السرد غير الواقعي هو الذي أنجب السرد الواقعي

كثيرا ما يتردد أن الحضارة العربية هي حضارة شعر، ويختصر الأدب العربي القديم في الشعر، بينما يقبع الساردون في الهامش إلا قلة نادرة منهم. ولا يعود ذلك إلى ضعف في السرد العربي، بل إن العرب من أول الأقوام التي عرفت السرد متوارثة إياه عن بلاد الرافدين والفراعنة وغيرهما من حضارات، بل السبب في تهميش السرد هو ميل القادة السياسيين إلى الشعر على حساب الحكايات.
تعد الملاحم مرحلة تالية للأسطورة التي بدورها قامت على قاعدة الخرافة في حين انبنت سائر الأنواع الأدبية الأخرى على كل من الأسطورة والملحمة. ثم تحولت الأنواع إلى أجناس شعرية وسردية ولكنها بقيت تستلهم أسسها من القاعدة / الأصل التي هي الخرافة.
وإذا كان هذا الاستلهام السردي للقاعدة لا يتحدد بجغرافيا ما، فإن القاعدة لها جغرافية محددة هي بلاد الرافدين كأول أرض فيها عمل الإنسان وفيها أبدع. وأغلب إبداعاته الأولى شفاهية ولم تصل إلينا ولكن وصل ما انبنى عليها، بدءا من ملحمة غلغامش ومرورا بالنصوص الأدبية المدونة. وهي بمجموعها تدل على الخرافة قاعدة إبداعية انبثقت منها النتاجات الشعرية والسردية ووقع تناقلها بشكل لا واع ولا جمعي، مزجا بين التاريخي والخيالي وتفكرا في الخلق والبعث والطوفان وغيره.
الفاعل السردي
ما سابقية الشكل السردي سوى شموليته المتأتية من زخم ما فيه من تخييل وتحقيق يشتبكان اشتباكا لا حدود له مكونين المخيال الجمعي. وليس فيه صدق وكذب أو وهم ويقين كما لا اقتصار فيه على صورة دون غيرها ولا احتكام أو تسليم إلى العقل من دون الارتكان والتفويض إلى النقل الذي هو حكائي شفاهي. ولا شرط في هذا النقل لمنطق أو جنون سوى شرط القصدية في تمرير المعقول من خلال اللامعقول وصيرورة المحاكاة مأخوذة من اللامحاكاة.
وعلى هذه الشاكلة تحددت مقومات القص العربي القديم وعلى وفقها قامت تقاليده المستقاة من منابع خرافية وأسطورية وشعبية ودينية وتاريخية. ومن تلك المقومات: الموضوعات والأساليب والمنظورات.
ما كان للسرد الغربي الحديث أن يغدو واقعياً لولا أنه مر بمراحل طويلة من اللاواقعية متأثرا بالحكايا العربية
ويُضاف إليها مقوم مهم وأساس ألا وهو (الفاعل السردي) الذي إليه تُسند الأقوال والأفعال، ومن خلاله تتشكل سائر المقومات القصصية، وأي حديث عن مقوم معين لن يكون وافيا بشكل مؤكد من دون الوقوف عند الفاعل السردي.
والفاعل السردي بنية قولية لكيان ذي شكل محدد واسم معلوم وأبعاد واضحة لكنه غير ممكن الفاعلية سرديا لاستحالة امتلاكه القدرة على الوعي أو الكلام أو التحرك أو التفاعل.
والمفارقة الفنية هي أن هذه الاستحالة نفسها تجعل لذاك الكيان فاعلية سردية، تحفز في الحكاء استحضار مقومات القص الأخرى. أي أن التفكير في الفاعل السردي غير الواقعي هو خطوة أولى نحو الاهتداء إلى موضوع بعينه وتحصيل أسلوب مناسب واتخاذ منظور معين، ثم تحبيك هذه المقومات لتكوين النسيج السردي الذي به تتحول الاستحالة إلى الإمكان وتغدو المحاكاة حاصلة على وفق قانون الاحتمال الأرسطي.
