هل تنقذ بركة "الشاذلية" المشروب السحري

للقهوة والمقهى الجزائرية، تاريخ حافل خلال ثورة التحرير، فقد كانت مشروبا يستعمله الثوار للارتخاء وللتركيز والنشاط، وكانت فضاء للتواصل وتبليغ الرسائل وعقد الاجتماعات السرية.
الثلاثاء 2024/08/06
للقهوة مكانة خاصة عند الفرد الجزائري

أعاد الغلاء الذي تشهده مادة البن في مواطن إنتاجها بأفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا، الحديث عن المشروب الأسود الذي سحر الناس في مشارق الأرض ومغاربها، إلى أن وصل استهلاكه إلى 12 مليار كوب في اليوم، والرقم مرشح للارتفاع لأن الصينيين بكثافتهم الديمغرافية، بدأوا يتوجهون إلى استهلاك القهوة والتخلي عن الشاي، وذلك أحد أسباب الغلاء المسجل.

في الجزائر ارتفعت أسعار البن في المتاجر بنسبة مئة في المئة، وسط جدل وحسرة في الشارع حول التهديد الذي يلاحق مشروبه المفضل لضبط المزاج وتعديل الأوتار تحسبا لليوميات المتعبة، الأمر الذي دعا الحكومة لعقد اجتماع من أجل إيجاد آليات لاستقرار أسعار القهوة، والحفاظ على أعصاب الجزائريين المحترقة بموجة غلاء شامل.

للقهوة مكانة خاصة عند الفرد الجزائري، فلا يخرج من بيته إلا وقد استهلك كوبا استعدادا ليومه، ولا يقتطع فسحة منتصف النهار إلا وتزود بآخر من أجل ضبط المزاج، ولا يعود مساء للبيت أو إلى الحي إلا وختم يومه بقهوة للتخلص من ضغط يومه.

في الجزائر تجد بين المقهى والمقهى مقهى، ولا يحدث أن يعلن أي مالك مقهى عن إفلاسه لأن ” الشغل ماشي وعلى العال “، ويحدث للجزائري أن يخرج من مقهى ليدخل إلى أخرى، لأن للمشروب سحرا لا يضاهى حتى ولو كان على حساب الصحة والجيب.

مع الغلاء والتغيرات المعيشية والاجتماعية تفاقم القلق لدى الأفراد والعائلات، لكن قلق سعر القهوة له طعم خاص، فالجزائري يشعر بأن مؤامرة تحاك ضده للتفريق بينه وبين عشيقته السمراء، فهو يمكن أن يتساهل مع رفع سعر أي مادة إلا القهوة، التي يستهلكها في البيت والشارع ويحملها للعمل وترافقه في السيارة، ولذلك صنفته الإحصائيات بأنه أكبر مستهلك للبن في العالم العربي.

القهوة والمقهى في الجزائر تاريخ طويل يعود إلى القرن الـ16 ميلاديا، وارتبطت بتراكمات سوسيولوجية وثقافية حملت تطور المجتمع الجزائري، فقد انطلقت خلال الوجود العثماني مشروبا ارستقراطيا خاصا بالفئات الاجتماعية الراقية وبالمدن والمناطق الحضرية كالعاصمة، وتوسعت شيئا فشيئا لتشمل في بداية الأمر المدرسة الصوفية الشاذلية، ثم عمت مناطق البدو والأرياف تدريجيا إلى أن باتت نزيلة كل بيت وفي متناول الجميع، وتقدم بشكل خاص للضيوف وأعيان القرية كإكرام وتبجيل لهم.

حملت لقب وبركة “الشاذلية” نسبة لزعيم الطريقة الصوفية أبو الحسن الشاذلي (1196- 1258)، الرمز الديني والروحي الذي يمتد نفوذه وأتباعه من شرق المغرب العربي إلى غربه، فقد كان يرى أهلها أنها تساعد حفظة القرآن والمريدين على السهر من أجل القراءة والابتهال.

القهوة الجزائرية انطلقت في الساحات والطرقات قبل شكلها الحالي، وفي حديقة الحامة حاليا (العاصمة) ارتشف كارل ماركس قهوته (1882)، وفي حي القصبة حلق لحيته، لما نصح بالتداوي في الجزائر من طرف أطبائه، وكتب عنها وعن أهلها لكنه لم يدن الاستعمار الفرنسي رغم فلسفته المناهضة للرأسمالية.

القهوة في الموروث الجزائري، إلى جانب مفعولها الذهني والمعنوي، هي فاتحة أي لقاء سواء كان مثمر أو فارغ، والمقهى هي فضاء ومصدر حتى ولو كان غير موثوق، إلا أنه بالإمكان العثور فيه على كل فصول الشأن العام من السياسة والاقتصاد، إلى الرياضة والاجتماع والمتفرقات.

وللقهوة والمقهى الجزائرية، تاريخ حافل خلال ثورة التحرير، فقد كانت مشروبا يستعمله الثوار للارتخاء وللتركيز والنشاط، وكانت فضاء للتواصل وتبليغ الرسائل وعقد الاجتماعات السرية.

18