"حياة الماعز" رحلة فلسفية إيمانية وليس فيلما ضد السعودية

الضجيج لا يصنع حوارا، والغضب يجهض النقاشات البناءة. كلاهما يعمي العقول قبل الأعين عن الرؤية الهادفة والفكرة الجادة. ينطبق هذا على الفيلم الهندي "حياة الماعز" الذي أثار جدلا واسعا عقب إتاحة الترجمة العربية له على منصة نتفليكس، بعد عرضه في دور السينما الهندية في نهاية مارس الماضي، وحقق أرباحا طائلة.
اعتبر كُتاب ونقاد ومغردون سعوديون أن فيلم “حياة الماعز” الهندي يستهدف الإساءة إلى بلدهم، عبر انتقاده نظام الكفيل بمبالغة مقصودة، من خلال قصة عامل هندي صارع الموت في الصحراء هربا من كفيله السعودي. في المقابل احتفى آخرون كارهون للسعودية بالفيلم على مواقع التواصل الاجتماعي، وأنه نجح في إسقاط مشروع النهضة الفنية السعودية.
تكشف مشاهدة عميقة للفيلم عدم صحة الموقفين، وتسلط الضوء على جوانب فكرية وفلسفية ومجتمعية مهمة يطرحها العمل بعمق وتشويق وجاذبية، يعجز المتعصبون على الجانبين عن رؤيتها، إن كانوا قد شاهدوا الفيلم قبل الهجوم عليه أو الدفاع عنه أساسا.
رحلة الإنسان في الأرض
فيلم “حياة الماعز”، بطولة بريثفيراج سوكوماران، وجيمي جان لويس، وأمالا بول، والممثل العماني طالب البلوشي، مع ظهور الممثل الأردني عاكف نجم كضيف شرف، وسيناريو وإخراج بليسي إيب توماس، عن رواية للكاتب الهندي بينيامين، بناء على قصة حقيقية لعامل هندي يحمل بطل الفيلم اسمه وهو نجيب محمد.
قبل مناقشة ما تعرض له الفيلم حول نظام الكفيل في السعودية، تجدر الإشارة إلى الأبعاد الفكرية والإيمانية الأعمق التي يطرحها العمل، وغابت عن الجدل الدائر حوله.
تبدو رحلة البطل في الصحراء بحثا عن طريق للهروب من المعاناة، تعبيرا عن رحلة الإنسان في الأرض سعيا إلى طريق النجاة، متقلبا بين الشك واليقين، بين اليأس والأمل، بين الرفض والصبر.
فالبطل نجيب محمد، الهندي المسلم، إنسان مسالم، متدين، كما تدل على ذلك إشارات عديدة في بداية الفيلم ضمن حواره مع صديقه. تبدأ معاناته في كنف رجل سعودي بدوي خشن التقاهما في المطار، وأخبرهما بأنه كفيلهما، ليصطحبهما بعدها، ويفرقهما عن بعضهما البعض.
يعمل البطل في رعاية الأغنام في الصحراء، رغم أن عمله الأصلي الذي غادر بلده ليلتحق به يُفترض أن يكون في شركة، مع الإقامة في غرفة مكيفة، لكن يتم حرمانه من أبسط مقومات الحياة، من ماء للاستحمام أو تناول طعام كاف، فضلا عن قيام السعودي بتمزيق جواز سفره، وضربه لأتفه الأسباب.
لا يعرف نجيب شيئا عن حياة الأغنام، فيضربه الكفيل بعنف بسبب ذلك، فيبدأ في مخاطبة الماعز طالبا منها الاستجابة له، قائلا “أرجوكِ.. حتى لا أتعرض للضرب”، فتقف له إحداها بهدوء كي يحلبها، وتُحدث أخرى صوتا يتفاعل معه باقي القطيع الذي فر منه ويعود إليه. يأتي ذلك كله بعد أن يناجي الله بدموعه: “يا رب”.
وسط الألم والظلم والدموع، يعود السيناريو بتقنية “فلاش باك”، ليتذكر نجيب حياته في ولاية “كيرلا” الهندية، التي تبدو كالجنة، كان يحيا فيها مع زوجته الجميلة ساينو التي يحبها، لكنه يغادر “جنته” بحثا عن الرزق، حالما مع حبيبته بإنجاب طفلين يسميانهما نبيل وصفية، يربيانهما في رغد ورخاء.
تقع عين البطل فجأة في الصحراء على مرآة سيارة تجلب المياه للمزرعة الصغيرة، فيرى نفسه لأول مرة وقد طالت لحيته، وبدا مظهره مثل الوحش، عاد بدائيا في صورة الإنسان الأول، لا يعرف كم من الزمن مر عليه في هذه الصحراء.
