في الأدب لا سابق له فضل على اللاحق

جوليا كريسطيفا تنفي الأصالة بالمحتمل والمستنسخ.
الثلاثاء 2024/07/30
جوليا كريسطيفا: الفن يقوم خارج الزمن كفعالية متلائمة

في النصوص الأدبية هناك من يرى بأن النص الجديد هو امتداد لما سبق بالضرورة وهناك من يرى بأنه لا يوجد امتداد بين السابق واللاحق ولكل حدوده، وفي هذا التمشي تمحى الحدود الأجناسية للأدب ويُفتح على إمكانات مخصوصة داخل تاريخه. وهنا نقرأ بعضا من آراء جوليا كريسطيفا.

يميل أغلب المنظرين ما بعد البنيويين إلى إلغاء التجنيس بمقولات انفتاح النص والعمل المفتوح والتداخل الأجناسي، مفترضين أن لكل حقبة تاريخية نسقا من الأجناس الأدبية يهيمن عليها ومنهم من يرى أن خرق قواعد التجنيس “لا يمس النسق الأدبي في العمق” ومن هؤلاء جوليا كريسطيفا، فقد توجهت من خلال تركيزها على التناص نحو خلخلة قواعد التجنيس.

رفضت كريسطيفا وجود أصل لأي نص، أي أن من غير الممكن وجود نص سابق له وجود لاحق. وطبقت فكرتها على ما سمته “المحتمل الدلالي” حيث كل خطاب يكون في علاقة تماثل وتطابق أو انعكاس مع خطاب آخر. بمعنى أن الجمع بين خطابين مختلفين لابد أن ينعكس أحدهما على الآخر فيكون له بمثابة المرآة.

تناقض كريسطيفا

ما تريد كرسطيفا بلوغه أن النص الأدبي اشتغال امتصاصي يجعل المدلول بلا سنن محددة بل مجال تقاطع عدة شفرات

بهذا المفهوم فندت كريسطيفا وجود أي نهائية أو قطعية أو حدية تماما كتودوروف الذي قال بالخرق والجزئية وأن الجنس عبارة عن نسق، والأنساق تتغير وليس من استقرار لها، وأطلق على ذلك اسم “الجنس المزجي والمختلط”. ومقصده يتلاقى مع مقصد كريسطيفا وهو أن لا سابق له فضل على اللاحق وأن أي تطور جاء من الماضي هو تراجع، ومن ثم يكون الخليط معيارا أدبيا كنسق جديد لا من حيث كونه خالدا ومعطى بصفة نهائية وإنما كمتغير غير نهائي. بيد أن الخرق لا يلغي الأصل، بل بالعكس هو يؤكد وجوده، أي لا يكون هناك خرق من دون وجود أصل يتم خرقه.

ومن تبعات المحتمل الدلالي أن الأدب نفسه يصبح محتملا بلا قانون، يتشابه أو يتحايث بما قبل وما بعد الإنتاج وعبر اللساني “فليس من ماض ولا حاضر إنما هناك كونية يقوم الفن نفسه خارج الزمن كفعالية متلائمة مع نظام فيكون الخطاب محتملا” كما تقول كرسطيفا. ومثالها لوتريامون في ديوانه “أغاني مالدورو” ورايمون روسيل في كتابه “انطباعات جديدة عن أفريقيا” لما فيهما من أحداث هي متاهة عبر لسانية أي خطاب منطوق قابل لأن يكون مشتقا باستمرار.

وهي في إشارتها إلى الكاتب الفرنسي روسيل – وقد وقف عنده ميشيل فوكو في “الأشياء والكلمات” (1963) – لم تذكر كتابا في أدب الرحلات كان مترجما زمن روسيل هو “وصف أفريقيا” لمؤلف عربي اسمه جان ليون الأفريقي أو ابن الوزان الزياتي، الذي عاش أواسط القرن السادس عشر الميلادي، وتُرجمت رحلته إلى اللغة الإيطالية ونشرها راموزيو بعنوان “وصف أفريقيا” عام 1550م، ثم تُرجمت إلى الألمانية والانجليزية كما وضع فيها المستشرق ماسينيون دراسة مستفيضة. ومعروف أن روسيل اعترف في مخطوطته “كيف كتبت بعض كتبي” أن كتابه “انطباعات جديدة عن أفريقيا” وهو بناء على “انطباعات عن أفريقيا”.

