جسد مارلين مونرو المتعطش إلى النظرات

السينما الشعبية الأميركية تدفع قاعة العرض داخل الشاشة المضيئة.
الخميس 2024/07/18
كائن سينمائي مثالي

النجوم السينمائيون صناعة كاملة يقوم عليها المنتجون والمخرجون، وقد ابتكرتها هوليوود، من خلال التجديد في تقنيات إنجاز المشاهد والأفلام ككل، ليدخل عالم السينما بشكل كلي منذ الخمسينات في دائرة خلق النجوم. لكن صناعة النجم السينمائي ليست عملية فنية فحسب وهذا ما يكشفه كتاب “خفايا نظام النجم الأميركي”.

السينما تعمل انطلاقا من ثلاث نظرات: نظرة المخرج والمصور الذي يتولى مسؤولية تصوير اللقطات، ونظرة الممثلين كل منهم لزملائه، ونظرة المتفرجين للشاشة. ويعتمد الخيال السينمائي الجذاب على الالتقاء المتناغم بين تلك النظرات الثلاث.

وفي هذا الكتاب “خفايا نظام النجم الأميركي” يحلل الأكاديمي والناقد السينمائي الفرنسي بول وارن نظرة الممثلين وردود فعلهم؛ فهذه النظرة بالذات، هي التي تحدد النظرتين الأخريين وتدفع نمو الحدث الخيالي. وبعبارة أخرى فإن تعلق أنظار المتفرجين بالشاشة يتوقف على مدى نجاح الكاميرا في الْتقاط نظرات الممثلين بعضهم لبعض بشكل سليم، بل وإستراتيجي. فعندما يتجه نظر الممثل نحو حافة الشاشة بوجل أو اشتهاء أو حب أو كراهية؛ ينعكس ذلك في نهاية الأمر في عيني المتفرج.

تجار النجومية

المشاهدون ينتظرون في قاعة السينما قدوم النجوم لينضموا إليهم عبر الشاشة، ويؤدوا أدوارهم كأنهم على خشبة مسرح
المشاهدون ينتظرون في قاعة السينما قدوم النجوم لينضموا إليهم عبر الشاشة، ويؤدوا أدوارهم كأنهم على خشبة مسرح

يناقش وارن التقنيات الفنية التي اعتمدت عليها السينما الأميركية وميزتها عن غيرها من السينمات العالمية. ومنها تقنية لقطة رد الفعل، التي تركز على ردود أفعال الممثلين الموجودين في المشهد حيال حدث معين، وغالبا ما تكون هذه اللقطات صامتة، وتكون عدسة الكاميرا قريبة من الممثل مركزة على تعابير وجهه؛ لتعكس حالته العاطفية، وتسمح للجمهور برؤية رد فعله عن قرب.

 ويتناول كذلك تقنية تدفق الصور المتتابعة أمام المشاهد، بغرض جذبه إلى الشاشة طوال مدة عرض الفيلم، بالإضافة إلى غيرها من التقنيات التي تسهم في صناعة النجم الهوليودي المبهر. كما يقدم أيضا تحليلا عميقا لمجموعة من الأفلام منها صباح الخير يا فيتنام، سان فرانسيسكو، كازابلانكا، انتصار الإرادة، ملقيا الضوء على أهم التقنيات المستخدمة فيها، ومتطرقا إلى العلاقة بين السينما والواقع.

يقول وارن إن مارلين مونرو هذه الشابة التي كانت تحمل اسم نورما جان مورتنسون في شهادة ميلادها الرسمية، كشفت من خلال شخصيتها المتفردة عن كونها الكائن السينمائي المثالي، وذلك قبل ترويضها لصالح عالم السينما. كانت ذات شخصية هشة، كما كانت تشعر بحاجة لا تقاوم بأن تكون محط الأنظار طوال 24 ساعة في اليوم، حتى إنها كانت تتشبث في كل لحظة بتليفونها، بل وكانت تصر على أن يصحبها أحد عند ترددها على دورة المياه، وأن يظل على مقربة منها طوال مدة قضاء الضرورة. كانت في حاجة إلى وجود بالقرب منها، خارج نطاق مجالها، ولكن شريطة أن يكون ذلك الوجود مجاورا لها فورا؛ لإنعاشها وبث الحياة في أوصالها.

والحق أن المجال الحيوي لنورما، ما كان يتشكل ويتألق في الواقع أو في السينما إلا بالتشبث بمجالها الخارجي. وقد لمس مكتشفو النجوم وصناعها تلك الحاجة المرضية لدى نورما جان مورتنسون، لأنْ تكون محاطة بالمعجبين، وذلك التعطش الذي لا يرتوي إلى نظرات المتطلعين. وقد استغلوا ذلك الضعف المتحكم في شخصها، بشكل منتظم ومدروس؛ لكي يحولوها إلى قوة أسطورية، وذلك لإحساسهم بأنهم يفجرون بذلك طاقات السينما الحية.