صورته تجذبه إلى قاع بئر الهم، وترفع داخله منسوب الألم، فيحاصره اليأس. يهم كعادته بالدعاء، لكن يهاجمه الشك. يخاطب نفسه “لماذا أدعو الله؟ لماذا أصلي لله؟ لماذا يحدث لي كل هذا إن كان هناك إله”، يصعد إلى جبل، ويعتزم القفز منه والانتحار.
يظهر أمامه فجأة طير جارح مرعب، فيخاف منه، ويبتعد عن حافة الجبل، ثم يلتفت ليجد مجموعة من الطيور المماثلة تنهش على مقربة جثة عامل هندي طاعن في السن كان التقاه أول وصوله إلى المزرعة لكنه اختفى، فيحاول مصارعة الطيور إنقاذا للجثة لكنه يفشل.
رحلة البطل في الصحراء بحثا عن طريق للهروب من المعاناة تبدو تعبيرا عن رحلة الإنسان في الأرض سعيا إلى طريق النجاة
جاء ظهور الطير أمامه كنذير منعه من الانتحار، وأعاد مشهد جثة الرجل الهندي الممزقة إليه شعور التمسك بالحياة، فيحاول الهرب في الصحراء، لكن الرجل البدوي يطلق النار عليه، فيصيبه، ويرجعه إليه.
لسنوات لا يحصيها، يتوحد نجيب مع الأغنام، يحبها ويعيش حياتها، بل إنه يشاركها طعامها وشاربها. وفجأة، يسمع في الصحراء صوتا، يتبين له أنه يعرفه، إنه هو، صديقه حكيم، الذي جاء من بلده معه، يعمل مثله في مزرعة مجاورة، وقد تغير شكله أيضا.
صار كل منهما كالإنسان البدائي الأول، يحتضنان بعضهما البعض، ويبكيان بحرارة، ويتبادلان السؤال “كم من الوقت مر؟” لا أحد يجيب، فلا أحد يعرف بدقة عمر الإنسان على الأرض؛ عمر الألم والمعاناة بعد مغادرة الجنة.
وتلمع الفكرة؛ يخبر حكيم صديقه البطل نجيب بخطة للهرب، خلال حفل عرس ابنة أحد البدو بعد أيام. الفكرة يكتبها حكيم في رسالة يتركها لصديقه في الصحراء، لكن الرسالة تظل تتطاير بفعل الرياح حتى يصل إليها نجيب بصعوبة، ويقرأها.
في الرسالة، يخبر حكيم صديقه عن زميل له في المزرعة، أفريقي، اسمه إبراهيم قادري، يعرف الطرق في الصحراء، سيتولى إرشادهما ليهربوا جميعا، ويصف حكيم هذا الرجل قائلا “كأنه أرسل إلينا.. مثلما أرسل الله النبي موسى كي نصل إلى الله”.
يودع نجيب الأغنام والجمال في المزرعة، بعد رحيل صاحبها البدوي لحضور حفل العرس، ويغمر نفسه أخيرا بالماء الذي كان حلما له، كأنه الحياة، فمن الماء جُعِل كل شيء حي.
الطريق إلى الله
تبدأ رحلة الهروب، نجيب وحكيم يتبعان أثر إبراهيم قادري، المسلم الطيب، ذي القسمات المريحة الهادئة، دائم الدعاء إلى الله. ويصلي نجيب خلف قادري، ويبكي، بعد أن اعترته في لحظة ألم عميق همزة من همزات الشك.
يتخفف الثلاثة من الأحمال خلال الرحلة، بناء على طلب إبراهيم، فلا شيء يُحمل من متاع الدنيا في طريق الخلاص.. الطريق إلى الله.
تتكرر كلمة “الطريق” على ألسنة الثلاثة خلال رحلة البحث في الصحراء؛ أين الطريق؟ وتتواصل المعاناة لفترة قد يراها المشاهد في الفيلم طويلة أو مملة، لكنها فنيا جاءت لتتماهى مع الملل الوجودي، ووطأة الحياة الدنيا.
يستحث إبراهيم قادري قوة نجيب التي خارت خلال الرحلة، دون طعام أو ماء أو بارقة تشير إلى قرب الوصول، قائلا “هيا.. انهض.. قف.. يجب أن نمشي.. يجب أن نمشي حتى الموت”.
