محاربة البطالة واختلاق فرص التشغيل في الجزائر

يبقى خلق فرص الشغل أهم معيار في نمو أيّ اقتصاد، وهو عنوان نجاح أيّ حكومة في الدفاع عن حصيلتها ومواجهة خصومها، لكن الفرق بين الخلق والاختلاق هو الفاصل بين أي مخطط لمواجهة البطالة، وبين أي سياسة تريد ذر الرماد في العيون وملء الفراغات البيانية.
إلى سنوات قليلة رفع الرجل الفاعل في منظومة الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، وقريب الأسرة الحاكمة آنذاك جمال ولد عباس، سيف الانتصار على البطالة بفضل البرنامج الوردي لـ”فخامة” الرئيس، بعدما أضاف المستفيدين من المنح والتحويلات الاجتماعية، وبعض الفئات الهشة التي فتحت لها مناصب شغل وهمية.
والآن يستمر قطاع الوظيفة العمومية في استقطاب العدد الأكبر من الذين حازوا على مناصب شغل، فقد تم دمج نحو 60 ألفا في مختلف الاختصاصات الإدارية، وآلاف أخرى في قطاعي التعليم والجامعات والصحة، وهي كلها مسَكّنات للجبهة الاجتماعية وعبء جديد على الخزينة العمومية.
وفي المحصلة فإن الأمر لا يتعدى مجرد تسوية من حكومات الرئيس الحالي عبدالمجيد تبون، لوضع اجتماعي ومهني ورثته عن الحكومات السابقة، فقد تركت حصيلة فترة بوتفليقة عشرات الآلاف من عمال وموظفي القطاع الحكومي في وضع معلق، فلا هم بطالون ولا هم عمال، لأن قريحة أصحاب القرار حينها اختلقت حيلا إدارية لصناعة نسيج من المسحوقين اجتماعيا ونفسيا، فرواتبهم تتراوح بين ثلث وثلثي الراتب الأدنى المقدر آنذاك بـ160 دولارا، والأهم بالنسبة إليها أن تُدرجهم في بيانات فرص الشغل ومحاربة البطالة.
الحكومات المتعاقبة للرئيس تبون راهنت على الاقتصاد الرقمي وعلى اقتصاد المعرفة والمؤسسات الناشئة والمقاول الذاتي، لكن لا حصيلة قدمت إلى حد الآن لتعلم الجزائريين بتعداد فرص الشغل التي خلقت في السنوات الأخيرة في إطار الآليات المذكورة
واللافت أن نفس النهج لا زال مستمرا مع بعض الاختلافات، ما دامت فرص التشغيل مركزة على قطاع الوظيفة العمومية، كالإدارات والخدمات والمرافق الحكومية، في حين يجهل وضع القطاع الاقتصادي الذي خرج من أزمة كوفيد، ومن مستنقع فساد أدى إلى تسريح آلاف العمال، أما حلم التشغيل فهو مؤجل لإشعار آخر لأن آلة الإنتاج الاقتصادي ونشاط المؤسسات المصغرة لا زال معطلا.
وبين ضغط الجبهة الاجتماعية وإلحاح بعض الحاجيات، أذعنت الحكومة للخطاب السياسي للسلطة، وألحقت عشرات الآلاف من المتعاقدين والمحتجين بمناصب شغل غير منتجة، كما كان الشأن مع قرار توظيف عشرات الشباب في مناطق الجنوب، بمرافق الشباب والرياضة، تحت مسمّى فتح الفرص أمام هؤلاء للالتحاق بالقطاع، بينما لبّ القرار كان دغدغة مشاعر وامتصاص غضب شباب الجنوب.
في العادة يرتبط خلق مناصب الشغل بدوران عجلة الاقتصاد وبالنمو، بينما اختلاقها يتصل في الغالب بأجندة سياسية تستهدف تلميع صورة السلطة أمام شعبها، وإذ كان المفعول سيسَكّن ألم البطالة آنيا، فانه يصبح عبئا وحتى أزمة في المستقبل، فتشبّع الوظيفة العمومية ينهك الخزينة، وغياب تنوع وتعدد موارد الدخل لتغطية تلك الأعباء، يجعلها رهينة أسعار الطاقة التي لا تؤتمن مهما كانت أريحيتها.
