تأجيل عرض "الملحد" يطلق يد الرقابة المجتمعية في مصر

في ما مضى كانت الأعمال الفنية بمختلف دول العالم العربي ومن بينها مصر ترزح تحت الرقابة السياسية، التي تمنع هذا العمل وتجيز ذاك وتقص من ذاك، ولكن اليوم بات المبدعون محاصرين برقابة أشد، هي رقابة المجتمع الذي صار حكما يمنع الأعمال ويجيزها، والمريب أن هذا يتم دون ضوابط أو معايير بل وفق الأهواء المتضاربة أحيانا.
القاهرة - كشف قرار تأجيل عرض فيلم “الملحد” الذي كان سيتم عرضه الأربعاء عن تحديات مجتمعية عدة تعترض طريق الخروج عن المألوف في الإبداع الفني، وعبّر عن خيارات خاطئة يسلكها المبدعون في تعاملهم مع الوعاء الفكري والأخلاقي والقيمي للجمهور، وهو ما تنتج عنه صدامات مختلفة تطفو على السطح.
وكان من المقرر أن ينظم القائمون على الفيلم عرضا خاصا له الثلاثاء، غير أن موجة الانتقادات لعمل لم يتم الإفصاح عن كامل تفاصيله منذ طرح بوستراته الدعائية دفعت باتجاه وقف عرضه من دون أن يكون ذلك صادرا عن جهة رسمية أو مؤسسة بعينها، ما يشي بأن الجهات المسؤولة عن خروج الأعمال الفنية إلى النور تخضع لرؤى مجتمعية، يضعها أصحابها في اعتبارهم.
سيطر الارتباك على صناع فيلم “الملحد”، وتباينت مواقفهم بشأن أسباب التأجيل بين من اعتبره منعا مباشرا للعمل الفني وبين تأكيد منتجه أحمد السبكي أن إرجاء العرض جاء لاستكمال أعمال المكساج والمونتاج، على الرغم من انتهاء مراجعة عمل ظل حبيس الأدراج أكثر من عامين وخضع لتعديلات قبل الإعلان عن عرضه.
تدور قصة فيلم “الملحد” حول الطبيب الشاب يحيى (يجسد دوره الفنان أحمد حاتم) الذي ينتمي إلى عائلة متشددة دينيا ووالده شيخ جماعة متطرفة، ويمر البطل بتغييرات في معتقداته يقرر على إثرها المجاهرة بالإلحاد أمام الجميع، ويحاول عمه التدخل بمساعدة طبيبة نفسية من أجل حل الأزمة التي تتصاعد. ويشارك في بطولة الفيلم محمود حميدة وصابرين وشيرين رضا ونجلاء بدر، وهو من تأليف الكاتب إبراهيم عيسى، وموسيقى تصويرية راجح داوود، وإخراج ماندو العدل.
ووقع الفيلم في مصيدة الانتقاد المجتمعي والتحريض السياسي والرفض الديني، لأن قصته تتناول قضية منبوذة وتخضع لجدل واسع حول المتسبب فيها، وجعلت سهام الاتهامات تطاله من قطاعات عدة، نظرت إليه باعتباره يروج لما هو مرفوض دينيا.
وجاء موعد عرض الفيلم متزامنا مع مظلومية يعيش عليها تنظيم الإخوان في 14 أغسطس الذي شهد قبل عشر سنوات فض اعتصام رابعة العدوية بالقاهرة وخلق عداوة مع جماعات راديكالية ترفض مثل هذا النوع من الإبداع، إلى جانب مؤلفه (إبراهيم عيسى) الذي دخل في صراعات مع تنظيمات متشددة، وعبر عن مواقفه التي تحمل أحيانا اجتهادا مختلفا عن السائد، ما جعل عوامل الرفض تتراكم حول الفيلم.
وربما لو جرى تقديم الفيلم من دون ذكر اسم مؤلفه لما حظي بمثل هذا الهجوم، خاصة أن مراحل صناعته كانت مصاحبة لضجة أثارها عيسى بشأن تصريحات له حول رحلة الإسراء والمعراج، وما صاحبها من انسحاب الفنان الراحل مصطفى درويش من فريق عمل فيلم “الملحد”، الأمر الذي يبرهن على أن قصة الفيلم غير المعروفة بشكل دقيق لم تكن سببًا وحيداً في الهجوم عليه.
تشير هذه العوامل إلى أن صُناع العمل كان بإمكانهم التعامل بقدر أكبر من الاحترافية لتمرير رسالتهم التي يهدفون إلى تقديمها، دون أن يكون ذلك مثار تحفز من قطاعات مجتمعية تتأثر بالبيئة الدينية المحيطة بها.
كما أن اختيار موعد العرض لم يكن موفقَا لأنه فسح المجال لسهام أخرى من أطراف تعادي الفن، بجانب أن القائمين على إدارة المصنفات الفنية لم يحافظوا على الصورة العامة للفيلم، لأن تأجيله لفترات طويلة برهن على وجود مشكلات استوجبت ذلك، وساهم ذلك في اتساع دائرة الرفض.
يقول الناقد الفني طارق الشناوي إن تأجيل الفيلم مؤشر سلبي للغاية لأنه تسليم بسلطة مواقع التواصل الاجتماعي التي تمت الاستجابة لاتجاهاتها، وهي ليست المعادل الموضوعي للرأي العام في مصر، وكان على الجهات الرسمية ترسيخ قاعدة بأن توجيه الانتقاد لأي عمل فني يصعب أن يكون قبل عرضه، ومشاهدة العمل هي الفيصل للحكم عليه، وتصدير اسم إبراهيم عيسى كان قد أسهم في زيادة وتيرة الانتقادات الموجهة إليه.
