إبعاد الحرس القديم يمهد الطريق لتجديد الخطاب الديني في مصر

تغييب الوجوه المرفوضة شعبيا يقود إلى تقبل المجتمع فكرة التجديد.
الاثنين 2024/07/08
تسيّس الخطاب الديني أتى بنتائج عكسية

استجابت تشكيلة الحكومة المصرية الجديدة التي أقصي خلالها القائمون على الشأن الديني للامتعاضات التي طالت سياساتهم بشأن تجديد الفكر الديني. وإثر تعيين قيادات مشهود لها بالكفاءة والوسطية والاعتدال يأمل المصريون في تحقيق النتائج المرجوة.

القاهرة - أوحى إقصاء وزير الأوقاف محمد مختار جمعة من الحكومة الجديدة في مصر التي أعلن عن تشكيلها الأربعاء وتكليف الأزهري أسامة الأزهري مستشار رئاسة الجمهورية للشؤون الدينية، أن النظام اقتنع بأن الخلاص من الحرس القديم في المشهد الديني هو البداية الحقيقية للمضي بشكل متسارع في مشروع تجديد الخطاب الديني، لأن الوجوه القديمة أخفقت في المهمة وتزايدت حساسية الشارع تجاه ما تطرحه من أفكار وخطط أغلبها مصطنع ومسيّس.

ويراهن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي على العالم الشاب أسامة الأزهري لتنفيذ مشروعه الديني المرتبط بتجديد الخطاب، وهي مهمة ثقيلة لم تنجح في أدائها المؤتمرات المتكررة لوزارة الأوقاف، ولم تفلح معها مساعي دار الإفتاء، وظهرت مؤسسة الأزهر كأنها بعيدة عن المسؤولية، على الرغم من مرور أكثر من ثمانية أعوام على الدعوة بسرعة تجديد الخطاب الديني، دون نتائج.

وكان هناك شبه اتفاق بين المتخصصين في شؤون الإسلام السياسي على صعوبة تحقيق تقدم ملموس في ملف تجديد الخطاب الديني ما لم يتم التخلص من بعض قادة المؤسسة الدينية الذين تعاملوا مع الملف من منظور سياسي، وانشغلوا بتقديم فروض الولاء إلى الحاكم، وكانت النتيجة أن ارتفع منسوب الرفض المجتمعي للتجديد.

وافتقد البعض من قادة الصف الأول من المسؤولين عن الملف الديني في مصر الرشادة التي تقنع الرأي العام بجدوى رسالتهم، ما عرضهم لردود فعل سلبية دفعتهم للتراجع والانكفاء على أنفسهم، وهي إشكالية عبرت عن عمق الأزمة بين الجهة المتصدرة لمشهد التجديد وبين الفئة المجتمعية التي تتلقى الرسالة نفسها.

منير أديب: النجاح في مهمة تجديد الخطاب يتطلب مساندة  الجميع
منير أديب: النجاح في مهمة تجديد الخطاب يتطلب مساندة  الجميع

ويتعامل الكثير من المصريين مع أسامة الأزهري بالمزيد من التقدير، عكس مختار جمعة وزير الأوقاف السابق، لأن الأخير اعتاد الصدام واتهام كل من يُعارض فكره ورؤيته بأنه إخواني أو تكفيري، من دون أن يُدرك مدى الرفض لخطابه، حيث كان مسيّسا بشكل واضح، ولا يتلامس مع التدين الفطري لأغلبية المصريين.

ويقدر الأزهري قيمة التحاور البنّاء لإقناع من يختلفون معه في الفكر والرؤى ويرفض إصدار أحكام مسبقة قد تكون سببا في تحول البعض إلى شخصيات كارهة لكل من يقتحم ملف تجديد الخطاب الديني، ويُنظر إليه على أنه صاحب فكر وسطي يسعى من خلاله لمحو صورة رجل الدين السياسي الذي يُعادي المختلفين معه، وهو يؤمن بأن الفكر لا يواجه إلا بالفكر والحوار مهما طال أمده.

يرى مراقبون أن الميزة الأهم في أسامة الأزهري أنه استطاع خلال السنوات التي اقترب فيها من الملف الديني من خلال موقعه في مؤسسة الرئاسة معرفة العراقيل التي تعترض طريق تجديد الخطاب وحلولها، وأدوات كسب المعركة بلا مناوشات مع الرأي العام أو يقدم للتيارات المتشددة المزيد من أدوات كسب المعارك لصالحها.

وأفصح أسامة الأزهري عن التحديات التي تواجه تجديد الخطاب الديني، ولخصها في صعوبة الإلمام بتضاريس الواقع شديد التعقيد فلسفيا ومعرفيا واقتصاديا، وهشاشة التكوين الفكري في خريجي المدارس الأصيلة القديمة، وشيوع العشوائية والخطاب الفوضوي الذي صدم العقل المعاصر، والتخلف الحضاري الذي أفرز أمية وفقرا وواقعا اجتماعيا مليئا بالأزمات، وتجاهل ضبط القيم الإنسانية في الخطاب الديني.

وبينما أخفقت مؤسسة الأزهر في تحديد توصيف دقيق لتجديد الخطاب الديني، يعي وزير الأوقاف الجديد أن الأمر برمته يستهدف إعادة صناعة وعي ديني ووطني وإنساني جذاب ومنير ولافت للنظر ومؤسسي ومدرك للواقع بكل تعقيده وملابساته، بحيث يحاصر فكر التطرف والتكفير ويفنده، وأحرز في هذا نجاحا لمسه الناس.