غير أن كريسطيفا نفت مسألة البناء بـ”المحتمل الدلالي” والامتصاص الذي يحصل بفعل الكتابة، فالنص يمتص اللغة واللغة تولد الاحتمال. وإذا كانت بلاغة العمل الأدبي تجعله ذا “بنية مغلقة” فإن إضفاء المحتمل على الإنتاج يجعل “الخطاب مفتوحا بنيويا“ وفي شكل أدب محتمل. ولكن هل ينفع المحتمل الدلالي في تأويل سبب توظيف روسيل الأحداث غير الممكنة على لسان امرئ فقد ذاكرته ثم على لسان فتاة عمياء تستعيد بصرها؟.

الامتصاص فعل تصحيفي وأسلوب حوار بين النصوص واندماج تتولد عنه نصوص متضادة على طول التاريخ الأدبي

إن انزياح الوحدات السردية من اللاممكن إلى الممكن تقليد معروف في آداب العصور الوسطى، والأدب منذ العصور القديمة وهو يخضع للانزياح مستعيرا المجرد للحسي وبالعكس. وهذا ما تجد كرسطيفا حرجا في الاعتراف به، فتركز على المحتمل الدلالي كخطاب سيميائي وتترك الرموز التي بتأويلها نتمكن من ملء فراغات كتاب “انطباعات جديدة عن أفريقيا”. فهي لا تريد أن تعترف بأن لهذا النص أصلا هو “انطباعات عن أفريقيا” وإنما تقول إنه مستنسخ.

 ومن غير المنطقي أن ننفي الأصل / المصدر ونثبت المستنسخ / المحتمل. ولكن هذا ما تعمدت كريسطيفا تأكيده فوقعت في التناقض، فهي من جانب ترى أن “صورة النص حاضرة بالضرورة في هذه الكتابة التي تستعرض نفسها وتركز على خصائص العمل النصي”، ومن جانب آخر تنفي أن يكون للنص أصل، وإنما هو كتابة محتملة “حركة إعادة تنظيم ومرور محموم ينتج عبر الهدم”.

النص الأدبي ليس سوى عملية هدم وبناء. وتشرح كرسطيفا سيرورة هذه العملية كالآتي: “بدا القلم بالجري صعودا وهبوطا على الورقة البيضاء متبعا نفس المقاطع العمودية التي خطتها الريشة سابقا.. في هذه المرة لا يؤخر الشغل.. القلم يتقدم سريعا. في الخلفية يظهر نص إلا أن أهميته أصبحت الآن ثانوية لأنه ألغي من طرف شخصيات الواجهة”.

فمسار النص كتابي عبر لساني كبنية لغوية ليست لها إنتاجية نصية ولا هوية ولا قاعدة للترابط الجملي وللعلاقات البنيوية لكن ما يحقق لها إنتاجية عبر نصية هو “التسلسل الإرجاعي الذي به تتفجر بنية الحكاية وكل بنية ممكنة عبر استبدالها بترابطات دالة ولو كانت غير بنيوية.. تهشم سطح البنية حيث كل مقطع قابل للاشتقاق من الكل أو من مقطع آخر.. فضاء وحجم وحركة لا متناهية”.

