الفلسفة والفلاسفة منبع الحركة التشكيلية التعبيرية

التعبيرية التشكيلية بديل تفسيري لفلسفة ما بعد الحربين.
الخميس 2024/08/01
محاولة ترقيع ثقوب الكون أمام اتساع الموت («صرخة» إدفارت مونتش)

لم تكن علاقة الفلسفة بالفن علاقة تفسير أو تصورات وخلق مفاهيم أو استشهاد بحالات بصرية أو غيره فحسب، بل كان كل منهما نافذة للآخر مكملا له يقول ما لا يقوله، وهنا نستشهد بالحركة التشكيلية التعبيرية التي قالت ما عجزت الفلسفة عن قوله بالشكل الوافي، ونستكشف الروابط التي تجمع العالمين.

كانت الفلسفة المحرك التصويري الأول والمؤثر في بناء مشاهد الواقع وتفعيلها الحسي والعاطفي والذهني، وهدمها وإعادة صياغتها من جديد بشكل وصورة وفكرة ورمز وعلامة وحضور وإحساس آخر، يتصارع بين السوداوية والانعتاق بين الصدمة والتحرّر، تلك السمات الأولى التي أسّست للعلاقة بين الفلسفة والتعبيرية في الفن التشكيلي بدوافعها الحسية والفكرية والوجودية التي تكاملت وتفاعلت وامتدّت وانفعلت أكثر وأكثر، وتعمّقت مع مآسي الوجود لما بعد الحربين وانهيار القيمة العليا لإنسان ما بعد الحروب الإنسان الموجوع في إنسانيته والمختلف في مدى تقبّل وجوده الجديد على انقساماته المختلفة.

من الهدوء إلى الصخب

كانت أول بوادر التواصل الفني والفلسفي مع الواقع ومحاولات فهمه وتفكيكه هي التي جعلت من الحركة التعبيرية جسرا بين الفنان وواقعه بشكل مباشر وبين عالمه الفرداني وروحه الداخلية في تلقي كل ذلك.

لعل صرخة إدفارت مونتش كانت صيحة فزع في عالم منشغل بتصنيع القوة وأسلحة الدمار، فكانت له المتنفس البصري لكشف علاماته ورموزه وتحديدها حسب منطق التواصل مع تناقضات الخيال والصدمة وكذلك توظيف المنهج المبني على الأطروحة البصرية ونقيضها والتكامل المنطقي للبحث عن التصور بين الصدمة والهدم في طرح الحقائق، وكذلك أسلوب الطرح العام للأسئلة وتفعيل فكرة الوجود وترسيخها بعلاقة الأسلوب العام للبناء بعد الهدم والترميم الطالع من العدمية والعبث من أجل التكامل مع الأسئلة القادرة على مواجهة ذلك الواقع ودحضه، وتفكيك الرؤى العامة وإعادة ترتيبها.

فقد أثرت الفلسفة بشكل يكاد يكون كبيرا وعميقا في توجيه تصورات الفكر والفن والأدب والثقافة في مساراتها الحداثية وفي خطاها نحو التجريب التعبيري في الفن التشكيلي، ورفض الإملاءات التي كانت تخلق القيود، وبالتالي ساهمت في فتح منافذ نحو التفكير والبناء والهدم والدحض والتعبير الحر بمنتهى الحدّة التي تحمل الفكرة والصورة من أقصى الهدوء إلى أقصى الصخب من أجل المحاولة الحرة لترقيع ثقوب الكون أمام اتساع الموت، وهو ما ساهم في نشأة الحركة التعبيرية كتيار ثقافي شامل ومستقل بذاته فتح بدوره بوابات العبور نحو فنون ما بعد الحداثة في عالم الفنون التشكيلية والبصرية.

الحركة التعبيرية تيار ثقافي شامل ومستقل فتح بوابات العبور نحو فنون ما بعد الحداثة

الفلسفة العقلانية التي بناها فلاسفة ألمانيا بالخصوص أسّست لعناصر البحث في الثقافة، في الأسطورة، في الرمز، في الكون، خصوصا مع فلسفة نيتشه وشوبنهاور والتواصل التحليلي لفلسفة عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد وتصورات الفلسفة الأدبية في حركة الأدب الروسي ومنهج كافكا وجيل دولوز وقصائد بول كلين، كما أن زخم البحث التجريبي في الفنون والأدب والشعر والسينما والمسرح ميز ما بين الحربين العالميتين وما تركه من أيديولوجيات كثّفت آثار التناقض فيما شكّل مواقف وصدمات.

وأسس ما أسلفنا لروح تفصيلية في تكوين التعبيرية وبداياتها الانتمائية التي كانت لها علاقة مميزة مع الفلسفة والجدل الفكري منذ ظهورها سواء مع مجموعة الجسر أو الفارس الأزرق، فكانت للتعبيرية في الفن التشكيلي علاقة خاصة مع الشكل من حيث التوظيف المتصادم والصادم بمعناه المبني على قمع التمييز بين الشكل الخارجي والشكل الداخلي، مع طرح المستوى التفاعلي عاطفيا وذهنيا وبصريا بين الشكلين وبالتالي إجبار الشخوص ومعهم الفنان على التقاط القوة الشخصية لذاتيته التي تكون مُؤسّسة على المشاعر والتصورات والأفكار فيما بينها، فتتصارع لتستثير بالصور الجرأة العامة في خلق الصدمة وهي تفكك تناقضات فكرة الموت والعدمية والاستقرار والنفي وفق رموز مختلفة وعلامات متباينة وتراكيب لونية متجدّدة.