ما كان للسرد الغربي الحديث أن يغدو واقعيا لولا أنه مر بمراحل طويلة من اللاواقعية ولقد تأثر كثيرا بما في الحكايا والقصص العربية القديمة من توظيف لموضوعات غير واقعية، بدءاً من دون كيشوت لسرفانتس ومرورا بكانديد لفولتير ووصولاً إلى أقبية الفاتيكان لاندريه جيد.
وما يجعل لسردنا القديم هذا التأثير الموضوعي هي تقاليده الفنية الناجمة من مسالكه الخاصة التي ابتدعها ووظفها كأساليب حرص الحكاء العربي على اتباعها، وبها عبّر عما يختزنه من مخيلة كبيرة بها دعم غاياته التعليمية ورؤاه العقلانية. ومن ذلك استبطانه دواخل الأبطال الآدميين وغير الآدميين، ناقلا ما يقوله سارد ينظر بعين الطائر نظرة شمولية تستغور تفاصيل المشهد السردي.
ولا تخفى تأثيرات المنابع الأسطورية والخرافية الرافدينية في مثل هذا الاستبطان الذي نجد آثاره واضحة في ملحمة غلغامش.
الحكاء كمؤلف هو ليس ذاتا مغيبة وخارجية لذات مفترضة ومتخيلة كما هو الحال في السرد الواقعي
ولقد عملت الشفاهية على تكرار الأقوال وتتابع الأفعال التي عادة ما ترافق الاستبطانات، وغدا تقليدا فنيا في السرد العربي القديم يصطلح على تسميته بتقانة المتوالية السردية (Narrative Sequence) وفيها تتابع أحداث الحكاية قصرا وفصلا وانقطاعا واتصالا، مما نجده في حكايات ألف ليلة وليلة. وعادة ما يكون الزمان في البناء المتتابع للأحداث غير الواقعية استرجاعيا.
ويمكِّن أسلوبُ التتابع المؤلفَ من توجيه القارئ نحو التفكير بهذا الوضع الخاص اللاواقعي حيث كل شيء يجري بالمقلوب؛ فالحدث مخترق والشخصية مختلقة واللغة منزاحة انزياحا يحيل على عالم غني ومتنوع لا نظير واقعيا له.
ولا غرابة في أن نجد لهذا التتابع الذي يجعل الجمع بين ما هو مستحيل فعلا وممكن قولا متاحا ومنطقيا، جذورا في الأساطير التي تواترت حكاياتها ووظفت في الملاحم وظلت بعد ذلك تتناقل جينالوجيا عبر الأقوام شعرا وسردا.
الأمثلة في ملحمة جلجامش على تكرار الأقوال وتتابع الأحداث كثيرة، منها ما جاء في اللوح الأول مسترسلا استرسالا تتماهى معه اللاواقعية بالواقعية وتغدو المحاكاة غير متضادة بل طبيعية وكالاتي “هو الذي/ فهم كل شيء/ صباح مساء/ راعي أوروك/ رآه مكفهرا/ امتقع وجهه/ صار وجهه/ جزع قلبه/ فتح فاه/ ذهب الصياد/ مع الحيوان/ وأنا وأنت/ رأيت حلما/ رفعت / هفوت/ اجعله مساويا”.
إن استعمال التكرار والتتابع يمنح الفواعل السردية غير الواقعية حيوية ويجعلها تصنع واقعا مفترضا يوازي الواقع المعيش، فيغدو السرد من ثم واقعيا وقد صار القارئ مشاركا السارد تلك الصناعة عبر تأويل الواقع التاريخي بالواقع الحاضر. وتصبح الواقعية إضافية ومضاعفة بمسارات تقرِّب القارئ من جماليات، قد لا يصل إليها بالسرد الذي يحاكي مباشرة واقعه المعيش.
