينها من الاستغراب يمكن أن نجدها في جميع المراحل وجميع الأمكنة التي نقع فيها على هذه الظاهرة.
وهذه الأصناف ترتبط معا لتشكل سلسلة من العداء، العداء للمدينة، بصورتها الكوسموبوليتية المفتقرة إلى الجذور، والمتغطرسة، والجشعة، والمنحطة، والطائشة اللعوب، والعداء لعقل الغرب، كما يتجلى في العلم والتفكير المنطقي، والعداء للبرجوازية المستقرة، بوصفها النقيض للبطل الذي يضحي بنفسه، والعداء للكافر، الذي ينبغي تحطيمه لإفساح المجال أمام عالم الإيمان الخالص.
ويؤكدان أن كتابهما يهدف إلى فهم ما يدفع الاستغراب، وأن يبينا أن الانتحاريين والمجاهدين اليوم لا يعانون من مرض فريد، بل تلهب خيالهم أفكار لها تاريخ. وهذا التاريخ ليست له حدود جغرافية مرسومة بوضوح، فالاستغراب يمكن أن يزدهر في أي مكان. واليابان، التي كانت ذات يوم مرتع استغراب قاتل، هي الآن في معسكر من يستهدفهم ذلك الاستغراب. والفهم لا يعني التبرير، شأنه شأن الغفران الذي لا يعني النسيان، ومن غير أن نفهم أولئك الذين يكرهون الغرب، ليس لنا أن نأمل بأن نحول بينهم وبين دمار الإنسانية.
ويوضح الباحثان أن في الأسبوع الأول من الحرب في أفغانستان، تحدث مراسل صحيفة بريطانية مع مقاتل من طالبان على الحدود الباكستانية. كان المجاهد الشاب مفعما بالثقة. وقال إن الأميركيين لن يربحوا مطلقا، “لأنهم يحبون البيبسي كولا، أما نحن فنحب الموت”.
هذه النظرة إلى الغرب بوصفه حضارة ناعمة، واهنة، ولطيفة، وبوصفه حضارة متفسخة مدمنة على الملذات، هي نظرة تعكس عواطف مماثلة لدى المجاهدين الآخرين المنخرطين في الحرب المقدسة على الغرب. فالانتحاريون اليابانيون، الذين كانوا يديرون أجهزة المذياع على محطات الجاز في هونولولو قبل أن يدمروا الأسطول الأميركي في بيرل هاربر، كانوا يكنون المشاعر ذاتها. وبعد ثلاث سنوات، حين كانت اليابان مدمرة بأكملها تقريبا، كان الإستراتيجيون البحريون اليابانيون يعتقدون أنه لا يزال بالإمكان هزيمة الولايات المتحدة بإبداء الروح اليابانية المتفوقة: عبر هجمات طياري الكاميكاز التي يشنها شبان يطلبون الموت ويشتهونه كتضحية مقدسة.
ويضيفان أن عبادة الموت ليست سمة مقصورة على الآسيويين المجانين. ففي نوفمبر عام 1914، شن الجيش الألماني سلسلة من الهجمات العقيمة على البريطانيين في الفلاندرز. ومات أكثر من 154000 في الضباب والوحل، معظمهم من الشباب المتطوعين المنتمين إلى منظمات الشبيبة الوطنية. وكان بعضهم، مثل طياري الكاميكاز، من ألمع الطلاب في أفضل الجامعات. ولقد باتت هذه المذبحة الجماعية تعرف باسم معركة لانغمارك.
وبحسب أسطورة، عززها القوميون الألمان بين الحربين، فإن الشباب كانوا يسيرون إلى موتهم شبه المحقق وهم ينشدون اﻟDeutschlandlied (نشيد ألمانيا). فكلمات كارل ثيودور كورنر المشهورة، والمكتوبة قبل مئة عام في حرب التحرير ضد نابليون، غالبا ما كانت تخطر في الذاكرة “لا سعادة إلا في الشهادة”. وكما هو الحال في كل بروباغندا، فإن بلاغة التضحية البطولية بالنفس لها سوابقها التاريخية. فبعد حرب السنوات السبع ـ التي خاضتها القوى الأوروبية حول امتلاك المستعمرات بصورة أساسية ـ والتي دمرت أجزاء واسعة من ألمانيا في أواسط القرن الثامن عشر، كتب الرياضي توماس أبْت مقالة مشهورة دعاها الموت فداء لأرض الآباء، مجد فيها لبني جلدته من البروسيين “لذة الموت.. التي تنادي روحنا مثل ملكة من سجنها.. وتقدم في النهاية دم عروقنا إلى أرض الآباء التي تتألم، لعلها ترتوي وتنهض من جديد”.