موقف التعبير

Thumbnail

التعبيرية التشكيلية كانت البديل التفسيري لكل ذلك المحتوى الذي حمل رؤى مختلفة للفكرة المبهمة وبالتالي تكوين اللغة المجرّدة للفلسفة حيث تفاعلت مع كل المشاهد الحسية النفسية الواقعية الاجتماعية بالصور والمشاهد والألوان في زخم حيوي يبالغ في تجسيد تلك الخيبة الإنسانية الرهيبة، التي لم تجد لها الفلسفة مجالا ينقذها من سوداوية البحث إلا في التجربة التشكيلية، حيث امتثلت الفكرة للصورة وتجسّدت الصراعات في رؤى بصرية، لتكون الانتصار التعبيري الذي فسّر فلسفيا وبالصور فكرة الموت الصادم وبشاعة الانهيار التي طمست الحياة، حتى بدت التعبيرية التشكيلية مفتونة بالموت إلى درجة الهوس الذي جعل انجذابها تعبيرا عكسيا لمواقف بصرية تحمل نفسا عميقا وعظيما للحياة في رمزياتها التي تعمّقت في العلامات اللونية والشكلية والفلسفة التاريخية والأسطورية والملاحم الإنسانية وتفاصيلها.

إن التفكير الفلسفي، والتوافق البصري التعبيري، تم بناؤه بالاتكاء على الفكر الفلسفي ومفاهيم القوة المبنية على الفرد في الكون والطبيعة والحياة والموت بكل تفصيل أبدي حلّله فلسفيا نيتشه، ليكون أيقونة التعبيرية في الرمز اللوني ودلالة العلامة فيه وفي الأحجام والحركة والتقابل والتضاد في حركة الفرشاة ومدى عمق التفاعل بينها وبين اللحظات الثابتة، خصوصا في المواقف البصرية التي ميّزت الحركة قبل وبعد الحرب العالمية الأولى وبالتالي اعتبر نيتشه بفلسفته الملهم الأول للتعبيرية وأفكاره هي منفذ لإصلاح الفن وحمايته من السقوط في حفرة الفن المنحط، لأنه لم يكن ملاذا للفرد للاحتفاء بشخصيته المطلقة وتأكيد هيمنته بل العودة أكثر إلى مستويات القيمة والإبداع.

الفلسفة أثرت بشكل يكاد يكون كبيرا وعميقا في توجيه تصورات الفكر والفن والأدب والثقافة في مساراتها الحداثية

كانت لوحة “الحاجة” الليثوغرافية للألمانية كايتي كولويتز عبارة عن تصوّر مختلف لذلك البؤس الطافح الذي ترشح منه المواقف الرافضة والفلسفة البصرية المندمجة بين فكرة الحاجة وفكرة الضرورة وتبعات مفاهيم الحاجة المتفرّعة الممزوجة بالصدمة التي عمدا غيّبت فيها الفنانة ملامح الجمالية.

وكذلك الفوضى الإيقاعية في اللون التي عبّر بها كاندانسكي وكان متفوّقا فيها على ما بعد الصورة وما بعد الرؤية لتشكيل تضاربات حسيّة بين الواقع والطبيعة والحياة.

اعتبرت التعبيرية بديلا للحركة الفلسفية الكبرى من حيث الحيوية والبحث والتساؤل، خاصة في شكلها البرغسوني، إذا اعتبرت الفلسفة في طرحها البرغسوني حيوية أو تحمل أفكارا ذات زخم حيوي، متخذة شكل تجربة البحث بحماس للوجود والطبيعة، ولاسيما في صياغتها النهائية، تجربة مصدري الأخلاق والدين والإنسان، وبالتالي فإن التعبيرية بالنسبة إلى كل ذلك حملت الفلسفة كمواقف لما بعد الحربين لتعلن عن خيبة الأمل الرهيبة التي حدثت في الواقع، خاصة عندما تفوّقت قوى الموت على قوى الحياة.

أنشأ فلاسفة متنوعون مثل والتر بنيامين، وموريس ميرلو بونتي، وجيل دولوز، وآرثر دانتو تفاعلا ديناميكيا بين الفلسفة والفن من خلال الجماليات وطرق التعبير، كما فعل هيجل وجوته وآخرون قبلهم في القرن التاسع عشر، وهكذا، يبدو أن ما توضحه التعبيرية هو انتصار دافع الموت أو القتل أو الفناء بمعنى نقيض للبقاء، وهو المبدأ الذي يكشف عن نفسه في إنكار الفرد، وعكس مبدأ الحضارة الذي قدّمه الفنانون التعبيريون منذ بداياتهم حتى التعبيرية الجديدة وما تحمله من تفوّق أدائي وأسلوبي ومعاصرة رؤيوية من خلال الدمج والخامات وطرق التعبير.

13