ذكرى لقاء قديم لربع ساعة تعيد محمد المخزنجي إلى الظهور

الكثير من الكتاب يختارون العزلة وعدم الانخراط في اللقاءات والمناسبات الأدبية وحفلات التوقيع والظهور المستمر، مخيرين العمل على كتاباتهم وجعل نصوصهم هي همزة الوصل بينهم وبين قرائهم. من هؤلاء الكاتب المصري محمد المخزنجي الذي كسر عزلته مؤخرا بلقاء نادر معه.
القاهرة - اعتاد الأديب المصري محمد المخزنجي الاعتذار عن دعوات حضور الندوات والمشاركة في المنتديات، ليس من باب التعالي أو الرغبة في البقاء داخل برج عاجي. فللرجل أسبابه ويرى أنه يقترب من الناس عبر قصصه وكتاباته، لكنه قرر كسر عزلته أخيرا وغيّر عادته في التواري.
التقى المخزنجي على مدى ساعتين قبل أيام بمحبيه قراء وكتابا وفنانين في أمسية ثقافية شهدت حوارا مفتوحا شاملا، أدارته الأكاديمية غادة لبيب مؤسسة مجموعة “بوك جاردن” على موقع فيسبوك، في مقر “منتدى مدينتي الثقافي” بشرق القاهرة، بحضور زياد الشاذلي مدير المنتدى.
لقاء قديم
عبّرت المؤلفات المتنوعة للكاتب المصري (74 عاما) على مدى عقود برقي ورقة عن معاناة الإنسان وتطلعاته في الحياة. كتب المقال، والقصة، والرواية، والقصة القصيرة، وأبدع في فنون الكتابة حالما بسعادة البشرية.
لماذا الاختفاء، ولماذا ظهر الآن؟ سؤالان طرحهما المخزنجي بنفسه في الندوة، موضحا أنه قرر منذ فترة الانقطاع التام عن أيّ نشاط خارج كونه كاتبا، يقرأ ويكتب ويعيش حياته البسيطة، لإحساسه بأن ما بقي من العمر والطاقة لا يحتمل إهدارا، كي يستطيع أن يحكي بالكتابة بعض الحكايات التي ما زالت باقية لديه قبل الرحيل.
المخزنجي طبيب نفسي، أحب الطب ومارسه، واستلهم منه قصصه، لذا تغوص كتاباته في دقائق نفوس البشر، تشرح أوجاعها وأسبابها، ثم تصف العلاج، وإن يكن عبر المقارنة بين الإنسان وباقي الكائنات.
الظهور الأخير للرجل له دوافع وقصة، بدأت عندما طلبت الأكاديمية غادة لبيب، طبيبة الأسنان، مؤسسة مجموعة “بوك جاردن” من الأكاديمي أسامة علام الكاتب الطبيب المقيم في الولايات المتحدة أن يتوسط لدى صديقه وأستاذه محمد المخزنجي للظهور في ندوة بمنتدى مدينتي الثقافي، وقد فعل، وجاء رد الأستاذ كالعادة بالاعتذار، لكن فجأة تغيرت الوجهة.
عرف المخزنجي أن منظمة الندوة (غادة لبيب) حرم ابن الأكاديمي محمد حافظ أستاذ طب الأطفال بجامعة المنصورة التي درس فيها، فتنبه، واستعاد ذكرى لقاء قديم مدته 15 دقيقة، لكنه أثر في حياته وربما أنقذه.
قال الكاتب المصري إنه عندما ينطق اسم العالم الكبير محمد حافظ تنتابه هبة عاطفية، ويتذكر اختبار السنة الرابعة في كلية الطب بجامعة المنصورة في مادة طب الأطفال، والممتحن هو الأكاديمي محمد حافظ، الذي تعامل معه بهدوء دافئ، وإنسانية كبيرة، ومنحه تقديرا عاليا في الاختبار، رغم أنه لم يكن وقتها طالبا متفوقا لانشغاله بالعمل السياسي الطلابي في عصر الرئيس المصري الراحل أنور السادات.
