مفاهيم متناقضة ينتهجها رواد السينما المغربية

إن الحديث عن المفاهيم في الفنون لهو كشف عن ثقافة مهنية صرفة، بكل ما تحمله من رموز في بُعديها المادي والمعنوي، خاصة في الحقل السينمائي المغربي، إذ هو الأساس الذي نبحث عنه في صورته الكاملة ومنه تتسرب مفاهيم متناقضة وأفكار ذات أبعاد غامضة كما هو الشأن بالنسبة إلى مفهوم الفنان والمبدع والتقني والحرفي.
وتتجلى العديد من المفاهيم المتناقضة في السينما المغربية وتشكل جوهر التحديات والديناميكيات الفنية والثقافية في هذا المجال الحيوي، حيث لا يدرك رواد السينما الاختلافات الجوهرية بين هذا المفهوم وذاك.
وتتقاطع المفاهيم وتتعارض أحيانا، ما يؤدي إلى مناقشات واسعة ومتنوعة حول هويتها الفنية والتعبيرية، فبينما يعكس مفهوم الفنان التوجه الفني والإبداعي الذي يسعى للتعبير عن رؤيته الفنية الخاصة من خلال الأفلام، ويُنظر إليه كمبدع يمتلك رؤية فريدة وقدرات فنية استثنائية لإنتاج أعمال تجذب وتلهم الجمهور، لكن في بعض الأحيان، يُنظر إلى الفنان كونه مجرد تقني ينفذ إرشادات المنتجين أو يتبع الاتجهات السائدة بدلا من التعبير عن ذاته الفنية. كما يُنظر إلى المخرج السينمائي كونه مجرد معيد لاستخدام أفكار أو تقنيات سابقة بدون إضافة جديدة أو تجديد للمضمون، ما يُعتبر تكرارا لما فعله الآخرون دون إضافة قيمة جديدة.
ويمكن رؤية هذا التناقض بوضوح عندما يجد البعض صعوبة في إيجاد توازن بين الاحتفاظ بالهوية الثقافية والتعبير الأصيل وبين محاولة تقليد تقديم أعمال تلبي تطلعات الجمهور المحلي والعالمي.
◄ النصوص النقدية تتلاشى مهما كانت قوتها ويبقى جمهور الفن السابع هو جوكر النقد السينمائي في المغرب
هذا السلوك يتعارض مع رأي أرسطو الذي يعتبر الفن ليس مجرد تقليد بل هو محاكاة لفعل الإبداع الذي يبرز قدرات الفاعل الإبداعية واللغوية والتمثيلية، كما يؤمن بأن الفن يهدف إلى تحقيق أهداف أخلاقية وتربوية، ويعتبره جزءا من عملية التعليم والتأهيل للفرد والمجتمع. ويرى أن المسرح يعكس الواقع ولكن بشكل يبرز القيم والمثل الأخلاقية التي يجب على الفرد تعلمها واعتبارها جزءا من حياته، بينما يركز هيغل على فكرة أن كل عمل فني يحتوي على عناصر الجميل والجليل في آن واحد، حيث يجمع بين الجمال الذي ينعكس في الشكل الظاهر للعمل والجليل الذي يتمثل في مضمونه ومعانيه العميقة، كما يرى أن الفن ليس مجرد تقليد بل هو إبداع يعبر عن إمكانات العقل البشري وقدرته على التعبير عن الجوانب العميقة والفلسفية للحياة.
ويرى كانط أن الفن هو عمل إنساني واع وحر، يتطلب الموهبة من جهة والمهارة من جهة أخرى، إذ لا يمكن إنجازه بمجرد معرفة قواعده بل هو نتاج إبداعي يحمل جمالا فريدا، حيث يختلف عن الطبيعة بأنه يتطلب وعيا إبداعيا، بينما الطبيعة تعمل وفق القوانين الطبيعية دون تدخل واع.
ويشبه كانط الفن باللعب حيث يتسم كل منهما بالحرية والمتعة والترفيه عن النفس، ما يجعلهما نشاطين يتمتعان بأبعاد فريدة من الإنسانية، ويتميز الفن عن العلم بأنه ناتج عن الموهبة والخيال الفني، بينما يعتمد العلم على المنهجية والقواعد النظرية التي يمكن تعلمها، كما يختلف الفن عن الحرفة بأنه يُمارَس بحرية تامة وله غايات جمالية ووجدانية، في حين تكون الحرفة أكثر ارتباطا بالعمل الشاق والغاية منها ربحية في كل تجلياتها.
