الفنان الليبي إيهاب الفارسي يخوض تجارب مبتكرة في الشكل واللون

إيهاب الفارسي فنان تشكيلي ليبي شاب لا يحب الالتزام بالتراث وضوابط الفن التشكيلي، بل يقدم نظرته الخاصة للواقع، حيث يعيد تشكيله بأسلوب تجريدي انطلاقا من مفردات المجتمع الليبي ورموز البيئة جاعلا أعماله صوته الخاص الذي ينقله إلى الآخر.
تعتبر تجربة الفنان الليبي إيهاب الفارسي بمثابة عملية بحث عن الجمال والاقتراب من مكامنه في أعمال أصيلة تبدأ من الواقعية ولا تنتهي بالتجريد. فالفنان دائم البحث والاكتشاف، تجتمع كل تجاربه الأنيقة في رهافة التعبير واحترافية الأداء من رسم الوجوه بتنوع أطيافها ومستوياتها وأعمارها وجنسياتها وألوانها التي تمكن منها منذ بواكير حياته الفنية، وصولا إلى الرسم التشريحي للخيول والذي يعتبر من أصعب المواهب التي تستدعي قدرات استثنائية في التدريب والتعلم بمهارات وقوانين هذا الاتجاه من الفنون والتي لا يمكن أن يتقنها أيّ رسام في حياته الفنية إلا إذا كان متفرغا لمثل هذا النمط من الرسم. فالتمكن من رسم فن الخيول يستدعي حياة كاملة يسخّرها الفنان حتى يصل إلى درجات الإتقان التي قدمها لنا الفنان إيهاب في العديد من أعماله الخاصة برسم الخيول والتي كانت مرحلة من مراحله العديدة في فن الرسم والتلوين.
والتجريد عند الفنان الليبي هو رسم واقعي لصور مقطعية من سطوح الأبواب العتيقة وأجزاء من المباني وملامس جذوع النخيل وأخشاب القوارب المتشبعة بالملوحة وضوء الشمس في وضح النهار بعد البلل والرطوبة والإعياء، أسطح معدنية صدئة وحيطان جيرية مهترئة وبالية، مبان متداعية في زمن الحرب، ومدن متخيلة كأنها من زمن آخر في إشارة إلى حياة ماضية كانت ترسم حدود البهجة والأمل رغم مكابدات الحياة وقسوتها عبر التاريخ الليبي الطويل أي منذ آلاف السنين.
التفكير باللون وبالتالي التأمل بمناخاته والخوض في عالمه، أمر يتقنه الفنان فهو يجعل المشاهد لأعماله يتتبع طريقته في التعاطي مع هذه المناخات الملونة من خلال العيش في مناطق متخيلة بأن يصبح الكائن محاطا بهذه الأجواء المبهجة والتي بإمكانها أن تزيل عناء الحياة وغبار الأيام.
يتنقل بنا إيهاب في مناخاته المبتكرة بألوان غاية في الجمال، حيث يقترب من الأشياء في الطبيعة وهي تتخذ مكانها وألوانها وصفاتها التي تحلت بها من فعل تناسق وجودها في الهواء الطلق، حيث تقترب المواد المصنعة مثل حطام السيارات وبقايا القوارب من محيطها الموجودة فيه، فالقوارب مثلا يحيطها الملح ومياه البحار والرطوبة وأشعة الشمس فتصبح أقرب إلى ملامحها الطبيعية كأنها جذوع أشجار متيبسة، وكذلك الحال في المعادن التي يعتريها الكثير من التآكل والصدأ لتصبح منسجمة مع محيطها الموجودة به.
الفنان لم يرسم أشياء خارج الواقع ولم يغادر نظرته الواقعية للأشياء المرسومة بل أصبح أكثر اقترابا منها وأبلغ تعبيرا عنها بنظرة مجهرية ثاقبة تستدعي الكثير من الانتباه والتأمل سواء كانت تصويرية أو اقتربت من فن الأشكال والتجريد.
