"قوس قزح".. ضجة جديدة حول ظاهرة قديمة

مع انتشار التكنولوجيا الحديثة صارت أيّ قضية تثار في شرق الأرض تنتقل بسرعة البرق إلى غربها، وقد يتبناها الناس دون وعي. ومن هذه القضايا مسألة المثلية التي تثير جدلا واسعا في الغرب، بينما حسم فيها التراث العربي منذ قرون، وما النفخ في الظاهرة وتحويلها إلى قضية إلا تأثر بما يحدث عالميا.
كثيرون من تناولوا ظاهرة الجنس في التراث العربي والإسلامي وما دار بخلد العلماء المسلمين الأوائل، عندما تحدثوا عن ظاهرة “قوس قزح”، في الوقت الذي تندر فيه قراءة الظاهرة في ضوء الضجة التي تحدثها مصطلحات مثل الجندر والجنسانية في مجتمعاتنا الآن، والطريقة التي يواجهها بها أصحاب المنابر انطلاقا من أنها ـ الظاهرة ـ تشكل انفلاتا أخلاقيا، وتدنيا في القيم والتقاليد يهدد المجتمعات.
الكاتب والباحث العراقي رشيد الخيون في كتابه “قوس قزح، الجنسانية في الفقه والأدب”، الصادر أخيرا عن دار المدى، يتتبع هذه الظاهرة في كتب التراث الفقهي والأدبي، بادئا بسرد حكاية كل من “فضيل ومسعود العمارتلي” اللتان/ اللذان أهداهما الكتاب، يقول في إهدائه “فضيلة: كانت بقريتنا وسط السوق والمضائف رجلا بين الرجال، وامرأة في مجالس النساء، لم نرها بلا غترة، ودشداشة وبشت الرجل. مسعودة: أسمعت غناءها، بصوتها الرخيم، من به صمم، ولها طور باسمها ‘المسعودي‘ عاشت باسم مسعود، وزي الرجال: غترة وصاية وعقال، تكاد تعبر عن قضيتها عندما غنت: وخري (تخلي عن) العباية ذبي العباية”.
ظاهرة حسمها التراث
يشير الخيون إلى أنه بعد احتكار ألوان قوس قزح راية أو علما أو شعارا لجماعة من البشر عالميا؛ وهو ما اصطلح عليه بالمثليين، وفي تراثنا الأدبي والفقهي، برجل “مستخنث”، أو امرأة “مسترجلة”؛ وما يدور في وسائط التواصل الاجتماعي، وما بين الدول عما اشتهر بـ”الجندر”، وما عبرنا عنه بـ”الجنسانية” عدت بالذاكرة إلى شخصية فضيل/ فضيلة بنت بلال، المغني بمنطقتنا، حيث الأهوار جنوب العراق (الجبايش/ الناصرية)، ومسعودة بنت سعيد بن قحيص من قرية “الطواس” بالعمارة، جنوب العراق.
ويقول “لو حصل وعاشت المغنيتان أو المطربتان: فضيلة ومسعودة، في الوقت الراهن حيث يعيش المنضوون تحت راية ‘قوس قزح‘، للمطالبة بالحقوق الاجتماعية، وهذا الجدل الواسع حول ما شاع وعرف بـ‘الجندر‘، لتقدمتا وطلبتا التحول طبيا، وانتهى التباس التعبير عن ميولهما الذكورية بالملابس. كذلك ما كان يدور بخلد العلماء المسلمين الأوائل، عندما تحدثوا عن ظاهرة ‘قوس قزح‘ أن ألوان هذا القوس، ستكون بمنزلة راية أو علم وشعار، وتظهر في أميركا والغرب عموما، من ‘إخوان الصفا وخلان الوفا‘ (القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي) إلى أبي علي الشهير بابن سينا (ت 428هـ / 1037م)، إلى ابن رشد الحفيد (595هـ / 1199م)، وزكريا القزويني (ت 682هـ / 1283م)”.
