غوستاف كوربيه.. مشاكس أسس للواقعية في التشكيل الفرنسي

لم يكن الفرنسي غوستاف كوربيه مجرد رسام، بل كان رساما حرا في التعبير بالألوان والشخوص عن أفكاره، متشبثا بغروره وتحديه لمجريات الأحداث في الوسط الفني من حوله، حتى أصبح أحد رواد الواقعية والمنددين بأهمية هذه المدرسة باعتبارها صادقة في التعبير عن الفنان وأفكاره وعن الواقع كما يراه.
لعل البورتريه الذاتي الأشهر في القرن التاسع عشر هو البورتريه الذي رسمه الفنان الفرنسي غوستاف كوربيه (1819 – 1877) لنفسه عام 1845 وأسماه “الرجل اليائس” حيث يصور فيه وجه شاب في أواخر العشرينات ويبدو الاستغراب على وجهه وكأنه يحدق في حدث فظيع يرتكب أمامه بذهول غير مصدق ما يراه ومصدوم منه ولا يستطيع فعل أي شيء وقد أمسك بكلتا يديه بشعره الطويل واحمرت وجنتاه من كثرة شرب النبيذ. لذلك ينطبق على هذا الرجل عدة أوصاف أخرى ماعدا صفة اليائس كأن نسميه “الرجل المتفاجئ” أو الرجل المصدوم أو الخائف، ولا ندري لماذا وصفه كوربيه باليائس فهذه الصفة لا تنطبق على وجهه الذي ينبض بالحياة.
هذا ما أثار استغراب كل من رأى هذه اللوحة التي رسمها كوربيه بعد خمس سنوات من انتقاله للعيش في مدينة باريس بغية دراسة الحقوق التي لم يجد نفسه فيها وعرف أنه لن يكون سوى رسام، لذلك كان يمضي في المعهد التابع للأكاديمية السويسرية يرسم الموديلات النسائية أو في قاعات متحف اللوفر الشهير محاولا نسخ أهم اللوحات المعروضة فيه وتقليدها وخصوصا لوحات الفنان الهولندي رامبرانت الذي تأبه كثيرا.
سافر كوربيه لاحقا إلى هولندا للاطلاع على فن رامبرانت ولوحاته، ولم تكن لوحة “الرجل اليائس” هي أول بورتريه ذاتي للرسام فقد سبقتها بثلاث سنوات أي عام 1842 لوحة “كوربيه برفقة كلبه” التي عرضت في صالون باريس وعرفت الجمهور الفرنسي بالرسام الجديد الذي ينحدر من قرية أورنان والتي سيذكر اسمها لاحقا في لوحتين من أهم لوحاته الأولى هي “بعد انتهاء العشاء في أورنان” عام 1849، والتي قال عنها الرسام الفرنسي العظيم يوجين ديلاكرو – الذي ينتمي إلى المدرسة الرومانسية في الفن التشكيلي – بأنها “لوحة ثورية” مبديا إعجابه الكبير بها. أما اللوحة الثانية فهي “الدفن في أورنان” عام 1850 والتي تعتبر نقطة تحول رئيسية في الفن التشكيلي الفرنسي وقد عرضت في الصالون عام 1851 ولاقت ردود أفعال مدوية وإعجابا كبيرا من الناس والنقاد.
هذه اللوحة هي التي أطلقت شهرة غوستاف كوربيه في فرنسا، واللوحة عبارة عن مشهد لجنازة عمه في مقبرة القرية حيث يصور بها أقرباءه والناس والكهنة ومساعديهم الذين يحملون الصلبان المعدنية وكلبا بالقرب من أحد الرجال مجتمعين كلهم حول القبر المحفور حديثا من قبل حفار القبور الذي يجثوا على ركبتيه وجمع من النسوة الناحبات المتشحات بالسواد في مشهد مهيب. وبهذين اللوحتين قدم كوربيه تحية إلى قريته التي يحبها وترعرع فيها وكان دائم العودة إليها، رغم استقراره في باريس وأسفاره الأوروبية، ليصور أجواءها وناسها البسطاء كلوحته الشهيرة “كسارو الحجارة” عام 1849.
في هذه اللوحة يصور رائد المدرسة الواقعية في فرنسا عاملين يقومان بتكسير الصخور بالمطرقة، وأراد بلوحته هذه تسليط الضوء على صعوبة هذه المهنة والجهد الكبير المبذول فيها، وقد قال عنها صديقه الأديب الفرنسي الشهير برودون “إنها أول لوحة اشتراكية”.
بعدها بعدة سنوات رسم لوحته الأخرى “مغربلي القمح” عام 1854 والتي تصور امرأتين تنخلان القمح وتطحنانه بغية تحويله إلى خبز في منزل ريفي بسيط. ويعتقد النقاد أن هاتين الامرأتين ليستا سوى أختي كوربيه والطفل الذي يظهر معه في اللوحة هو ابنه الطبيعي بحسب زعمهم.
كوربيه وبودلير
في العام 1846، تشكلت علاقة صداقة بين غوستاف وشارل بودلير شاعر فرنسا الكبير والذي كان في حينها لا يزال صحافيا وناقدا فنيا في الصحف الفرنسية، وقام كوربيه برسمه تعبيرا منه عن محبته لصديقه الجديد. كما تعرف كوربيه في نفس العام في باريس على الأديبين الشهيرين برودون وشانفلوري والأخير هو أول من أطلق على لوحاته لقب الواقعية في الفن التشكيلي.