وإذا كانت عملية الهدم إنتاجية عبر نصية وسمة من سمات الخطاب، فإن مشكلة الإنتاجية النصية كما تراها كريسطيفا هي في الخطاب المتناهي والأحادي، لأنه يقوم باحتواء الإنتاجية النصية ولا يمكن وضع سيرورة نسقية وبنائية من اجل تحديد هل تكون صيغة معينة مقطعا ما مأخوذا من محتمل أم لا؟ أي هل تكون ممتلكة الخاصية التركيبية للإمكانية الاشتقاقية؟ وطبيعي بعد هذا أن تنفي أي أصل نهائي يمكن لنا أن نبحث عنه، بل إن أي بحث عن الأصل هو من قبيل العبث واللاجدوى.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا إذا كان الخطاب بلا إنتاجية نصية فكيف تكون له أجناسية، بها يتميز وإليها ينتسب وعلى وفقها يصنف؟

السلبية الثقافة

اهتمام كريسطيفا موجه بالأساس نحو نفي الأصالة عبر القول بالخرق والامتصاص والانحراف والانتهاك كعمليات معتادة في إنتاج المعنى الشعري

حاولت كريسطيفا إثبات فكرتها في مسألة الهدم والإنتاج عبر اللساني بـ”أغاني مالدورو” للشاعر لوتريامون (1846ـ1870) وأنها تنفلت من قبضة اللسان والخطاب والملفوظ والمعنى ولا تخضع إلا للقاعدة النحوية والمنطقية والتركيبية. ووجدت في كتاب “locus solus” لروسيل مرحلة جديدة من الإنتاجية عبر اللسانية. أي إذا كانت أشعار لوتريامون تجاوزت الرمز الذي كان أدب العصور الوسطى يخضع له، فإن أشعار روسيل تجاوزت الدليل. وهو أمر نراه عاما في الخطاب الأدبي الشعري والسردي منذ أن عرف الإنسان الأدب وبه عبّر عن مواجده ورغباته.

ولا يخفى ما في فكرتي الهدم والإنتاجية النصية من سلبية كونها تجعل النص غير محدد الأبعاد وعن ذلك تقول كرسطيفا: “حقيقة الممارسة الكتابية هي من طبيعة مغايرة أنها لا محددة وغير قابلة للبرهنة وتتمثل في إنجاز الحركة المنتجة أي إنجاز مطاف كتابي يصنع ويدمر نفسه في سيرورة تعالق أطراف متعارضة أو متناقضة.. كل نظرية وصفية للمنتوج الأدبي متشعبة به”.

وبهذا الشكل السلبي للاشتغال عبر اللساني يتسم الخطاب – بحسب كرسطيفا – بسمة كونية جدلية كإنتاجية تنتمي إلى منطق جدلي (سيرورة لا تطابق ذاتها إلا من حيث هي سلبية مطلقة جدلية.. عملية احتمالية تحاكي إنتاجها) وبالطبع تجعل هذه السلبية الثقافة عملية سيميائية لا متناهية على مستوى البنية وبلاغة الدوال والمدلولات ومن ثم لا أصل ولا مصدر.

ولهذا السبب لم تقف كرسطيفا عند المنمنمات التزيينية التي عرفت في القرون الوسطى ولم تحلل رمزيتها وكيف ذاك وهي تريد أن تؤكد أن مفهوم السلبية اشتغال سيميائي ليست فيه أصالة أو سابقية.

ومثلت بمقولات جاكوبسون وفرويد حول السلبية ووجدت في ما قاله هيغل عن الخلاف والاختلاف وأنهما عصب النشاط الرمزي، نمطا بنائيا أرجعته إلى الإغريق بنظرية (النفي) ومثلت عليه بأبولو وديونيزوس حيث الشيء إما يكون سالبا أو موجبا أو صحيحا أو خطأ و( لن يكون أبدا الاثنين معا) وهذه هي منطقية اللوجوس التي تنتج عنها كتابة تصحيفية تنمحي فيها الذات بالتفاعل النصي.

وبهذا يكون النص الأدبي مجرد فضاء وما من أصل له أو مرجع فهو مزدوج القيمة بطرفين متعارضين واستشهدت بمقولة أفلاطون:( أننا لا نتكلم أبدا على الأقل إلا حين نبدأ في تلفظ بصدد اللاموجود) مدللة بذلك على سلبية النص وضرورة وجود تداخل نصي، يكسبه ايجابية وتكون له إنتاجية. ولكن ماذا عن الإحالة ومراجعها؟