ويضيف الخيون “أما الفقهاء فحسموها، دون أن يتنبأوا بما ستكون عليه هذه القوس، وكانت مشكلتهم مع ‘قزح‘ لا مع القوس وألوانه البديعة؛ فقالوا ‘قزح‘ اسم الشيطان، فتبدل عندهم الاسم إلى ‘قوس الله‘، ومن سماها ‘قوس الغمام‘ أو ‘قوس السحاب‘، و‘قوس المطر‘ و‘قوس السماء‘، والاسمان الأخيران كانا من لدن الشعراء. هذا، مع أن القوس بألوانه وظهوره واختفائه، عبارة عن خدعة لونية، شبيهة برؤية الأجسام في المرايا، فما داخلها مجرد انعكاس”.
ويتابع “صدرت، وعلى هبة الصدور، قوانين تشريعية، تحرم ما يشار إليه بالمثلية، وهو ما يعبر عنه بـ ‘الشذوذ الجنسي‘ مع خطب تحرض على قمع الشاذين، وقتلهم، بينما بلدان أخرى اعتبرت المثلية حقا من الحقوق الاجتماعية، وبقوة القانون. بسبب تلاقي أطراف الدنيا، والأخبار تنقل على جنح الضوء، صار ما يطرح في أقصى الأرض يشغل أدناها، فأخذت قضية المثلية، والتقاليد الأوروبية التي لا تستنكرها، وتعتبرها حقا واجبا احترامه، ضمن حقوق الآدميين، ظهرت الضجة ضدها بالبلدان الإسلامية بقوة طرحها بأوروبا، وأخذ أصحاب المنابر، من رجال الدين، يتحدثون عما سيصيب مجتمعات المسلمين من انفلات أخلاقي وتدن في القيم والتقاليد، والضحية سيكون الدين وأبناء المسلمين”.
ويرى أنه لم تكن الضجة، وفق خطابهم، عن “قوس قزح” وما يمثله من الجنسانية، ببعض البلدان، بلبنان مثلا، مقتصرة على رجال الدين المسلمين، إنما شارك بها بقوة القساوسة والرهبان، والكنيسة المارونية عموما، واعترف بابا الفاتيكان بهم من دون الاعتراف بالزواج، وما إن نوه بكلام البابا بطريرك الكاثوليك الكلدان بالعراق واجهته اعتراضات، متهمة إياه أنه يؤيد المثليين، عندما قال: إن البابا لم يعتبرها جريمة إنما خطيئة، ووضح الأب بطريارك الكنيسة الكاثوليكية الكلدانية لويس ساكو كلمة البابا فرنسيس قائلا: “لا تعترف الكنيسة بغير زواج الرجل والمرأة، لكن لا يعتبر الميل العاطفي، الذي يولد عليه الإنسان، وخلقه عليه الله، جريمة يعاقب عليها لأنه لا ذنب له بذلك”.
الجنسانية ومنها المثلية ليست بالظاهرة الجديدة، إنما عرفها المسلمون في مجتمعاتهم، من صدر الإسلام إلى يومهم هذا
ويقول “نرى الحملة تشتد، بالبلدين، العراق ولبنان، حتى إن أحد أصحاب المنابر بالعراق، أخذ يتحدث متشائما، عن يوم قريب، سيمتنع فيه الآباء والأمهات عن تسمية أبنائهم، فهم لا يعرفون هل سيكونون إناثا أم ذكورا؟”
ويرى أن الجنسانية ومنها المثلية ليست بالظاهرة الجديدة، إنما عرفها المسلمون في مجتمعاتهم، من صدر الإسلام إلى يومهم هذا، وقد عرفوا تلك الميول المعكوسة، مع تطويقها، عند الذكور والإناث على حد سواء، وكان الذكر الذي يتصرف بميول أنثوية يدعى “المخنث”، الأنثى ذات الميول الذكورية بـ”المسترجلة”، كما عرف الجنس الثالث بـ”الخنثى”، وللأخير أحكامه في الفقه الإسلامي، وخصوصا في مسألة الإرث، والدخول على النساء.
