كلام لا يكتبه إلاّ بنكاجي

كلام لا يكتبه إلاّ بنكاجي، تمامًا مثل كلام ما كان لأحد أن يكتبه سوى مندوب شركة تأمينات.
الجمعة 2024/08/23
فرانز كافكا الذي يكتب بكسر النمطية والرتابة

تفاصيل اليوم الذي التقيت فيه توفيق حيوني بنادي الصحافة في تونس مازالت عالقة بذاكرتي، ولسبب سأشرحه في ما بعد، قارنت بينه وبين فرانز كافكا.

النادي، وكان يعرف بـ"ميديا كلوب"، مكان ترتاده نماذج مختلفة من البشر، بينهم باحثون عن الشهرة، وآخرون يتصيدون الباحثين عن الشهرة، مدججين بقاموس من مفردات المديح. وفي حال أثبت المديح فشله وعدم جدواه، أشهروا سلاحًا احتياطيًا آخر من النقد اللاذع. كل ذلك مقابل دعوة إلى كأس أو كأسين من الجعة.

بين رواد النادي، هناك شخص مفرد لا شريك له، مسرحي هجر المسرح وحوّل الحياة نفسها إلى مسرح. كل من اعتاد ارتياد نادي الصحافة، الذي أُقفل لأسباب أجهلها، يعلم من هو الشخص الذي أتحدث عنه.

هناك في ركن منزوٍ، التقيته برفقة رجل ستيني يشاركه الطاولة وأمامه كمبيوتر محمول. للوهلة الأولى، خلت أن حكيم، وهذا اسمه، قد "ظفر بصيد"، ولا بد أن من يجالسه هو "أبا عبيد".

سبق أن قابلت حكيم مرزوقي في مواقف مشابهة، يمارس سحره على جلسائه مستخدمًا مهاراته في المديح والهجاء.

قدمني حكيم إلى جليسه، اسمه توفيق حيوني، "بنكاجي" يتهيأ لإصدار أول ديوان شعري له. بالطبع بتشجيع من حكيم الذي كان يطري مواهبه.

لا أخفي عليكم أنني كنت مرتابًا بكل كلمة ينطق بها حكيم، الذي كثيرًا ما مدحني أمام الآخرين بما لا أملك من مواهب.

انفض اللقاء الذي لم يدم طويلًا، وبعد بضعة أشهر رحل حكيم، وبعد ستة أشهر من رحيله قابلت "البنكاجي" وكنت قد نسيت اسمه، صدفة، في بار بضاحية المرسى. نظر كل منا للآخر متسائلًا بينه وبين نفسه أين قابلت هذا الشخص الذي يبدو وجهه مألوفًا.

كسر توفيق الصمت، لنواصل الحديث الذي لم يكتمل في نادي الصحافة. وسرعان ما افترقنا صديقين. بعد أيام، أهداني توفيق حيوني كتابه الأول؛ ديوان شعر بعنوان: "وجعلتني شاعرا" على غلافه الأخير تقديم يحمل توقيع حكيم مرزوقي.

لم يكن الضوء في المكان يكفي لأتمكن بعينيّ المتعبتين من القراءة، فانتظرت عودتي إلى المنزل.

ولكن، لماذا ذكرني توفيق بفرانز كافكا، التشيكي المولود عام 1883 لعائلة من الطبقة الوسطى، وكتب بالألمانية، وعاش في براغ المدينة التي كانت جزءًا من الإمبراطورية النمساوية؟

لا بد أن المهنة هي العامل المشترك. توفيق بنكاجي وكافكا عمل مندوب مبيعات في شركة تأمينات، وكلاهما نجح في كتاباته بـ"كسر النمطية والرتابة".

"لغة أنيقة لا ترتدي السموكن.. كتاب ينبه إلى أن الحب ما زال يصنع الدهشة ويعيد النظر في التاريخ والجغرافيا وما بينهما.. أهم ما يميزه هو كسر النمطية حتى في ادعاء كسر النمطية".

هذا ما قاله حكيم في تقديمه الرشيق للكتاب. وهل هناك قلم أرشق من قلم حكيم.

ورحت أقرأ قصائد منسوجة على طريقة الـ"هايكو":

"لتذهب السعادة إلى الجحيم

الأحزان أكثر جمالًا وأكثر وفاء

ولم تتأخر عني يومًا".

لأزداد قناعة أن حكيم حين قدم الكتاب لم يكن منتشيًا بكأس جعة، بل منتشيًا بكلام "يبدو بسيطا كالماء، وواضحا كطلقة مسدس".

كلام لا يكتبه إلاّ بنكاجي، تمامًا مثل كلام ما كان لأحد أن يكتبه سوى مندوب شركة تأمينات.

18