كان شعور الوفاء للأستاذ هو المحرك والدافع لدى المخزنجي كي يكسر عزلته، ويستجيب لطلب حضور المنتدى، وكان ذلك اللقاء القصير القديم مع أستاذه نقطة تحول شجعته على توجيه الاهتمام لدراسة الطب بجدية.
قد يكون الوفاء أيضا من الأستاذ للتلميذ، حيث فاجأت مديرة الحوار ضيفها بوجود الأكاديمية نادية الصديق ابنة أحد أصدقائه وتلاميذه في جامعة المنصورة الأكاديمي محمد الصديق أستاذ الأنف والأذن والحنجرة، فما كان من المخزنجي إلا أن قام من المنصة متوجها إليها في القاعة لتحيتها قائلا: “أنت ابنة الأكرمين”.
الكتابة مهنة التواضع النبيل، هكذا يقول الأديب المصري محمد المخزنجي، وفي معرض رده بنفسه عن سؤاله، ماذا أفعل هنا؟ مؤكدا أنه لا يحب التنظير، إنما يجيب عن كل سؤال بحكاية. لكن الاقتراب من الكبار في زمن يضطر فيه الجادون المخلصون إلى التواري يجبرنا على البوح بتساؤلاتنا لهم، لعلنا نجد الجواب الشافي.
سألت “العرب” الكاتب الكبير عن رؤيته لموقع “الحكاية” في الأدب، في ظل الاتجاهات الحداثية التي كثيرا ما تتجه إلى الإغراق في الرمز والغرائبية، بما يعجز القارئ أحيانا عن الفهم أو معرفة المغزى وما يرمي إليه النص، فيظن مع هذا أن الإلغاز قرين العمق في الكتابة، حتى وإن غابت الحكاية.
المخزنجي عاش ليروي بكل فنون الكتابة، بالمعلومة والخيال، بدقة ورقة، بجدية وإخلاص، فالمهم عنده دوما هو القارئ
رد المخزنجي بحسم قائلا “لا فن دون حكاية”، مؤكدا أن ذلك يسري على كل فروع الفن، وليس الرواية أو القصة فحسب، مستغربا استخدام النقاد تعبير السرد، فالأصح هو الحكي.
وأوضح أن ذلك يسري على الشعر، فنجد كل بيت في قصيدة “جارة الوادي” التي ألفها الشاعر الراحل أحمد شوقي، يضيف جزءا جديدا في القصة، بل في الفن التشكيلي؛ كل ضربة فرشاة في اللوحة تحكي شيئا، مثل لوحة “ليلة النجوم” لفان جوخ، نجد كل تفصيلة فيها تروي قصة تطلع الفنان إلى السماء من نافذة غرفته ورؤيته إياها.
وأشار المخزنجي إلى أن الأولى بالحكاية هو فن الرواية والقصة، وأن مذكرات الأديب جارسيا ماركيز جاءت بعنوان: “عشت لأحكي”، فالحكاية هي الأساس في الفن.
الأديب الطبيب، يبدو كأنه يخشى اللقاء المباشر بالناس، يتهيب أحاديث منصات الندوات وإضاءات العدسات، لكن تتبّع مسيرة حياته، كما يصفها هو بكلماته، يجعلك ترى أنه يمثل الكاتب المشتبك دوما مع الواقع، بالفعل على الأرض، بإخلاص، وليس فقط بين ثنايا الكلمات وصفحات الكتب.
تم اعتقال محمد المخزنجي إثر مشاركته في انتفاضة يناير بمصر عام 1977، وكرجل صاحب مبدأ، رفض الأخذ بمشورة المحامين بضرورة إنكار المشاركة في المظاهرات خلال تحقيقات النيابة، حتى لا يعد هذا اعترافا يزج به في السجن، لكنه تساءل وقتها: لماذا أنكر بينما أقتنع في داخلي بما فعلته؟ ورأى أنه يمارس حقا دستوريا في الاعتراض والتعبير السلمي، وهو ما أكده في التحقيقات، ما أدى إلى سجنه لمدة سبعة أشهر.