لا حدود للتخييل
السرد أساس الشعر لأنه أسبق منه والخرافة هي أساس السرد، وتدوير الخرافة أهم ما يمكن للسرد غير الواقعي اعتماده
تجعل التضمينات والتناصات النص السردي غير الواقعي محملا بإحالات مرجعية هي تبعة من تبعات القص الشفاهي. وتتوقف فاعلية التضمين على ذاكرة الحكاء وما يملكه من خلفية معرفية تاريخية وسياسية ودينية واجتماعية ولغوية ونفسية.
تضمين النصوص السماوية والوضعية وبقصدية التعرف والتحقيق، يجعل الحكاء فاعلا في تحقيق غايته التعليمية نافعا المتلقي الذي بحبه للاطلاع والتعرف يصدق الحكاء ويثق به ثقة مطلقة من دون ارتياب أو تكذيب. والأساس في هذه الثقة أنّ ما يقوله الحكاء من سرد غير واقعي ومستحيل، ليس تخريفا لأنه ممكن الحصول ومتوقع الحدوث ولا يحتاج من الحكاء تبريرا أو إثباتا؛ ولماذا يبرر وهو نفسه المؤلف كذات واحدة لا ثاني لها، وبيده خيوط الإحالة المرجعية ويملك المعرفية فيما يحكيه من سرد واقعي لاسيما حين تكون المعرفية متعلقة بنصوص القرآن وسير الأنبياء والصالحين.
ويكثر في السرد القديم استعمال التضمين والتناص كتقليد يحقق لما هو غير مفهوم فهماً لسانياً بلا ارتدادات أو تشابهات فتغدو الحكايات والقصص مسترسلة في بساطتها وغير معقدة في استحالة أقوالها وأفعالها وبأفق انتظار يحقق للمتلقي توقعاته.
وليس بواجب على الحكاء كمؤلف أن يراعي مدارك المتلقين أو أن يتحسب من الإفراط في التخييل لسبب بسيط، هو أنه لا يريد إيهام متلقيه بواقعية ما يقصه عليهم، بل العكس هو يريد منهم أن يدركوا أن ما يسرده عليهم من أوهام وتهويمات وإيهامات هي ممكنة ومحتملة باحتمالية ما يجري للأبطال في القصة من مغامرات غير معقولة تفضي إلى نهايات معقولة.
فالحكاء كمؤلف هو ليس ذاتاً مغيبةً وخارجيةً لذات مفترضة ومتخيلة كما هو الحال في السرد الواقعي، بل هو صانع لخطاب متخيل فيه تتجسد الأشياء أو الشخصيات على نية تصوير ما لا وجود له في حياتنا من كائنات عجيبة أو قوى خفية أو كنوز مخبأة أو دهاليز معتمة وغير ذلك كثير.
من هنا صار أسلوب التضمين والتناص تقليدا من تقاليد السرد العربي القديم، وساعد في رسوخ هذا التقليد ما امتلكه الحكاء العربي من حذق ونباهة ومعرفة وفطنة فكأنه عرف علوم الأولين والآخرين وخبر كل تجارب الحياة وسار في دروب لم يسر فيها قبله أحد.
ويصنع الوصف المكاني عوالم مستحيلة ليس لها نظير يُحاكى أو مثيل يُضاهى به. واستحالة الوصف في القص تعني خلخلة مقاييس الكم والكيف التي معها تتضعضع موازين العقل إلى درجة الدوار والعبث والتناقض مع كل ما هو معقول وممكن، فلا حدود للتخييل وهو يتفوق على الطبيعة ويخترقها لا أن يحاكيها.