والواقع أن تجار النجومية نجحوا في عرض جسد نورمان المتعطش إلى النظرات، على الممثلين المصاحبين لها لكي يجذبوا إلى فلكهم تلهف المشاهدين إلى الاستمتاع بما ليس في متناولهم؛ فخلقوا بالتالي أسطورة مارلين مونرو، وبلغوا حد الكمال في الاستفادة بلقطات رد الفعل.

يلفت وارن إلى أن ألمانيا انتقلت فجأة من جماليات الهزيمة المنكرة التي لابد من التعبير عنها، مع معالجة الواقع المتعدد الجوانب، إلى جماليات” انتصار الإرادة” الذي لا يعوض. ومشاهدة هذا الفيلم النازي الكبير للمخرجة رييفنستال بعد استعراض الأفلام التعبيرية، لها وقع الصدمة. والحق أنه ما من عنوان فيلم توافق إلى هذا الحد مع موضوعه بقدْر ما توصل إليه “انتصار الإرادة” الذي جسده هتلر – جوبلز – رييفنستال؛ فكل شيء في هذا الفيلم مستقيم ومحكم ومشدود إلى أقصى حد: أجسام الرجال والوجوه التي لا حصْر لها في لقطات كبيرة، والجماهير، والاستعراضات العسكرية، والخطب الطنانة، والمباني العامة الشاهقة. والتماثيل والبيارق والرايات المرفرفة؛ فكل ما تلتقطه عدسات الكاميرات ويعده المونتاج، واضح ودقيق ومتميز ومعقم وقاطع.

وفي هذا العالم الجديد لا يوجد سوى السطح البراق والمظهر الخارجي للأفراد والأشياء، كما تم التخلص تماما من أدنى بادرة تعبر عن الروح القلقة أو الملتاعة، الشائعة في السينما التعبيرية. ففي هذا العالم الصلب، لا بد وأن تتلاشى من الآن فصاعدا الأنا الداخلية والليونة. فكأن قسوة العالم الخارجي المحيط بالناس لم تعد غريبة أو غير مألوفة أو بشعة أو مخيفة.. بل ألمانية، جرمانية، تتميز بقوتها وصلابتها.

تجار النجومية لهم أساليبهم في ترك الأمر للمعجبين لكي يتولوا بأنفسهم عملية تحويل الممثلين الرئيسيين إلى نجوم

فـ”انتصار الإرادة “يشكل حقا انتصارا للمشاهد (بفتح الهاء) وانقياد المتفرج، أيْ لقطة رد الفعل بكل تأكيد. فنظرة الشخصية التعبيرية الفزعة والمحدقة من هول الخوف من الغول الخيالي ذي الهوية المجهولة، تقع أخيرا على ضالتها، الفوهرر الذي يجسد روح ألمانيا الأزلية. ولا توجد سوى بنية واحدة موظفة في انتصار الإرادة، تعمل بصفائها الأصيل والأسطوري والديني والصوفي إلى حد ما. وهذه البنية الثنائية القائمة على نظرة الطرفين تحققها ألمانيا التي توحدت أخيرا وللمرة الأولى في تاريخها، بعد أن اكتشفت أخيرا الطريق المضيء، وراحت تتأمل وضعها الجديد في نشوة عارمة. فطوال ساعات العرض الثلاث لا نرى سوى شخصية واحدة، هتلر، الممثل والمخرج وقائد الأوركسترا الأوحد.

أما الشخوص البائسة والذليلة التي كانت تتسكع شاردة الذهن في ظلمات التعبيرية؛ فترفع رأسها الآن وترى أمامها طريق الخلاص. لقد تم تجميع مشاهد للجماهير من كافة أنحاء ألمانيا، عن طريق المونتاج؛ لتوحيدها في تزامن يصب في بؤرة واحدة: الفوهرر. إنه القبلة المنيرة التي ترسخت في أفئدة الشعب الأسمى. ويظهر هتلر من كافة الزوايا في آن واحد، بواسطة ثلاثين كاميرا: من الأمام والخلف ومن الجانب بزوايا مختلفة، وعن قرب وعن بعد، ومن فوق لتحت ومن تحت لفوق. وقد اعترفت مخرجة الفيلم، التي وجهت تصويبات المصورين نحو الهدف الأوحد، بأنها كانت في حالة من النشوة والغبطة البالغة أثناء التصوير.