رسمت تقارير البنك المركزي والمجلس الوطني الاجتماعي والاقتصادي، صورة وردية للوضع العام في البلاد، مدعومة في ذلك ببيانات إيجابية قدمها البنك العالمي، لكن دون تقديم تفاصيل دقيقة لأرقام البطالة والتشغيل، سواء في القطاع الحكومي، أو الخاص أو الاقتصادي وحتى الزراعي، وكأن القائمين على الأمر لا يملكون الحقائق كاملة.
لا زالت الجامعات والمعاهد العليا تدفع بربع مليون شاب سنويا، ولا زالت المدارس تلفظ أعدادا معتبرة كل عام، وهذا أكبر تحدّ أمام أيّ حكومة تريد تقديم خدماتها للمجتمع، ولاستقطاب الأعداد المتراكمة والتحكم في الأرقام السنوية، يتطلب تعبئة حقيقة للنسيج الاقتصادي وتفعيل النشاط المؤسساتي والإنتاجي، بدل اللجوء في كل مرة إلى ضخ عدد معين من البطالين في هذه الوظيفة العمومية أو تلك.
الحكومات المتعاقبة للرئيس تبون راهنت على الاقتصاد الرقمي وعلى اقتصاد المعرفة والمؤسسات الناشئة والمقاول الذاتي، لكن لا حصيلة قدمت إلى حد الآن لتعلم الجزائريين بتعداد فرص الشغل التي خلقت في السنوات الأخيرة في إطار الآليات المذكورة.
في ظل شلل القطاع الاقتصادي العاجز إلى حد الآن عن تحريك عجلته، لتكون مناصب الشغل حقيقية وليست وهمية، ترتبط بالإنتاج والمردودية، وليس بضخ المزيد من الأفراد في الإدارات، و”ادفعي يا خزينة”
لقد تم استحداث منحة البطالة، وقدمت على أنها إنجاز استثنائي يكفل للشاب البطال الحد الأدنى من الحياة الكريمة، وهي محقة في ذلك قياسا بألم وتداعيات البطالة والفراغ على حياة الشاب، لكن رقم البطالين يبقى في حدود المليونين منذ استحداث الآلية، وباستثناء فرص محدودة للحصول على مناصب عمل أو تكوين مهني يهيئ صاحبه لسوق الشغل، فإن السقف ثابت في مكانه ويمكن أن يتضاعف لولا الإجراءات الصارمة على الاستفادة من المنحة، بما أن التقديرات الأولية ذهبت إلى حساب أربعة ملايين بطال.
البطالة في الجزائر لا تختلف كثيرا عن الاقتصاد الموازي، فحتى الدوائر الرسمية صعب عليها تقديم تقديرات قريبة، حيث تضاربت الأرقام بين الـ90 و60 وحتى 50 مليار دولار، وكذلك البطالة قدرت بين 12 و10 وحتى 4 ملايين، وفي العموم الدخل ممكن في المدن الكبرى ويرتبط بفرص وفرة وتعدد المرافق والخدمات، ويقل تدريجيا كلما تم التوجه إلى المناطق الداخلية والجنوبية حيث تقل الاستثمارات والخدمات.
وفي العموم هي نوع من أنواع اختلاق مناصب الشغل، فهي تتراوح بين الطابع الهش وبين الأجندات السياسية، والخزينة العمومية هي التي تتكبد خسائر عدم الانتساب إلى الصناديق والمؤسسات الاجتماعية، وتخلق تفاوتا في بلورة بيانات حقيقية تحدد أرقام البطالة.
منذ تسعينات القرن الماضي استحدثت الحكومات المتعاقبة آليات عديدة لمحاربة البطالة وخلق فرص الشغل، لكن النتائج ظلت دون المأمول، في ظل شلل القطاع الاقتصادي العاجز إلى حد الآن عن تحريك عجلته، لتكون مناصب الشغل حقيقية وليست وهمية، ترتبط بالإنتاج والمردودية، وليس بضخ المزيد من الأفراد في الإدارات، و”ادفعي يا خزينة”.