محمد الجزائري.. ذكرى إنسان ومبدع مد يده لكل موهوب

في نهاية شهر مارس تقريبا من العام 1982، رزمت مجموعة من رسوماتي الكاريكاتيرية، في محفظتي الخاصة، وذهبت صوب مقر “مجلة فنون” الواقعة على ضفة نهر دجلة، من جهة الكرخ، هذه المجلة “الصوت الفني الراقي”، التي كانت من أهم وأرقى المصادر الثقافية التي تابعت ووثقت بشكل دقيق، بالصورة والكلمة جميع مسيرتنا الفنية والثقافية بأنواعها وأجناسها الإبداعية كافة.
كان كادر هذه المجلة يتألف من الكفاءات الثقافية المتخصصة والممارسة في اختصاصها، ولذلك نالت شهرة واسعة ورائعة على مستوى العراق وخارجه. وكانت بحق مؤثرة جدا. فهي متوازنة بقرائها ما بين النخب المتميزة، وهواة القراءة الجادين. وكان على رأس نجاح مواصلتها، رئيس تحريرها الكاتب والناقد والصحفي المخضرم محمد الجزائري.
مقر المجلة كان عبارة عن بناية تراثية جميلة، ما تزال شاخصة حتى الآن، دخلت باب الاستعلامات، وصادف أن الأستاذ محمد الجزائري كان واقفا مع بعض الموظفين، أديت التحية الصباحية، وكانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة تقريبا، فاستقبلني بوجه بشوش، وعرفته بنفسي، فأخذني إلى مكتبه وعرضت عليه رسوماتي، التي انبهر بها جدا، مع كلمات نقدية رصينة وأحتفظ بها وأعتز بها كثيرا، استلمها مني ووعدني بنشرها في الأعداد القادمة، وفعلا بدأ بنشر أول كاريكاتير لي في أقرب عدد صدر بعد لقائي به.
بعد ذلك توالت رسومي تنشر ما بين الصفحات، وكنت أذهب بداية كل شهر لأستلم حقوقي المادية وكانت ممتازة جدا، وأزوده أيضا في يده شخصيا بمجموعة أخرى من الرسوم، حتى التحقت إلى العسكرية، وقطعت الصلة نهائيا، مع المجلة والصحف الأخرى، إلا ما ندر.
ولكني لم أنقطع عن متابعة مجلة فنون التي تعلمت منها الكثير من النثر الأدبي الذي كانت تنشره ومن المقالات الصحفية والقصص القصيرة والموضوعات الفنية المنوعة الرصينة، وكان كل ما يكتب فيها، متميزا ومؤثرا، كانت موضوعات الأستاذ محمد الجزائري، هي المدرسة الرائدة والقدوة الفريدة لجميع أسرة التحرير في صياغة ما يكتبه في النقد والشعر والمقال.
كنت منبهرا بكتابات الجزائري قبل لقائه وبعد أن التقيته زاد إعجابي واحترامي أكثر لشخصيته الإنسانية الرفيعة
كنت منبهرا بكتاباته المتنوعة قبل أن ألتقي به، وبعد أن التقيت به، زاد إعجابي واحترامي أكثر بشخصيته الإنسانية والأخلاقية الرفيعة وبإبداعاته المتميزة.
ولكن للأسف توقفت “مجلة فنون” عن الصدور، في العام 1986، بحجة “التقشف”، حيث انتهى معها التوثيق والمتابعة والأضواء والصحافة الفنية الجادة والصحيحة.
وتشاء الأقدار، في بداية العقد التسعيني، أن الجزائري كان لديه بحث فني بحاجة إلى مصادر ومراجع، موجودة في أرشيف دائرة الفنون التشكيلية، مكث خلالها بضعة أيام هناك، وكنت أنا أحد موظفي هذه الدائرة، حيث ساعدته كثيرا، وكنت معه خير معين، في تسهيل مهمته حتى أنجزها، وفيها ذكرته بلقائي الأول معه في مجلة فنون، فابتسم وقال “هذه رسالتنا الأخلاقية التي نؤديها تجاه المبدعين الرواد والشباب، عندما نؤتمن بمنصب إداري”.
وبعد مدة ليست بالطويلة، التقينا في باص نقل الركاب المرقم 79 المتجه من منطقة الميدان، إلى منطقة بغداد الجديدة، حيث كان يسكن هو في عمارات منطقة زيونة، وطوال الوقت كنا نتحدث عن الفن وواجبات دائرة الفنون التشكيلية، حتى وصل إلى مكان سكنه، وتوادعنا، ولم نلتق بعدها أبدا، ولكنه كان في قمة الألم النفسي، غير الذي رأيته في لقائي الأول معه، مهموما، متعبا، منهكا.
عرفت بعد حين أنه كان محارب من قبل الحاسدين والحاقدين عليه في الحكومة لأنه كان ينتقدهم ولا يرضى أن يسير معهم في الظلم. ليغادر العراق أواخر التسعينات إلى بلجيكا. ويتوفى في أحد مستشفياتها، يوم الرابع والعشرين من يوليو 2015، على أثر أزمة قلبية.
ولد الجزائري في محافظة البصرة في الثلاثين من يونيو عام 1939. بدأ منذ منتصف الخمسينات شاعرا، ثم ناقدا فنيا، وانتقل إلى بغداد في العقد الستيني. وأخذت إبداعاته المتنوعة تتفتق وتضيء المشهد الثقافي العراقي، في المقال والقصة والرواية والمسرحية والشعر والنقد الفني المتميز، والسيناريو. فضلا عن توليه مناصب فنية وصحفية وثقافية ونقابية وإدارية عديدة نهض بها بأفضل صورة. أصدر عدة دراسات وبحوث في الفن والأدب، في كتب مستقلة، كما نشر الكثير منها في الصحف والمجلات داخل العراق وخارجه.