لكن مسيرة البشر في رحلة الدنيا حتى الموت غير مضمونة العواقب، والنهايات لا ترتبط بالبدايات فحسب، فالمهم هو التحمل والصبر حتى آخر رمق، فها هو حكيم الأكثر إيمانا وذكرا لله، بلا لحظة شك مثل نجيب، ينهار من التعب، ويرى على البعد ما يظنه ماء، لكن قادري ينهاه عنه قائلا إنه سراب الصحراء.
يشك حكيم في قادري بعد أن وصفه في السابق “كأنه أرسل إلينا”. يفقد الثقة فيه، ويمسك بخناقه، متسائلا بغضب “لماذا لا نصل إلى طريق ما؟ يضلنا الشيطان عن طريقنا”، وبعدها يسقط حكيم ميتا.
كان طبيعيا أن يموت حكيم ويبقى نجيب، إذ إن محاولة إدراك الحكمة في كل شيء في الأرض محكوم عليها بالهلاك، كأنما يقول له قادري، الذي يتماهى فنيا مع قصة سيدنا الخضر، “هذا فراق بيني وبينك”، وما يبقى ويثمر هو أن يكون الإنسان “نجيبا” في مسعاه لأجل الوصول، مجدا في البحث عن الطريق بتلمس الأسباب بالعقل وبحسن تلقي الرسائل والإشارات، عبر الإيمان برب الطريق والأسباب.
لسنوات لا يحصيها، يتوحد بطل الفيلم العامل الهندي نجيب مع الأغنام، يحبها ويشاركها حياتها بل إنه يشاركها طعامها وشرابها
يرسل الله إلى قادري ونجيب معا إحدى السحالي الصغيرة تمرق أمامهما في الصحراء، فيتهلل قادري، لأن وجودها يشير إلى وجود موقع قريب للماء، وبالفعل يعثران على واحة في الصحراء، فيبتسم قادري برضا ويقول “الحمد لله أنك أظهرت لنا الطريق”.
يهم نجيب بأن يعب عبا من الماء، من الحياة، لكن قادري ينهاه، ويضع له قطرات صغيرة فقط أولا في فمه، ويعثر على زجاجة ملقاة، فيعيد الابتسام ويضع فوهتها في فمه، ويبدأ إطلاق الأنغام.
ينام الاثنان، يستريحان، لكن نجيب يستيقظ ليجد الزجاجة ممتلئة بالماء، وفوهتها مغلقة بحبة تمر، ولا يعثر على قادري، يختفي أثره تماما، يغيب كما المرسلين من الله، بعد أن أدوا رسالاتهم، وتركوا آثارهم يقتفيها الإنسان، وبالفعل يشرب نجيب ويأكل، ثم يضع الزجاجة جانبا لتتدحرج على الرمال، ويفاجأ المشاهد بها وقد وصلت أخيرا إلى الأسفلت لتدل نجيب على الطريق.
عبرت موسيقى الفنان العالمي آي.آر رحمان عن أدق التفاصيل خلال رحلة أبطال الفيلم، لتعكس الأفكار العميقة في العمل الفني الكبير، فنجد الإيقاعات الموسيقية الهندية المبهجة هي البطلة في مشاهد الفلاش باك، بينما يصاحب الناي الحزين والموسيقى الجنائزية رحلة نجيب ورفيقيه في الصحراء.
وجاءت الموسيقى لتحمل على جناح السلام والسكينة تلك الكلمات العذبة، الأقرب إلى الصوفية في الأغاني والأناشيد التي صاحبت رحلة الصحراء، ومنها “يا مصدر الخير.. كلماتُكَ هي النجوم التي ترشدني.. من دونك أنا ضائع وأتلاشى بعيدا.. ألقِ بعض الضوء عليَّ حيث أنت”.
بين الحسن والقبح

فيلم “حياة الماعز” مدته ساعتان وخمسون دقيقة، أغلبها يدور حول مجموعة من الأفكار الفلسفية الإيمانية العميقة، لذا فإن اختزاله في كونه عملا فنيا يسيء إلى السعودية أمر ليس في محله، لكن يحق للمواطن السعودي بالطبع أن يتساءل حول موقف الفيلم من بلده، وعنوان الإجابة عن أي تساؤلات في هذا الصدد هو أن تتم مشاهدة الفيلم، وليس مجرد القراءة عنه.
يصعب أن يجد المشاهد المدقق أن الفيلم يستهدف الإساءة بشكل مقصود أو عدائي، ففي مقابل الكفيل السعودي الذي عذب وظلم العامل الهندي، وقام بدوره الممثل العماني طالب البلوشي، هناك شخصية المواطن السعودي الذي اصطحب نجيب بعد وصوله إلى الطريق الأسفلتي، ولعب دوره كضيف شرف الممثل الأردني عاكف نجم.