تمرن الفنان على تطوير مهاراته الأدائية في الرسم وكان يمتلك ذائقة رفيعة في خياراته التلوينية فكان يتنقل بين التصوير الواقعي في مشاهد للمدينة واقترب من مرافئ بنغازي القديمة ومراكبها في مشاهد متعددة، ورسم أجزاء من سفن قديمة وحيطان الجير المتهالكة وممرات المشاة والطرق الملتوية والمباني العتيقة والسحب الهاربة إلى الشمال تستظل تحتها مراكب قديمة متراصة في حميمية بالغة الجمال، مع تلوين سريع بضربات الفرشاة في مناطق وترك أخرى فارغة.
كان الفنان يستدعي مخيلتنا لإكمال ما تبقى من الصورة الناقصة والمرسومة في بعض أعماله ذات الملامح التعبيرية التجريدية والتي كانت المسافة الفاصلة بين الواقعية التي تمكّن منها والتجريد الذي كان قد استوفى شروط جماله في مقترحاته التشكيلية المختلفة. كذلك تأتي الألوان والأشكال لتبهج الروح والبَصَر حيث يعبّر بها الفنان بتلقائية في أشكال غير منتظمة تستفز الحواس وتستدعي الكثير من البهجة المفقودة في الأعمال الواقعة والتي تستدعي التفكير أولا في تلك الأشكال ومعانيها قبل تأملها والاستمتاع بها جماليا.
◙ التجريد عند الفارسي هو رسم واقعي لصور مقطعية من سطوح الأبواب العتيقة وأجزاء من المباني وملامس جذوع النخيل
كان الفنان إيهاب الفارسي يحرص على هذا الاتجاه من فن الرسم خصوصا في مراحله المتقدمة لأنه اكتشف طريقه الأمثل للتعبير عمّا يعتمل في داخله من أحاسيس ومشاعر تترجم بصورتها الأكثر بلاغة في التعبير. وهذا ما كان يدعو إليه الفنان الأرمني من أصل أميركي أرشيل غوركي منظّر التعبيرية التجريدية والتي بدأت في الولايات المتحدة وانتشرت في أوروبا وباقي بلدان العالم في منتصف الخمسينات والستينات من القرن الماضي ومازالت من الأساليب المعبرة عن روح العصر.
ويتحدث الفنان عن تجربته بالقول “رغم أن بداياتي في المدرسة الواقعية، إلا أنني أشعر بالانتماء للمدرسة التجريدية التعبيرية التي أتحرر فيها لأعبّر بأعمال أجد نفسي فيها. لا تستهويني فكرة الوفاء للتراث في الفن، بل أجد نفسي مكبلا أحيانا بتراث لم أختره لنفسي لأعبّر عنه. على عكس ذلك، أجد الحرية في شيء جديد ينطلق مني كإنسان له كيانه الخاص والمستقل، الفن بالنسبة إليّ هو أنا وليس الآخر".
يذكر أن إيهاب الفارسي من مواليد بنغازي عام 1979، حاصل على ليسانس آداب تخطيط تربوي وإدارة تعليمية، وماجستير إدارة تعليمية في الأكاديمية الليبية بنغازي، وليسانس لغة فرنسية جامعة بنغازي. التحق بالمرسم الحر بجامعة بنغازي تحت إشراف الأستاذ الفنان محمد نجيب، وكان أول معرض شخصي له سنة 2004 في قاعة المكتبة المركزية، وله مشاركات دولية في تونس وتحديدا في مهرجان إيلاف المتوسط الذي أقيم بمدينة سوسة عام 2015، ومشاركة في مصر سنة 2017 في مهرجان سفراء الفن العربي الذي انعقد في مدينة طابا. وله معارض فردية عديدة منها معرض بعنوان "زرقة النسمات" أقيم في القصر التركي (القشلة) عام 2019.