يشير بول وارن إلى أن القاعدة الذهبية في السينما الهوليودية الكلاسيكية، كانت تقضي بأن تكون التقنية (المونتاج وحركة الكاميرا) غير مرئية. غير أننا يجب بتلك التقنية التي كانت ملزمة بالتخفي، أنه ما كان لها أن تستعرض عضلاتها، شأنها في ذلك شأن النجوم الذين لم يكونوا في حاجة إلى من يقدمهم. وكان بوسع التقنية أن تبقى في الكواليس.

 وعلى أية حال، كانت اللباقة تدعو إلى عدم استعراض التقنية وإخفاء إستراتيجيتها؛ لترك الأمر للمعجبين لكي يتولوا بأنفسهم عملية تحويل الممثلين الرئيسيين إلى نجوم. وفيما يتعلق بتخفي التقنية، يحضرنا هنا حدس كريستيان ميتز: إذا كان موقع المتفرج هو المجال الخارجي للشاشة، هل يمكن أن تكون هناك استراتيجية أشد حذقا من ترك المواهب الشابة لوسائل الإعلام قبل ظهورها في مجال الشاشة؟ والواقع أن الاحتفاء بالنجوم خارج إطار الشاشة وصنع شهرتهم بعيدا عن الأفلام، كان في صالح النظام السينمائي؛ فالمشاهدون ينتظرون في قاعة السينما المظلمة قدوم النجوم لينضموا إليهم عبر الشاشة، ويؤدوا أدوارهم على غرار ما يحدث على خشبة المسرح.

ححح

ويضيف “اللقطات الأولى لفيلم “سان فرانسيسكو” إخراج فان دايك 1936 نموذجٌ واضح لتلك الرصانة الإستراتيجية. فمع أن كلارك جيبل لا يتباطأ في الظهور في الفيلم، وذلك بعد دقيقة ونصف من مقدمة الفيلم، إلا أن تلك المدة القصيرة للغاية عامرةٌ مع ذلك بالعديد من اللقطات المقربة (33 لقطة) التي تتدفق على الشاشة. إنها لقطاتٌ للمحتفلين بقدوم العام الجديد 1905 في شوارع سان فرانسيسكو: لقطات مقربة للصدر في غالبيتها، ومليئة حتى الحافة بأفراد غير معروفين يغنون ويحتسون المشروبات، ويتبادلون التهاني، ولقطات في الليل تتميز بإضاءتها الجزئية، ولقطات لأشخاص لا ينظر بعضهم لبعض، ولا تعتمد على بنية المجال والمجال المقابل، والمشاهد/المشاهد، ولقطات ترد الواحدة منها إلى جانب الأخريات، وجميعها في مجال الشاشة، دون أن تأتي إحداها من المجال الخارجي؛ فجميعها لقطاتٌ لا تقحم المتفرج، ولا تسعى إلا إلى تقديم مشهد لمدينة تحتفل بالمناسبة المذكورة آنفا.

 في فيلم “صباح الخير يا فيتنام”، نحن بصدد الصفة المميزة للأفلام الوثائقية؛ حيث المجال الخارجي لا وجود له وإلا انزلقنا نحو الخيال الروائي. ومع ذلك تنجح تلك اللقطات في جعْل عمليات التقطيع البالغ عددها 33 قطعا عن طريق المونتاج، غير مرئية، بالرغم من غياب المجال/المجال المقابل؛ وذلك لسبب بسيط، ألا وهو اللجوء باستمرار إلى قطْع الحركة والاختفاء التدريجي للقطات، وهما وسيلتان جيدتان برعت السينما الكلاسيكية في استخدامهما لتعزيز الأساطير الأمريكية بأسلوب ناعم لا يتكشف لأحد. وأود أنْ أشير إلى أن التقنية ليستْ بريئة أبدا، وأن تواريها يشكل إستراتيجية تتبعها الأسطورة؛ لكي تغلغل في الفيلم وتبحث في الداخل على نحو أفضل، كما كان يقول رولان بارت. وعلينا أن نفكر بمزيد من العمق في هذه المسألة عندما نكون قد جمعنا معطياتنا.

نجوم هوليود

عع

يكشف وارن أن فيلم سائق التاكسي إخراج مارتن سكورسيسي، 1976 كان عملا مهما للغاية ونموذجا للإنتاج السينمائي الشعبي الأميركي الذي يؤثر بقوة على الجمهور. فالفيلم يتنقل على طول مشاهده الأربعة والخمسين مع روبرت دي نيرو، الذي يؤدي دور سائق تاكسي في نيويورك يدعى ترافيس. والفيلم في حد ذاته مثالٌ فيما يتعلق بمرحلتي التشبع والتحول؛ فروبرت دي نيرو لا يتخلى عن موقفه السلبي، بل والمتبلد، إلا في المشهد الثاني والثلاثين، أي في النصف الأخير من الفيلم، حيث يقرر التصرف فيتناول مسدسا ويقتل رجلا أسود.

