هذه مصر.. ادخلوها آمنين

رائعة بيرم التونسي “بساط الريح” قد تكون من أجمل ما كُتبَ من شعر في وصف البلاد، وأجمل ما لحّن وغنّى الموسيقار فريد الأطرش.
الاثنان، الكاتب والملحن، عاشا في مصر “أم الدنيا” بعيدا عن وطنهما الأم. الأول تونسي الأصل ولد في الإسكندرية ولم يزر تونس إلا في مرحلة الشباب، ليبعد منها مقصيا إلى فرنسا.
أما فريد الأطرش، السوري، فجاء مصر عام 1923 رفقة والدته الأميرة علياء وشقيقه فؤاد وشقيقته أسمهان هربا من ملاحقة الاحتلال الفرنسي لوالدهم وعائلتهم بسبب نشاطهم في المقاومة وكان فريد حينها طفلا في التاسعة من عمره.
استطاع الطفل اللاجئ، فريد، أن يصبح في ما بعد واحدا من ثلاثة تربعوا على عرش الموسيقى والغناء في مصر (عبدالوهاب، عبدالحليم وفريد الأطرش)، وكانت أخته أسمهان المنافس الوحيد لكوكب الشرق أم كلثوم، لولا أن اختطفها الموت يوم 14 يوليو 1944 في حادث سيارة مأساوي.
حكاية بيرم مختلفة وقد تكون من أكثر حكايات الهجرة واللجوء غرابة.
ولد بيرم في مدينة الإسكندرية عام 1893 من أسرة تونسية هاجرت إلى مصر عام 1833 أي قبل مولده بـ60 عاما. رغم ذلك لم يمنح الجنسية المصرية إلا بعد أن تجاوز الستين، منحه إياها الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر عام 1954.
وبيرم قد يكون الشخص الوحيد الذي نفي إلى بلده بسبب أشعاره الساخرة التي أزعجت الملك فؤاد فأبعدته السلطات الإنجليزية إلى تونس ومنها أقصي إلى فرنسا.
رغم ذلك كتب في حب مصر ما لم يكتبه شاعر مصري آخر. يكفي هنا أن نذكر رائعته “شمس الأصيل” التي لحنها لأم كلثوم رياض السنباطي ومطلعها:
شمس الأصيل دهبّت خوص النخيل
يا نيل تحفة ومتصورة في صفحتك يا جميل
والناي على الشط غنى والقدود بتميل
على هبوب الهوا لما يمر عليل
يا نيل أنا واللي أحبه نشبهك بصفاك
لانت ورقت قلوبنا لما رق هواك
وصفونا في المحبة هو هو صفاك
ما لناش لا إحنا ولا إنت في الحلاوة مثيل.
إذا اختلف الناس حول أغنية “شمس الأصيل”، فلن يختلفوا حول أغنية “بساط الريح” التي جمعت عام 1950 بين العملاقين المنفيين فريد الأطرش وبيرم التونسي.
في القصيدة يتنقل بيرم من بلد إلى بلد بخفة تكاد تكون لحلاوتها سحرا:
من سوريا التي براه الشوق لرؤيتها، إلى لبنان الذي في نسيمه كما يقول شفاء للأرواح، إلى بغداد بلاد الخيرات والأمجاد، إلى مراكش وتونس بلاد الحوت والغلة والزيتون.. وينتهي مناشدا بساط الريح أن يعود به إلى وادي النيل:
بساط الريح قوام يا جميل
أنا مشتاق لوادي النيل
أنا لفّيت كثير ولقيت البعد عليَّ يا مصر طويل
اللي يفوت أرضنا يروح ويرجع لنا.
هذه هي الصورة الجميلة لأم الدنيا التي طالما حنت على من احتمى بها ولجأ إليها، الصورة التي شهد لها يوسف عليه السلام مخاطبا أهله: “ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين”.
ومنذ ذلك التاريخ مازال اللاجئون يطلبون الحماية في مصر، وما زال المصريون يرحبون بهم.
هذه مصر. ادخلوها آمنين.