من ذكرنا من هؤلاء يمكن التعبير عنهم، أو إدخالهم تحت مصطلح شامل هو “الجنسانية” فلم يكن هذا النحت غريبا، ذلك إذا علمنا الجذر عربيا “جنس”، ومنه نحت الجنس “الضرب من الشيء وهو أعم من النوع، ومنه المجانسية والتجنيس” ومنه نحت العامة “المجانس”، فصار من الفصحى، مع الإشارة إليه بالمولد، فما المانع من توليد “الجنسانية”، التي طرقت قبل ذلك، لتضم الأنواع التي يجمعها جامع واحد، وهو التميز بين الرجال والنساء بسلوك وطبائع. ما يخص الميول، وجمال الغلمان بما يفوق جمال البنات أو الجواري، أبدع ما وصفهم كتاب القرآن حتى قرنهم باللؤلؤ لجمالهم “ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا”.
انتشار القضية
يكشف الخيون أنه عبر البحث لاحظ في كتب التراث الفقهي والأدبي، وجودا لهذا الذي يمكن تسميته بالجنس الثالث، يختلطون بالمجتمع، يدخلون المساجد، واختلف الفقهاء على صحة شهادتهم أمام القضاة، وعلى إمامتهم للصلاة، وميزوا بين سيئ الخلق منهم والعفيف، ووجدوا أنهم يدخلون المساجد، ويخالطون علية القوم، ويدخلون البيوت، حتى في بيت النبي كان يوجد منهم أربعة، وذكرت أسماؤهم، ولاحظنا التشديد على أنهم ليسوا من ذوي الإربة، بالنسبة للنساء، بمعنى أن الظاهرة نفسها لم تكن مرفوضة، لأنها من خلق الله، إنما المرفوض هو سوء الخلق، ولما شعر بأحدهم ينقل حديثا، فيه رائحة الفسق، تقرر عدم دخوله إلى بيت النبوة.
لقد وجدنا في هذا الجنس سلوكا خاصا، يتذبذب بين الرجولة الظاهرة والأنوثة المكبوتة، ولم نجد أسماء من النساء اللواتي بدت عليهن الميول الذكورية، على الرغم من وجود أحاديث تلعن المرأة المتشبهة بالرجل، مثلما لعن الرجل المتشبه بالمرأة.
ويوضح “كان الجنس الثالث أو المخنثون والخناثي، ظاهرة محسوسة، طوردوا لظرف ما، مثلما جرى لهم بالمدينة في عهد ولاية مروان بن الحكم عليها، في عهد معاوية ثم ابنه يزيد بن معاوية، وقد أعدم أحدهم المسمى بالنغاشي، لا بسبب ميوله الأنثوية، إنما بسبب اتهامه بازدراء كتاب القرآن، أو ما حصل من محاولة خصاء مخنثي المدينة”.
كانت النتيجة أن ما نراه اليوم، من موضوع “الجندر” والمفردة أقحمت في هذه القضية، وإلا فـ”الجندر” مصطلح يعني نوع جنس الإنسان، ذكرا كان أم أنثى، مثلما يسجل في جوازات السفر، وفي الوثائق الرسمية لغرض معرفة هوية الشخص. بيد أن الجديد، على ما كان قديما، ويلاحظه القارئ في الكتاب، هو أن أي قضية تطرح في أي بلد أو مجتمع، تصبح قضية عامة عالمية بسبب سرعة الاتصال بين البشر.