وحتى مجيء تلك اللحظة المصحوبة برد الفعل الساحق، يقتصر أداء دي نيرو أساسا على تنفيذ ما لا يمكن أن يكون سوى تعليمات سكورسيسي، أي أن يترك نفسه ينغمس لقطة بعد لقطة ومشهدا بعد مشهد في حياة مدينة نيويورك الليلية، وهو مطالب هنا بالالتزام بثلاثة أشياء: أنْ يظل يقظا، وذلك أمرٌ سهل بالنسبة له؛ فهو يقول”أنا لا أستطيع أن أنام في الليل”. وأن يلتقط الزبائن وهو يقود سيارته ببطء: “أنا أذهب إلى المكان الذي يطلب مني، في حي برونكس أو بروكلين أو هارلم، فكل هذه الأحياء عندي سواءٌ”. وألا يفوته شيءٌ مما يحدث: “أسجل كل ما يجري في يومياتي”.

 أما المخرج والمصور ومهندس الصوت وطاقمه، فيتكفلون بالباقي ويمطرون عينيه وأذنيه بكل المطلوب؛ فهم يريدون منه، باختصار أن يتشبع مثل الإسفنج بما يرى ويسمع في تلك المدينة الغارقة في الفوضى، ليسجله في يومياته. ما كان يمكنهم أن يعثروا على أي ترافيس أفضل من روبرت دي نيرو، الذي يرصد في كافة الاتجاهات كل ما يتحرك ويلمع، ليتحمله ويستوعبه. ولنتذكرْ ما قاله في ندوة الممثلين في مؤتمر لوس أنجلس “أنا أتجه يمينا ويسارا في آن واحد.. وأراوغ”.

ويرى أن مجال الشاشة أصبح شيئا فشيئا الموضع الوحيد لرسو النجوم. غير أن هؤلاء النجوم ما كان يمكنهم الاستمرار في الاكتفاء بعرض وجوههم فقط في الروايات، والظهور في لقطات كلاسيكية وجها لوجه، وتعين عليهم أن يظهروا بكامل كيانهم من قمة الرأس حتى أخمص القدمين في مجال الشاشة، خاصة وأن الاستوديوهات باتتْ تحد شيئا فشيئا من نظام المسلسلات ذات النوعيات المقررة، الذي كان يغذي في الوقت نفسه المجال الخارجي عند المتفرج.

عع

كما أن التخلي عن ربط اللقطات الكبيرة بشهرتهم خارج الكادر التي تولت الاستوديوهات صنعها لهم في الماضي، استدعى لجوء الأخيرة بأسرع ما يمكن إلى خلق طراز آخر من المجال الخارجي، سواءٌ لهم أو للمتفرجين، يحتل في هذه المرة المركز الأول على الشاشة. ألم تمثل فكرة لي ستراسبرغ العبقرية في إدراكه في اللحظة المناسبة أن وجه النجم لم يعد من الممكن أن يظل منفصلا عن بقية جسده؟ ومن هو النجم الذي حقق ذلك الاندماج على الشاشة على خير وجه إن لم يكن مارلون براندو؟

 لقد مثل ذلك الدمج بين اللقطة الكبيرة والجسم في مجموعه الهدف الأخير لمنهج استوديو الممثل الذي أسسه لي ستراسبرغ في نيويورك في عام 1948، وتولى إيليا كازان تدريسه وعكف على تطبيقه. وقد أكد إيليا كازان مرارا أن “براندو أعظم ممثل في العالم”. وفي رأي لي ستراسبرغ أن براندو جدد السينما الأميركية؛ لأنه دشن شخصية التمثيل التي تقضي بألا يتقمص الممثل الشخصية التي يمثلها، بل أن يجعل هذه الشخصية تتقمصه. ولنفحص ذلك عن كثب دون أن يغيب عن ذهننا هدفنا الذي يتمثل في إثبات أن السينما الشعبية الأميركية لا تسعى إلا إلى دفع قاعة العرض داخل الشاشة المضيئة. لقد استهل مارلون براندو عقْد الخمسينيات وأثبت منذ أفلامه الأولى “الرجال” 1950، و”عربة ترام اسمها اللذة” 1951، “ويحيا زاباتا” 1952، و”يوليوس قيصر” 1953، و”المتوحش” 1954، و”عمال الميناء” 1954؛ أثبت أنه فعال بشكل ملحوظ في عملية خلق طراز جديد من المجال الخارجي، للحفاظ على انتقال الفرجة من المجال إلى المجال المقابل وذلك بإدخال جسمه في مجال الشاشة، بغية دفْعه إلى مساندة، وضم وربط بل وتجسيد نظراته هو في لقطات كبيرة.

13