أما مفهوم التقنية فيشترك فيه الحيوان والإنسان، حيث نجد عند الحيوان أن التقنية مرتبطة بالغريزة كونها مجرد عمليات وسلوكيات غريزية يقوم بها الحيوان من أجل المحافظة على وجوده الطبيعي، بينما التقنية عند الإنسان ترتبط بالفكر والعقل، فهي تلك التأملات والمخططات والإستراتيجيات الفكرية التي تقف وراء السلوكات البشرية وترسم أهدافها، ويرى الفيلسوف الألماني شبنغلر في كتابه “الإنسان والتقنية” أن هدف التقنية ليس هو اتقانها مع الأدوات والآلات في حد ذاتها، كما يرى أنه لا ينبغي فهم التقنية من خلال وظيفة الأداة، بل ينبغي اعتبار التقنية خطة حياة.
إذا ما أسقطنا هذه المفاهيم على تقنيات التصوير السينمائي، فيجب أن تكون الآلات في خدمة السيناريو أساسا وليس للتغطية والتضليل والتمويه على الثغرات الموجودة في العمل السينمائي، وأيضا إذا دمجنا هذه المفاهيم وأسقطناها على صفة الفنان والمبدع في السينما المغربية، سيثير هذا نقاشا واسعا ويطرح أسئلة تثير اللغط، ولكن يبقى جوابها دائما هو مقارنة المفهوم بالفعل السينمائي وتنتهي ضبابية الفنان والمبدع، نأخذ على سبيل المثال تعريف أنواع المخرجين.
يتميز المخرج السينمائي التقني بتركيزه على الجوانب التقنية والإجرائية لإنتاج الفيلم، فهو متخصص في التعامل مع المعدات والتقنيات المستخدمة في التصوير والإضاءة والصوت، ويسعى لضمان تنفيذ العمل وفقا للمعايير التقنية العالية، كما يهمه أن تكون جميع تفاصيل الفيلم من الناحية التقنية دقيقة وسلسة لضمان الجودة النهائية للفيلم. ومن ناحية أخرى، يهتم المخرج السينمائي المبدع بالجانب الإبداعي للفيلم ويسعى إلى تقديم أساليب جديدة ومبتكرة في السرد والتوجيه والتصوير، ويركز على التعبير عن رؤيته الفنية الخاصة وتقديم أفكار جديدة تميز الفيلم عن الأعمال الأخرى، حيث إن الإبداع والتجربة الجديدة هما المحور الرئيسي في عمله ويسعى إلى خلق تجربة فريدة ومميزة للمشاهدين.
أما المخرج السينمائي فهو يجمع بين الجوانب التقنية والإبداعية، إذ يعتبر الفن جوهر عمله ويهدف إلى تقديم تجربة سينمائية تعكس رؤية فنية عميقة، كما يحرص على تحقيق توازن بين التقنية والإبداع، حيث يدمج بين المهارات التقنية العالية والابتكار الفني لتحقيق فيلم يعبر عن رسالة معينة ويؤثر في الجمهور، ويقدّر الجوانب التقنية والإبداعية على حد سواء لتحقيق تجربة سينمائية متكاملة ومؤثرة.
أما النقد السينمائي فهو عملية تحليل وتقييم الأفلام التي يقوم بها شخص ذو خبرة ومعرفة واسعة في مجاله، ويتطلب النقد فهما عميقا للجوانب المختلفة للفن السابع بين التاريخ والنظريات والتقنيات. وتشير المعاجم إلى أن الناقد هو الشخص الذي يتمتع بالقدرة على التمييز والفحص والتقييم، وهو متعمق في مجال تخصصه وقادر على تقديم ملاحظات بناءة حول العمل الفني بدون تطبيل أو تهويل أو انتقاد صانع المنتج الفني في شخصه، فالنقد عملية تقييم وتحليل دقيقة تهدف إلى توضيح الجوانب الإيجابية والسلبية في العمل الفني، ليقدم الناقد آراءً نقدية موضوعية تعتمد على معايير فنية ومعرفية دقيقة بعيدة عن الوساطة أو الكتابة تحت الطلب أو مهاجمة رواد السينما من باب الحسابات الشخصية، ولكن تتلاشى النصوص النقدية مهما كانت قوتها ويبقى الجمهور هو جوكر النقد السينمائي في المغرب.