ويرى الباحثان أن الرأسمالية لم تزعم ولا الديمقراطية الليبرالية قط أنها عقيدة بطولية. بل إن أعداء المجتمع الليبرالي يحسبون أن الليبرالية تحتفي بالعادية. والمجتمعات الليبرالية بحسب القومي الألماني آرثر مولر فان دنْ بروك، تترك “لكل واحد الحرية في أن يكون عاديا”. وهي تولي الأهمية “للحياة العادية وليس للحياة الاستثنائية”. وهذا ليس بالخطأ المطلق. إن المجتمعات الليبرالية تعطي البشر أيضا فرصة أن يعيشوا حياة استثنائية، موسومة بمنجزات استثنائية. لكن هذه المنجزات هي منجزات فردية. والأفراد يكافؤون على مواهبهم الاستثنائية بالمال والشهرة.
والرأسمالية الليبرالية هي في تعريفها بعيدة عن المساواة، ذلك أن البشر يتفاوتون في مواهبهم وحظوظهم. وفي بعض الأحيان تكون هذه المواهب، التي يبرزها النجاح في السوق، مواهب زائفة، في حين تخفق المواهب الحقيقية العميقة في أن تبرز وتطفو. وهذا واحد من الأسباب التي تدفعنا لئلا ننظر إلى اقتصاد السوق على أنه الدواء الشافي لكل علة. غير أنه من المقدر لمعظم البشر أن يعيشوا حياة غير استثنائية بالفعل. وقد تعلم الليبراليون، تمشيا مع التقليد البيوريتاني، أن يتقبلوا ذلك. بل إنهم، كما يشهد الرسم الهولندي والروايات الإنجليزية في القرن السابع عشر، يعترفون بأن للحياة العادية غير الاستثنائية كرامتها أيضا، وأنها ينبغي أن تكلل بالرعاية، لا أن تزدرى ويسخر منها.
غير أن هذا لا يمكن أن يرضي أولئك الذين يرغبون في أن يروا البطولة والمجد كجزأين من مشروع جمعي، وبديلا تاليا أحيانا. ولقد لجأت الفاشية إلى البشر العاديين على وجه الدقة، ووفرت لهم فرصة أن يلمحوا المجد من خلال ترابطهم، وشعورهم بأنهم جزء من أمة متفوقة، وفي النازية من خلال شعورهم بالانتماء إلى عرق متفوق، زعمت تلك النازية أنهم محبو فضائل فائقة وصفات روحية سامية. فالتضحية بالنفس من أجل قضية سامية، ومن أجل عالم مثالي، وإزالة الجشع والظلم، هي السبيل الوحيد أمام الإنسان العادي لكي يشعر أنه بطل. فخير للمرء أن يموت ميتة مجيدة دفاعا عن مثل أعلى من أن يعيش في komfortsmus. هكذا يغدو الموت العنيف فعلا بطوليا من أفعال الإرادة البشرية. وقد يغدو في الأنظمة الشمولية ذلك الفعل الوحيد الذي يتمتع الفرد بحرية أن يختاره.
يتابعان أن ما يمثله الغرب من تهديد، كما يبدو لأعين أعدائه، لا ينجم عن كونه يوفر منظومة بديلة من القيم، أو سبيلا مختلفا إلى اليوتوبيا. بل ينجم عن أن وعوده بالراحة المادية، والحرية الفردية، وكرامة الحياة غير الاستثنائية تفضح كل المزاعم الطوباوية. فطبيعة الليبرالية الغربية اللابطولية واللاطوباوية هي العدو الأكبر بالنسبة للجذريين المتدينين والملوك الكهنة، والجماعات الساعية وراء الطهارة والخلاص البطولي.
والطبيعة البرجوازية، المادية، غير البطولية، وغير الطوباوية التي تتسم بها الحضارة الليبرالية يمكن أن تجعل من الدفاع عن هذه الحضارة أمرا عسيرا. وحين تسود السوق الحرة، كما هو الحال في الولايات المتحدة، يشعر المثقفون أنهم هامشيون وأنهم لا يقدرون حق قدرهم، وينزعون إلى الانشداد نحو السياسة أو نحو السياسات التي تطلق أكبر المزاعم. وإذْ يأخذون حرياتهم على أنها من المسلمات، يقعون بسهولة فريسة أعداء الغرب. فجمهورية فيمار لم تسقط بسبب الوحشية النازية، أو الغباء الرجعي، أو الطموح العسكري، أو الآراء التي عبر عنها أمثال مولر فان دن بروك وحسب، بل سقطت أيضا لأن قلة قليلة وحسب كانت مستعدة للدفاع عنها.
