طبيب نعم، حرفي لا

البطالة ليست ظاهرة اجتماعية واقتصادية فقط، هي فكرة وكتلة من مشاعر الخمول والكسل، وتزداد عنفوانا إذا توازت مع ثقافة الريع وتوزيع الكعك.
الثلاثاء 2024/07/16
شح مهنيي الحرف البسيطة

في حديث عارض، بعد رحلة شاقة في البحث عن حرفي مختص في تسريح أنابيب صرف صحي بالبيت، أعرب له عن أسفه بالقول: “يمكن أن تعثر على طبيب مختص في أي مرض، لكن من الصعوبة بمكان العثور على حرفي”، ولما أراد معرفة السبب، استطرد: “يشتغلون بالهاتف”.

هذه واحدة من المفارقات التي طفت على السطح، فيبدو أن المجتمع تشبع بالمهن الأكاديمية، بينما يزداد شح مهنيي الحرف البسيطة، رغم أن المقاهي والساحات تعج بمن يلعن البطالة صباح مساء، وفي أحسن الأحوال يعثر صاحب الحاجة على “رأس الخيط”، عبر رقم هاتف يدله على المخلص من مأزقه.

في الكثير من المحافظات والمدن الجزائرية الكبرى، يمكن أن تعثر على طبيب أو محام أو محاسب بسهولة، لكن أن تعثر على حرفي يشتغل في البناء أو لحام أو مصلح أعطاب مختلفة، فذلك مرهق للغاية ويتطلب تشغيل شبكة استعلامات وواسطات.

خلال السنوات الأخيرة صارت ورشات البناء من نصيب العمالة القادمة من دول الساحل والمغرب، ولا يختلف اثنان في الجزائر أن هؤلاء على قدر كبير من المردودية والاتقان، ولذلك بات حرفيو الجبس والتزيين المغاربة محل تهافت أصحاب العمل الخواص، بينما يتخفى الحرفيون المحليون وراء البطالة وزهد الأسعار.

الحكومة تنفق أغلفة مالية ضخمة على قطاع التكوين المهني، وتعتبره الفضاء المستقطب لمتسربي قطاع التعليم، والقادر على احتواء البطالة، إلا أن قطاع الحرف المهنية واليدوية يبقى من أضعف القطاعات في البلاد، فهو على عجزه عن خدمة الاقتصاد الوطني، لم يخدم حتى أصحابه وأراحهم من مطاردة فرص الريع، والبحث عن مناصب الكسل.

روى الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، في إحدى خطاباته، بأنه تحدث مع مجموعة من الشباب البطال، وحثهم على البحث عن فرص عمل في الزراعة أو البناء أو التلحيم أو الترصيص الصحي.. وغيرها، لكن ردهم كان مفاجئا له، لأنهم يريدون مناصب عمل في الإدارة، ولما حاججهم بأنهم لا يملكون المؤهلات اللازمة، طلبوا مناصب حجّاب أو أعوان أمن، فقال قولا شهيرا: “الدولة لا تبنى بالحجاب وأعوان الأمن”.

البطالة ليست ظاهرة اجتماعية واقتصادية فقط، هي فكرة وكتلة من مشاعر الخمول والكسل، وتزداد عنفوانا إذا توازت مع ثقافة الريع وتوزيع الكعك، ولا يختلف اثنان على الفارق الكبير بين مردودية حرفيي الداخل وحرفيي الخارج، ولا مجال للمقارنة مثلا بين البنّاء الجزائري والبنّاء الصيني.

لكن ذلك لا يجب أن نغفل مسؤولية المجتمع والمؤسسات الحكومية في تغيير مفاهيم الشباب البطال لاكتساب حرفة في اليد لمواجهة ضروب الحياة، وتنظيم وتأطير ومرافقة القطاع من أجل خلق قطاع حيوي يقدم خدمة جليلة للدولة، سواء في استقطاب اليد العاملة أو خلق الثروة.

وأول تلك المفاهيم أن الحرفة هي مهنة كغيرها من المهن، لا يمكن أن تكون مرادفا لمكانة اجتماعية أو ملامح شخصية ومعنوية، بل هي مصدر للثروة ومورد من موارد الاقتصاد والرفاهية.

الأكيد هناك فجوة عميقة كرسها سوء فهم وأزمة ثقة، لأن نفس ذلك الشاب البطال والحرفي البسيط وحتى الشاب المتعلم المتخرج من الجامعة، يمكن أن يؤدي نفس الحرفة بأريحية واطمئنان في المهجر، والسبب أنه هناك ليست مصدر للمعرة، وتوفر دخلا محترما لصاحبها.

18