بحسب كريسطيفا فإن الإحالات والمرجعيات مدمجة في داخل النص لا كأطراف، بل كمتواليات ووحدات دلالية متباينة تماما كالنعوت الحية التي تطلق على الأشياء غير الحية أو مثل تسمية المزهريات بالتوابيت. ونتفق معها في ان كل شيء ممكن في اللغة الشعرية بوصفها لغة استعارية لانهائية، لكن النص ليس لغة حسب بل هو بنية كتابية مؤلفة من وحدات / طبقات ولها مرجع ومحددة بإطار نوعي أو اجناسي، فكيف يمكن تناسي هذه الاختزالية والنظر إلى النص كسيرورة بلا طبقات ولا بؤرة/ بنية مركزية ؟!

لم تقف كرسطيفا عند المنمنمات التزيينية التي عرفت في القرون الوسطى ولم تحلل رمزيتها وكيف ذاك وهي تريد أن تؤكد أن مفهوم السلبية اشتغال سيميائي ليست فيه أصالة أو سابقية

إن الخطاب بالنسبة إلى كريسطيفا نص غريب في فضاء اللغة الشعرية وان بالتداخل النصي يحيل المدلول الشعري إلى مدلولات أخر. وهذا ما يصنع فضاء نصيا متعددا (تكون عناصره قابلة للتطبيق في النص الشعري الملموس.. إذا ما اخذ القول التداخل النصي فانه سيكون مجموعة فرعية من مجموعة أكبر من فضاء النصوص المطبقة في محيطنا الثقافي الغربي) ومثالها على التداخل النصي أشعار لوتريامون فهي تولد تصحيفا، ميزت فيه كرسطيفا ثلاثة أنماط من سلبية النفي هي: نفي كلي – نفي متواز – نفي جزئي.

ما تريد كرسطيفا بلوغه هو أن النص الأدبي اشتغال امتصاصي يجعل المدلول بلا سنن محددة بل هو مجال لتقاطع عدة شفرات ككتابة تصحيفية مشكلة من “تقاطع وتفسخ عدة خطابات دخيلة في اللغة الشعرية. واستعمله سوسير في بناء خاصية جوهرية لاشتغال اللغة الشعرية هي التصحيفية أي امتصاص نصوص (معان) متعددة داخل الرسالة الشعرية التي تقدم نفسها من جهة أخرى باعتبارها موجهة من طرف معنى معين”.

وبالتصحيفية هذه تصبح الدلالة الشعرية ذات طابع متموج، وهو ما وجدته كريسطيفا عند إدجار ألن بو وبودلير ومالارميه، فالامتصاص فعل تصحيفي وأسلوب حوار بين النصوص أو اندماج تتولد عنه نصوص متضادة على طول التاريخ الأدبي وهو قانون جوهري في “نصوص تتم صناعتها عبر الامتصاص وفي الآن نفسه هدم النصوص الأخرى للفضاء المتداخل نصيا ويمكن التعبير عن ذلك بأنها ترابطات متناظرة ذات طابع خطابي.. ويمكن مضاعفة الشبكة إلى ما لا نهاية فهي تعبر عن نفس القانون علما ان النص الشعري ينتج داخل الحركة المعقدة لإثبات ونفي متزامنين لنص آخر”، أما منطقية أو لا منطقية علاقة الامتصاص كقانون بغيرها من قوانين النص الشعري كالتعديل والثالث المرفوع والتوزيعية فلم تجب كريسطيفا عنه. وبررت الأمر بالقول “لا علم لنا لحد الآن بوجود أنماط منطقية فإننا نميل هنا إلى الحل الثاني خاصة بشكلية اللغة الشعرية من دون العودة إلى منطق الكلام”.

إن اهتمام كريسطيفا موجه بالأساس نحو نفي الأصالة عبر القول بالخرق والامتصاص والانحراف والانتهاك كعمليات معتادة في إنتاج المعنى الشعري في حين نظرت الى مسائل منطقية تتعلق بالتجنيس والتقاليد والأنساق على أنها إشكاليات. والسبب بطبيعة الحال هو نظرتها الانتقاصية إلى آداب العصور الوسطى التي هي بالعموم شرقية.

13