يوضح الباحثان أن الهجوم على الغرب هو من بين أشياء هجوم على عقل الغرب، وغالبا ما يصور المستغربون عقل الغرب على أنه ضرب من البلاهة الشديدة. فأن تحمل عقل الغرب أشبه بأن تكون علامة أبله، مختلا عقليا إنما مع موهبة في إجراء العمليات الحسابية. فهو عقل بلا روح، فاعل، مثل آلة حاسبة، غير أنه لا يجدي نفعا في القيام بما هو مهم من الناحية الإنسانية. ولا شك أن عقل الغرب قادر على إحراز نجاح اقتصادي عظيم، وعلى تطوير تكنولوجيا متقدمة والارتقاء بها، لكنه عاجز عن التقاط أشياء الحياة السامية، لأنه مفتقر إلى ما هو روحي ويعوزه فهم المعاناة الإنسانية. وتعود بذرة هذا التمييز إلى ماض بعيد.
نوعان من الاستغراب

يرى الباحثان أن التمييز بين الاستغراب المتدين والاستغراب العلماني يبقى تمييزا قيما ومهما. فالاستغراب المتدين ينزع، أكثر من تنويعاته العلمانية، لأن يكون كحرب مقدسة تخاض ضد فكرة الشر المطلق. ولقد رأينا كيف عملت المصادر الدينية على تلوين اللوحة التي رسمها الاستغراب للغرب، ورأينا أيضا كيف أثرت النظرة الأرثوذكسية الروسية إلى الكاثوليكية الرومانية بوصفها خلاصة كل ما هو فاسد وخال من الروح على الأفكار الروسية عن الغرب في القرن التاسع عشر.
ومعظم أشكال الاستغراب تضع العقلانية الغربية الفارغة في تعارض مع الروح العميقة للعرق أو العقيدة التي يسبح بحمدها المستغربون. غير أن أعتى أصحاب النزعة السلافية الروسية لم يصل بهم الأمر حد اعتبار الغرب بربريا، أو الغربيين همجا. فمثل هذا الموقف مقصور على تيارات معينة من الإسلاموية، تشكل المصدر الديني الأساسي للاستغراب في أيامنا.
ويعتقدان أن الإسلاموية، كأيديولوجيا، لم تتأثر بالأفكار الغربية سوى جزئيا. وتصويرها الحضارة الغربية كشكل من البربرية الوثنية هو إسهام أصيل في تاريخ الاستغراب الخصب. فمثل هذا التصوير يمضي أبعد من التحامل القديم الذي يرى أن الغرب مدمن على المال والطمع. فالوثنية هي الخطيئة الدينية الأشنع وينبغي لذلك أن تواجه بكل ما يملك المؤمنون من قوة وقدرة على العقاب.
ويوضح الباحثان أن الاستخدام المجازي للوثنية في تصوير الغرب الرأسمالي ليس جديدا، وكذلك النظرة التي ترى أن اليهود هم النمط البدئي بين وثنيي هذا الغرب. فقد سبق لكارل ماركس، وهو الحفيد اللاذع لحاخام يهودي، أن علق ذات مرة قائلا “المال هو إله إسرائيل الغيور الذي لا يمكن أن يقف أمامه أي إله آخر. والمال يحط من شأن آلهة البشر ويحولهم إلى سلع وبضائع”.
وقد تبنى الإسلامويون الجذريون لاحقا هذا النوع من البلاغة، ولعل بعضهم قد قرأ ماركس قبل قراءة النصوص الإسلامية. لكن الاستخدام الحرفي للوثنية، والذي برز لدى الإسلام السياسي، هو اختراع جديد قاتل. ولئلا نلوم الإسلام على كل شيء، تنبغي الإشارة إلى أن فكرة الوثنية بوصفها الخطيئة الدينية الكبرى قد جاءت في الأصل من اليهودية. واليهودية، من حيث المقياس والمدى، ليست ديانة كونية. ولا يكاد يكون لها حجم يفوق حجم الطائفة. غير أنه كان لليهودية أثرها الهائل في صياغة فكرة الوثنية كمفهوم ديني أساسي.