ومن الضروري أن يعاد بناء الإنسان المصري، وتشغيل مصانع الحضارة في الفكر المسلم حتى يتم استخراج الحضارة والتمدن والحياة والإحياء من الفكر الإسلامي من خلال عمل منظومي مؤسسي، وفرق عمل، تعتمد على خطط وسياسات قابلة للتنفيذ على الأرض، لا مجرد مؤتمرات دينية بغرض الدعاية فقط.

ويغيب هذا الفهم عن أغلب قيادات الصف الأول وأئمة وخطباء المساجد في مصر، لأنهم كانوا مجبرين على تنفيذ رؤية صانع القرار الديني في وزارة الأوقاف، حيث حظر عليهم الاجتهاد وإعمال العقل والمنطق، وحاصرهم بخطب مكتوبة، بعضها مسيّسة وأخرى لا تناسب الواقع في المجتمع، وصارت هناك فجوة بين الشارع والمؤسسة الدينية.

واستثمر المتشددون تلك الوضعية للنفاذ إلى عقول الناس بسهولة، لتحريضهم ضد دعوات التجديد أو تعرية العناصر التي تتصدر المشهد، ما تسبب في بقاء الوضع على ما هو عليه، مع أن الرئيس السيسي لم يترك مناسبة طوال فترة وجوده بالحكم، إلا ويحذر من تبعات الانغلاق الذي ينظر إليه وزير الأوقاف الجديد على أنه كارثة.

كما أن قناعة أسامة الأزهري بمسؤولية المؤسسة الدينية عن ضعف خطوات تجديد الخطاب الديني، تقود إلى التسريع من وتيرة إقرار خطاب معتدل وسطي مقبول لدى كل الأطراف، المهم أن تساعده مؤسسة الأزهر بتنقيح التراث وتطوير المناهج الدينية والكف عن تقديس الموروثات والتعامل مع ملف تجديد الخطاب على أنه يخصه وحده.

وزير الأوقاف الجديد يؤمن بأن جزءا من معركة التجديد تكمن في تطوير مناهج الأزهر ونكران الذات
وزير الأوقاف الجديد يؤمن بأن جزءا من معركة التجديد تكمن في تطوير مناهج الأزهر ونكران الذات

ويؤمن وزير الأوقاف الجديد بأن جزءا من معركة التجديد تكمن في تطوير مناهج الأزهر ونكران الذات، وتجمّع المؤسسات الدينية على هدف واحد بعيدا عن أية خلافات أو مساعٍ للاحتكار، وإعادة إنتاج فكر معاصر بلا استسلام للماضي، مع الكف كليا ونهائيا عن اللجوء للقضاء لإسكات أي فكر مستنير، لأن الفكر لا يواجه إلا بالفكر.

واستقبلت عناصر سلفية – إخوانية تكليف أسامة الأزهري بالمهمة كمبعوث من السيسي لتجديد الخطاب، بمحاولة إنهاكه معنويا واستدعاء تصريحات قديمة حول هذا الملف لتجييش الرأي العام ضده من البدايات، في مؤشر يوحي بأن لديه أدوات كسب المعركة لصالح الدولة، وثمة مخاوف لدى المتطرفين من وجوده في المشهد.

وقال الباحث في شؤون الجمعات المتطرفة منير أديب أن العبرة في هزيمة المتشددين وجود شجاعة لدى رأس قيادات المؤسسة الدينية في مواجهتهم بالفكر والمنطق ومساندتهم لكل مفكر ورجل دين عصري يسعي إلى تنوير بصيرة الناس تجاه قضايا فقهية مسكوت عنها، وهذه عناصر تتوافر في وزير الأوقاف الذي يؤمن بحرية الفكر.

وأضاف في حديثه لـ “العرب” أن نجاح أسامة الأزهري في مهمة تجديد الخطاب يتطلب مساندة مختلف المؤسسات الدينية له، بعيدا عن المضي في إقرار خطط منفصلة لكل جهة، بحثا عن النفوذ واحتكار الملف لصالحها، لأن ذلك يستنزف الجهود ويوسع قاعدة الاستقطاب، ويقدم خدمة مجانية لمتشددين يستفيدون من بقاء الهوس الديني.

ويؤمن أسامة الأزهري بأن التباطؤ في تقديم أئمة ودعاة ووعاظ جدد، يتمتعون بمهارات خاصة ويخدمون متطلبات تجديد الخطاب الديني، هو جزء من الأزمة، فعدم تأهيلهم يعرضهم لتجييش الغالبية ضدهم ولنشاط المتطرفين على الفضاء الإلكتروني.

ويعي الوزير الجديد أن النجاح في المهمة يتطلب إنتاج خطاب ديني وسطي عبر إقرار إستراتيجية دعوية فقهية متكاملة، تتوحد خلفها كل المؤسسات الدينية، مع انتقاء عناصر معتدلة لتسويقها إلى الناس، والتوسع في الاجتهاد والتعمق في الدين بشكل عصري، والكف عن تقديم أي مؤسسة رسمية نفسها على أنها حارسة للدين.

ويظل التحدي المركزي هو الإسراع من وتيرة تجديد الخطاب، وعودة الثقة والمصداقية للأئمة التابعين لوزارة الأوقاف، لأن عددا كبيرا منهم تم إنهاكهم معنويا عندما فُرض عليهم تسييس الخطاب الدعوي فأصبحوا مرفوضين شعبيا، وإذا استمرت تلك الأزمة سوف تظل هناك ثغرة خطيرة تنفذ منها التيارات المناهضة للتجديد.

7