ويوضح في تصريح لـ”العرب” أن الصدام بين مؤلف الفيلم وجماعات دينية وبعض العوام في المجتمع ليس مبرراً لرفض العمل ووقف عرضه، لأنه ذهب إلى الرقابة كنص ثم كشريط سينمائي وجرت الموافقة عليه في المرتين، فإن ذلك يؤكد أنه لا مشكلة في الفيلم، ويصعب لدولة مثل مصر أن تقدم عملا فنيا يروج للإلحاد، كما أن الفيلم خضع لتنقيح الرقيب مرات عديدة وليس هناك مبرر لوقف عرضه.
فيلم “الملحد” يسجل التجربة الخامسة للكاتب إبراهيم عيسى فى السيناريو السينمائي، بعد أفلام “خيانة مشروعة” بطولة هاني سلامة ومي عزالدين وسمية الخشاب، و”مولانا” بطولة عمرو سعد ودرة، و”الضيف” بطولة خالد الصاوي وشيرين رضا وأحمد مالك وجميلة عوض، و”صاحب المقام” بطولة آسر ياسين ويسرا وأمينة خليل وبيومي فؤاد، وهي لم تشهد جدلاً واسعا مثلما أثاره فيلم “الملحد”.
ويشير طارق الشناوي في حديثه لـ”العرب” إلى أن الفيلم جرى إرجاء عرضه لأجل غير معروف بقرار شفوي، وأن تأثيرات ذلك ستكون سلبية على صناعة السينما في مصر وتنوعها، وأن الكثير من المنتجين لديهم تخوفات من الخروج عن المألوف لأن تحديد ميزانيات دون أن تحقق أي عوائد، ودون أن تتدخل الحكومة لتعويضهم، سيؤدي إلى خسائر فادحة في وقت تستهدف فيه جهات عديدة تطوير الصناعة.
ولم تكن هذه المرة الأولى التي تشهد رفضا مجتمعيا لأفلام سينمائية، وكانت واقعة فيلم “حلاوة روح” بطولة هيفاء وهبي عام 2014 الأكثر جدلاً بعد أن صدر قرار من رئيس الحكومة المصري إبراهيم محلب في ذلك الحين بوقف عرض الفيلم وإعادته إلى المصنفات الفنية، وكان ذلك مبررا بأنه يعتمد على الإغراء دون وجود رسالة واضحة.
وسبقت ذلك ضجة أثارها فيلم “بحب السيما” بطولة محمود حميدة وليلى علوي في العام 2004، وقدم محامون ورجال دين مسيحيون دعوى قضائية للمطالبة بوقف عرض الفيلم بحجة ما تضمنه من سخرية من العقيدة المسيحية، لكن جرى رفض الدعوى، ولم يتم سحبه من دور العرض.
تكشف مثل هذه الوقائع التي تتعرض لها الأعمال الفنية في مصر أن الرقابة المجتمعية دائما تضاهي أو تفوق قوة الجهات المسؤولة عن إتاحة الأفلام للعرض، وعلى مدار سنوات ماضية لم تشهد محاولات حقيقية لإحداث تغييرات فكرية يمكن أن تساهم في الانفتاح على الإبداع ومناقشته والاعتراض عليه في حال لم يكن مناسبا، غير أن الوصول إلى مرحلة المنع المسبق برهن على أن المجتمع يعاني أزمة في التعامل مع الآراء المختلفة، وأن ذلك ينعكس بالتبعية على نوعية الأفلام المقدمة التي تبحث دائما عن مساحات آمنة لا تضعها في دائرة المقاطعة أو الانتقادات.
ويؤكد الناقد الفني عمرو صحصاح أن قرار تأجيل عرض الفيلم خاطئ للغاية وليس من المنطقي الاستجابة لمواقع التواصل، رغم إجازة العمل رقابيا، وطالما جرى تقديم النسخة النهائية لدور العرض استعداداً لعرضه فإن أي قرار آخر يعبر عن ارتباك وعدم قيام الجهات الرقابية بمسؤوليتها على الوجه الأمثل، وأن ترك الفيلم للتقييم أو الانتقاد بالسلب والإيجاب كان القرار الأسلم.
ويشدد في تصريح لـ”العرب” على أن مثل هذه القرارات تقيد صناعة الفن لأن هناك هيئة داخل المصنفات الفنية تبقى كل مهمتها التعامل مع كل ما هو خارج عن القانون والآداب العامة، وبالتالي فإنه من المتوقع أن تتزايد القبضة على الإبداع حشية الرفض المجتمعي، لافتا إلى أن منع الأفلام في عقود سابقة كان راجعا إلى أسباب سياسية وأن الأمر طال الآن أيضا الأسباب الدينية والمجتمعية.
وكانت محكمة القضاء الإداري حددت السبت 24 أغسطس الجاري موعدا للنظر في الدعوى التي قدمها رئيس نادي الزمالك السابق المستشار مرتضى منصور لوقف وسحب تراخيص الفيلم داخل مصر وخارجها. واتهم في الدعوى وزير الثقافة أحمد فؤاد ورئيس الرقابة على المصنفات الفنية خالد عبدالجليل ومؤلف الفيلم الكاتب إبراهيم عيسى والمنتج أحمد السبكي بالحض على الإلحاد وهدم ثوابت الدين، وحمل الرسائل السلبية لهدم كل القيم الدينية في المجتمع.