ظهر هذا الرجل مثالا للإنسانية والرحمة بقسماته المريحة الهادئة، ولم ينفر من نجيب الذي بدا مثل الغول من أثر إعياء الرحلة، ولم يخش أن يلوث سيارته الفارهة، إنما منحه الماء، وقبله الطمأنينة والسكينة، ولم يتركه إلا بعد الوصول إلى المدينة، ليغادر نجيب السيارة أمام أحد المساجد، بينما يعلو النداء من المئذنة “الله أكبر”.
يضاف إلى ذلك، ما تبين في آخر الفيلم من أن الكفيل السعودي المزعوم، لم يكن هو الكفيل الحقيقي لنجيب وحكيم، إنما هو رجل نصاب استغل طيبتهما وعدم فهمهما اللغة ليوهمهما بأنه كفيلهما، ما يعني أنهما كانا بالفعل في طريقهما إلى العمل بالشركة وفق المتفق عليه معهما قبل السفر، لولا خدعة الرجل.
هي سلوكيات فردية إذا، والفيلم يشير إلى النماذج الحسنة من الشخصيات السعودية والأخرى القبيحة، فضلا عن أن الفيلم قائم على قصة حقيقية وقعت بالفعل، وتقديمها روائيا أو سينمائيا لا يعني أنها النموذج الأكثر انتشارا، في ظل وجود أرقام كبيرة من العمال الهنود والآسيويين عموما في السعودية لسنوات طوال، كما أن الوقائع لا تنفي إمكانية حدوثها، في ظل شكاوى يتقدم بها البعض من حين إلى آخر.
ويشير الفيلم على لسان إحدى الشخصيات إلى زمن أحداث القصة، بعد حرب الكويت بعام واحد، وقد حدثت الواقعة الحقيقية عام 1992 بالفعل، كما جاء في رواية “أيام الماعز” للكاتب الهندي بينيامين، ترجمة سهيل الوافي، التي لم تُقرأ عربيا بما يكفي.
وأعلنت السلطات السعودية بدء تطبيق إلغاء نظام الكفيل، يوم 14 مارس 2021، سعيا إلى رفع القدرات التنافسية لسوق العمل السعودي، لتعزيز “رؤية 2030”. وفي سبتمبر 2022 تم إدخال تعديلات جديدة استهدفت تعزيز حرية العمال في التنقل والبحث عن فرص عمل أفضل، دون الحاجة إلى موافقة صاحب العمل، وتحسين ظروف العمل وبيئته لتصبح أكثر أمانا وإنصافا، مع تقلص فرص الاستغلال وسوء المعاملة.
في ضوء كل ذلك، فإن ما تعرض له الفيلم إنما يرجع إلى زمن سابق على هذه التعديلات، وهو نقد يهدف إلى الاستمرار في الإصلاح، وليس استهدافا هادما يسعى “بمبالغة هندية” إلى النيل من “بلاد الحرمين”، وفق ما ذهبت إليه بعض الأقلام.
وليس أدل على أن الفيلم تم الهجوم عليه دون مشاهدة أو قراءة أو معلومات، من أن أغلب ما نشر عنه قد خلط بين اسم الرواية واسم مؤلفها، فأشارت كتابات إلى أن الفيلم قائم على رواية باسم “بينيامين”، وليس “أيام الماعز”، ما يضع علامات تعجب إزاء عدم التدقيق أو الموضوعية.
وأخيرا، فإن الهجوم السعودي على الفيلم لمجرد عرضه نموذجا فرديا لشخصية سعودية سيئة يفتح الباب أمام تساؤلات عديدة، يمكن توجيهها عندئذ إلى الإنتاج الفني السعودي في ظل نهضة التحديث الحالية، حول شخصيات اللصوص والنصابين من جنسيات غير سعودية الذين يتم تقديمهم في الأعمال الفنية الجديدة، فهل المقصود من ذلك هو الإساءة لشعوب ودول بالكامل؟
الإجابة بالطبع هي النفي، سواء كان أبطال هذه الأعمال سعوديين أو من أي جنسية، فما هكذا يتم التعامل مع الفن، وليس هناك عمل فني يمكن أن يهدم دولة أو يسيء إلى شعب لمجرد أنه تناول نموذجا سلبيا في إطار درامي حقيقي، مثل فيلم “حياة الماعز”، فلماذا غضب السعوديون إذا؟