السرد والشعر
إذا كان السرد أساس الشعر لأنه أسبق منه والخرافة هي أساس السرد، فإن تدوير الخرافة هي أهم ما يمكن للسرد غير الواقعي أن يعتمده في صنع عوالمه المتخيلة في شكل كهوف ومغارات ذات دهاليز يقبع فيها الجان والغيلان، ومخزونة فيها الكنوز والحسناوات أو قصور مسحورة مبنية في السماء أو أمكنة غائرة في باطن الأرض وبهندسيات فيها كل ما هو عجيب وغريب، أو مدن لا مرئية أو جنائن وفراديس لم ترها عين إنسان أو جزر نائية فيها مخلوقات ليست بشرا وكنوز لا يخيل لأحد شكلها أو كواكب وأفلاك غريبة وبعيدة جدا تعود إلى أزمان سحيقة أو مستقبلية ..الخ.
وقد يقال إن حكايات ألف ليلة وليلة هي التي أسست لهذا الأسلوب وصار بعدها تقليدا، بيد ان اطلاعا بسيطا على مرويات الأدب الرافديني والفرعوني والإغريقي سيؤكد أن الخرافة هي المرجع الأساس لهذا المسلك الأسلوبي في الوصف. وأن العرب مثلهم مثل الأمم الأخرى عرفوا الحكاية الخرافية وتناقلوها ولكنهم لم يكتبوا الحكايات، أولا لظروف حياتهم التي لم تكن تتعدى في أغراضها حدود القبيلة وثانيا لكثرة هذه الحكايات وما كان يُزاد عليها ويُغير فيها بحسب اختلاف متخيلات كل حكاء.
حين ترجم ابن المقفع حكايات كليلة ودمنة من الفهلوية إلى العربية في القرن الثاني للهجرة انبرى بعض الكتاب إلى تدوين حكايات تؤكد أسبقية العرب ومنهم الجاحظ، ت 255 هـ، وعبدالله بن عمر اليمني، ت 400 هـ، صاحب كتاب “المضاهاة أمثال كليلة ودمنة بما أشبهها من أشعار العرب” بيد أن واقع حال القص العربي بقي في أكثره شفاهيا ولم يدون منه إلا ما نقله الكتاب في مصنفاتهم النقدية واللغوية والأدبية وغيرها. والسبب أن المركزية كانت آنذاك للشعر لأن علية القوم أقاموا للشعراء وزنا وأهمية على عكس الهامش الذي كان مهتما بالحكايات ويتفنن في تطويرها واستمر الحكاء على منزلته التي كان عليها في عصور غابرة.
وعلى الرغم مما في الحكايات من مبالغات غير معقولة، فإنها معتادة على المستوى السردي الداخلي، سعيا إلى معرفة المجهول الذي بكشف مغيباته يصبح غير المعقول ممكنا أو محتملا على المستوى القرائي التأويلي.
وكثيرة جدا هي الحكايات والقصص التي فيها الأمكنة عجيبة ومسحورة يسكنها العفاريت والجان والجبابرة وفيها من الطلاسم والشياطين والكائنات غير الآدمية ما لا يخطر على البال. والحكاء في كل ذلك لا يتحرى الصدق ولا يتوخى الاعتدال لأن هدفه ليس الإيهام وإنما التعريف.
ولا يقتصر الحكاء في صنع العوالم المستحيلة على المخيلة، بل قد يستعين بالواقع نفسه في عملية الصنع هذه من خلال الجمع بين المكان كمدينة معروفة مثلا وإضفاء الأوصاف العجيبة عليها مما نجده في مرويات الرحلة والمصنفات الأدبية الجغرافية.
وما يساهم في صناعة هذه العوالم هي الاستعارية التي بها يتقارب السرد غير الواقعي من القصة الشعرية أو القصيدة القصصية، لكن يبقى السرد هو الأساس الذي عليه يستند الحكاء في صناعته اللاواقعية. ومنها يأخذ الشعر صيغته الموضوعية فتغدو الجملة الشعرية انزياحية عن الواقع بالخيال، منتقلة مما هو محتمل إلى ما هو لا معقول. وكثيرا ما يتداخل الشعر بالسرد القديم على نوعيه الدخيل والأصيل، فيكون السرد تفصيليا والشعر هو الذي يختصره.