منذ ذلك الحين، بدأ ينسب إليه تأسيس المدرسة الواقعية في الفن حيث كان رائدها في فرنسا وقد دعا كوربيه الرسامين الجدد الذين كانوا يترددون على مرسمه إلى نقل الواقع نقلا صادقا إلى لوحاتهم بقوله لهم “الفن هو نقل ما نراه”، وقد جمع كوربيه أصدقاءه آنفي الذكر في لوحته الشهيرة “مرسم الفنان” عام 1855 حيث تصوره في مرسمه وهو محاط بهم وبأناس آخرين ويقوم برسم منظر طبيعي وخلفه تقف فتاة عارية وهو يدير ظهره لها، مع أنه رسم نساء عاريات في عدد لا بأس به من لوحاته، حيث تمثل هذه الفتاة المدرسة التقليدية في الرسم التي ابتعد عنها وانخرط بالمشاهد الواقعية لذلك يدير ظهره لها، لكن الذي لم يكن في حسبانه هو رفض عرض هذه اللوحة البديعة بجانب إحدى عشرة لوحة شارك بها في المعرض العالمي الذي افتتح في باريس ذاك العام من قبل المحكمين ما جعله ينسحب من المعرض بسبب رفضه لها معبرا عن غضبه الشديد.
كرد فعل انتقامي، أقام معرضا خاصا به في صالة مجاورة لهذا المعرض عرض فيه لوحة “مرسم الفنان” بالإضافة إلى تسع وثلاثين لوحة أخرى له، الأمر الذي أغضب النقاد منه كثيرا فقد كان كوربيه شديد الاعتداد بنفسه إلى درجة الغرور أحيانا الأمر الذي سيكلفه كثيرا لاحقا ويجعله يدفع أثمانا باهظة نتيجة هذا الاعتداد الزائد بالنفس.
في العام 1854، رسم غوستاف كوربيه لوحته الشهيرة “اللقاء” وهي عبارة عن مشهد يصور ثلاثة رجال وكلب في أحد السهول الخضراء الخلابة في يوم مشمس سماؤه صافية، أحد هؤلاء الرجال هو الرسام نفسه الذي يظهر وقد أطلق لحيته وعلى ظهره حقيبة سفر ويبدو أنه كان في رحلة لإحدى القرى، والرجل الذي يقابله هو رجل نبيل يرتدي سترة زيتية ويحمل قبعته التي أزالها عن رأسه في يده كي يلقي التحية على الرسام الذي ينظر إليه باستعلاء وتكبر وكأنه أرفع منه شأنا! وبجانب هذا الرجل النبيل يقف رجل على ما يبدو أنه خادمه الذي يرافقه وقد أحنى رأسه كنوع من الإجلال لهذا الشخص المهم الذي صادفه سيده، والذي هو في الحقيقة ليس سوى ألفريد برويا ممول لوحات كوربيه وداعمه الأول في أعماله! والذي كان في تلك الفترة، أي سنة رسم اللوحة، على قطيعة مع الرسام بسبب فوقيته وتعاليه.
إذن هذا اللقاء لم يتم إلا في مخيلة كوربيه، لهذا سخر النقاد من لوحته “اللقاء” بعد مشاهدتها وأطلقوا عليها في مقالاتهم عنوانا آخر هو “صباح الخير سيد كوربيه!”، لكن الذي حدث في الواقع بعد مشاهدة برويا لها أنه أرسل إلى غوستاف يقول له “صباح الخير أيها السيد كوربيه، ما رأيك أن نحول هذا اللقاء إلى لقاء حقيقي”.
ثمن الغرور والتهور
في العام 1870، قرر الإمبراطور نابليون الثالث إمبراطور فرنسا، منح كوربيه جائزة “جوقة الشرف” وهي أرفع جائزة من الإمبراطورية الثانية تمنح لفنان، لكن الأخير رفضها مبررا ذلك الرفض بأن الملكية “لم تقم برعاية الفن والفنانين رعاية جيدة” لكن السبب الحقيقي لرفضه كان مناهضته للملكية وتأييده للجمهورية.
هذا الأمر الذي دفعه في العام 1871 حين تشكلت كومونة باريس إلى الانضمام إليها والقتال في صفوفها ضد الجيش وقد تم تعيينه مفوضا فنيا لها لكنه سرعان ما انسحب منها وعاد إلى فردانيته إثر خلافه مع أصدقائه الثوار لكن الموضوع لم ينته هنا لأنه سيتعرض للملاحقة الجنائية ويتم الزج به في السجن حوالي ستة أشهر وتغريمه حوالي 32 ألف فرنك فرنسي آنذاك إثر تحطيمه أجزاء من عامود الفاندوم الذي تم وضعه بالساحة المسماة باسمه لأنه برأيه يرمز إلى الملكية ويكرسها ليفقد كل أمواله ويصبح فقيرا وملاحقا حتى بعد خروجه من السجن ليقرر في العام 1873 الهرب إلى سويسرا التي ستصبح منفاه إلى حين وفاته عام 1877 وقد أخذ معه في هذا الهروب لوحته المحببة “الرجل اليائس” التي رسمها في بداية حياته!