البقاء للأفضل في طرح الأسئلة

لن ينجينا الدعاء من زحف الذكاء الاصطناعي وتهديده لنا، نحن العاملين في مهنة الصحافة. لا يمر يوم دون أن نكتشف قدرة من قدراته العجيبة على تقديم إجابات سريعة لكل سؤال يوجه إليه.
لن تنجو من المنافسة القادمة إلا نخبة النخب وصفوة الصحافيين. لا أعني بالصفوة هنا هؤلاء الذين يجيدون كتابة التقرير الصحفي والخبر الصحفي أو مقال الرأي، أو المتمرسين الضالعين باللغة العربية، أو أي لغة أخرى يستخدمونها في حياتهم المهنية.
ارتكب الأخطاء، والذكاء الاصطناعي يصوبها لك. قدرته على تصويب الأخطاء تنمو وتتحسن يوميّا. اطلب منه بلطف أن يصوب لك الأخطاء في مقال من ألف كلمة، سيقوم بالمهمة خلال ثوانٍ معدودة، ويسألك بعدها: هل هناك تعديلات أخرى تود إضافتها؟
الصحافي المحترف يبدأ يومه بمتابعة الأخبار، سواء عن طريق التلفزيون أو عبر الصحافة الورقية، وحاليّا عن طريق الإنترنت، بعد ذلك يلقي نظرة على ما تقدمه وكالات الأنباء. هذه المهمة تتطلب منه وقتًا لا يستهان به. اليوم بفضل الذكاء الاصطناعي يمكن اختصار هذا الوقت.
لا يوجد بيننا من يستطيعون استرجاع كل التواريخ والأحداث والأسماء والوقائع، وإن وجدوا فهم قلّة. هنا أيضًا تبرز قيمة الذكاء الاصطناعي في تقديم المساعدة.
ما يهدد مهنة الصحافي هو قدرة الذكاء الاصطناعي على كتابة المقال والتقرير، وهي قدرة تنمو يوميّا
ما سبق ذكره لا يهدد مهنة الكاتب والصحافي، بل يسهّل عملهما ويمنحهما المزيد من الوقت. ما يهدد مهنة الصحافي هو قدرة الذكاء الاصطناعي على كتابة المقال والتقرير، وهي قدرة تنمو يوميّا. ولن يمر وقت طويل حتى يضاهي قدرة المتمرسين في عالم الصحافة.
يحق لـ90 في المئة على الأقل من العاملين في المهنة القلق والخوف على مصيرهم المهني.
منذ أن بدأت العمل الصحفي، وقبل 45 عامًا، كنت شاهدا على مهن كثيرة اختفت بفعل التطور التكنولوجي؛ التنضيد، الأرشيف، العاملون في الغرف المظلمة حيث يتم تحضير الأفلام والصور، كلها مهن اختفت بهدوء قبل ظهور الذكاء الاصطناعي بمدة طويلة، قياسًا بعمري المهني.
لن ينفع دفن الرؤوس في الرمال. قد ينقذنا من عاصفة رملية في الصحراء، ولكن لن ينقذنا من عاصفة الذكاء الاصطناعي.
هناك فرصة للنجاة تتطلب منا ليس الوقوف في وجه العاصفة، وإنما الانحناء أمامها وتطوير قدراتنا لنكون من ضمن العشرة في المئة التي ستنجو. وأنا هنا لا أتحدث عن نفسي، لأن عمري المهني أشرف على الأفول، وإنما أتحدث عن صحافيين شباب في بداية حياتهم المهنية.
ما لم يسيطر الذكاء الاصطناعي بالكامل على البشر ويزيحهم جانبًا وتنتهي بذلك الحضارة البشرية، لتبدأ حضارة الروبوتات والذكاء الاصطناعي، ستبقى هناك نقطة ضعف عند الذكاء الاصطناعي يمكن استغلالها للتفوق عليه.
لا بد أنكم لاحظتم حتى الآن أن الذكاء الاصطناعي بارع في تنفيذ المهام التي توكل إليه، وسريع في تقديم الإجابات. وهذه المهارات تتطور بسرعة فائقة. ولكن أداؤه يتراجع عندما يتعلق الأمر بطرح الأسئلة.
هناك محاولات تبذل لتدريبه على ذلك، إلّا أن الأسئلة التي يطرحها ساذجة وميكانيكية، وتفتقد إلى زاوية الرؤية والاستشراف. نقطة الضعف هذه هي ما يمكن أن يراهن عليه صحافيو المستقبل.
إنه صراع على البقاء، البقاء فيه ليس للأفضل في كتابة التقرير والمقال وتقديم الإجابات، بل للأفضل في طرح الأسئلة.