ويتابع الخيون “انتقال المعلومات اليوم يتم عبر الضوء، وسرعة حركة الإلكترون، لذا ما يظهر بأوروبا من إعلان حقوق المثليين، وأخبارهم ملأى في التراث العربي الإسلامي، وانعكست مباشرةعلى مجتمعاتنا، حتى إن عددا من الدول أصدرت قوانين، وأعادت صياغة قوانين سابقة، على سبيل المثال القانون المعمول به منذ عقود، الخاص بالبغاء، مثلما حصل بالعراق، وقد أشرت إليه في التمهيد، والمقصود به قانون التجارة بالجنس، وهذا ما هو ممنوع بدول أوروبية أيضا، لما فيه من عبودية وببيع المرأة لجسدها، أثره يقع على النساء بطبيعة الحال”.
رشيد الخيون: لقد وجدنا في هذا الجنس سلوكا خاصا، يتذبذب بين الرجولة الظاهرة والأنوثة المكبوتة، ولم نجد أسماء من النساء اللواتي بدت عليهن الميول الذكورية
غير أن اسم هذا القانون “الشذوذ الجنسي”، ويعاقب المثليين، الذين وجدوا أنفسهم، منذ الولادة بهذه الميول، كان أبعد من منع البغاء، وإذا كان تعيين هذا الشذوذ على المظهر، فسيكون حارسا على الفضيلة، يؤخذ به من أطال شعره، وظهر بمظهر الترف، ومن اعتنى بهندامه، وخصوصا من المراهقين، وسيكون مثله مثل قانون “الحجاب” بإيران مثلا، وستقاس ملابس الفتيان والفتيات، وفق هذا القانون.
يكشف الخيون في كتابه حياة تلك الفئة التي ظلت محتقرة، لكن بالوقت نفسه، لم يرفض التعامل معها، ومن العديد منهم من استغل سياسيا، مثل عبادة المخنث، الذي استغله خليفة زمانه مهرجا ضد من يعدهم من أعدائه. ويبين كيف أن بعض الفقهاء تعاملوا ضد هؤلاء؛ ونسجوا الخرافات عن وجودهم، كأنهم أولاد الحيض، وحضور الشيطان بين أمهاتهم وآبائهم في الفراش، أو إن أرادوا أن يميزوا الخنثى رجلا كان أو امرأة، ينصحون بعد أضلاعه، إذا نقصت كان امرأة، أو عن طريق معاينة كيفية بوله.
ويلفت إلى أن ما يواجهه العالم من مشكلة، في هذه الظاهرة، أن الكثير منهم تبوأ مراكز حساسة بدولهم ومجتمعاتهم؛ فصاروا وزراء، وقادة، وأساتذة جامعات، ومثقفين كبارا، وإعلاميين مشهورين، بل فاحشي الشهرة، وأطباء ورهبانا، ومنهم من اشتهر بعمل الخير، ولهم مؤسسات لإنقاذ الحيوان من الإهمال، ودعم حياة الإنسان، ومنهم متبرعون كبار لمصلحة العالم الذي يئن بالفقر والبؤس، وآلام الحروب، والأوروبيون لا ينظرون إليهم إلا بإنجازاتهم.
بطبيعة الحال، مثل هؤلاء صار لهم صوت مسموع، ويريدون تأكيد عدم عودة معاملتهم بالاحتقار، وأن تصدر قوانين تعترف بهم كجنس خاص. أكثر ما يتضح ذلك بين الرجال، أما النساء فوجودهن ملحوظ بينهم، ولكن طبيعة المرأة لا تفضح تلك الميول، مثلما تبرز لدى الرجال.
ويختتم الخيوان كتابه راجيا ألا يتهم بما كتبه بالترويج لظاهرة المثليين، ورفع علمهم “قوس قزح” الذي طالما أعطى الفقهاء الرأي الخرافي به، على أنه قوس “قزح” والأخير ما هو إلا الشيطان، وبينما أعطى علماء الطبيعة الأقدمون الرأي العلمي به، بأنه ظاهرة توافقية بين شعاع الشمس والمطر، فتظهر الألوان الفرائحية، وليس على البال أن تختار ألوان “قزح” راية لهذه الجماعة. كان الغرض دراسة الواقع من خلال التاريخ، مع التأكيد أن الضجة جديدة والظاهرة قديمة.