داخل السجن، مارس الطب كطبيب شاب على وشك التخرج، يقوم بفحص السجناء في عيادة تم افتتاحها في أحد الزنازين المغلقة، ومنحهم الأدوية بالمجان، وقضى 12 عاما من حياته طبيبا داخل أقسام الأمراض النفسية، من مستشفى العباسية بالقاهرة، إلى مستشفى المعمورة بالإسكندرية، إلى مصحة بافلوف في مدينة كييف في أوكرانيا، وعايش قصصا إنسانية متنوعة داخلها.
أكد أن العمل في المصحات النفسية منحه ثراء معرفيا بأوجاع الإنسان وأحلامه، اكتشف من خلالها حجم التوق البشري إلى الحرية، إذ رأى وعايش داخل هذه الأماكن كائنات عارية نفسيا في أدق وأصدق حالاتها الشعورية دون كذب أو مراوغة أو تجميل.
المهم هو القارئ
يحلم الكاتب المصري باكتمال مشروعي كتابين له، هما رواية “نهر المجانين”، و”حكايات العنبر الجواني”، ويضمان بعضا مما رآه من قصص وحكايات داخل المصحات النفسية، ويتمنى خروجهما إلى النور.
ولا يزال مشتبكا مع الواقع وما يجري في العالم، فلا يخفي حزنه على مدينة كييف عاصمة أوكرانيا حاليا التي عاش وعمل فيها في عقد الثمانينات من القرن الماضي، إبان حصوله على منحة دراسة الطب النفسي في الاتحاد السوفييتي السابق، ويصفها بأنها “المدينة الحديقة” لما كانت تضمه من حدائق شاسعة واخضرار على مد البصر يعيش في ظله البشر، وقال إن كييف يتم حاليا تدميرها في الحرب الروسية الأوكرانية “النازيون الجدد ونظام التفاهة يحرقونها”.
خلال فترة وجوده هناك، وقعت كارثة انفجار مفاعل تشيرنوبل النووي، يوم 26 أبريل 1986، بعد خمسة أشهر فقط من وصوله، وعايش المخزنجي بنفسه مشاهد الرعب والألم الإنساني، وشهد عمليات ترحيل الأطفال إلى خارج مدينة كييف لحمايتهم من الإشعاع، وسط دموعهم ودموع عائلاتهم، التي أسالت دموعه أيضا.
كتب المخزنجي في عام 1988 كتاب “لحظات غرق جزيرة الحوت”، وتم نشره بعدها بخمس سنوات، ليسجل ويوثق بقلمه للتاريخ لحظة أول رعب نووي بلا حرب عاشته البشرية.
بدأ الأديب المصري مبكرا كتابة الشعر، ثم تحول إلى القصة، وأحب وتأثر بكتابة الشاعر الإسباني خوان رامون خمينيث الحائز على جائزة نوبل عام 1956، واحتفظ لديه بنسخ عديدة من كتابه “أنا وحماري”.
وكتب كثيرا عن عالم الحيوان، وتمت ترجمة كتابه القصصي “حيوانات أيامنا” إلى اللغة الإنجليزية، ونال اهتماما واحتفاء كبيرين، فما هي الصلة التي يراها بين الإنسان والحيوان؟
يحترم المخزنجي الحيوانات، ويهدف من خلال كتاباته إلى إعادة التقدير للكائنات غير البشرية، قائلا “إنه عندما درس الحيوانات نفسيا وبيولوجيا وجد أمورا مدهشة، واكتشف أن الحيوان أكثر حكمة من الإنسان، من الزاوية الإيكولوجية، أي فيما يتعلق بالتواشج بين عناصر الحياة، من حيث التوازن بين العطاء والأخذ لدى الحيوان، فتظل الشبكة قائمة بلا خلل”.
بدأت علاقة المخزنجي بالطبيعة منذ الصغر في منزله، بمدينة المنصورة (محافظة الدقهلية في دلتا مصر)، وكانت تقع خلفه حقول على مد البصر، يجلس ليراقب كائناتها من النباتات والحيوانات. وفي رحلاته حول العالم في ما بعد يجد أن الغابات رغم ما بها من وحوش ضارية آكلة للحوم، إلا أنها تظل نظيفة وتحتفظ برائحتها جميلة، لأنه لا فضلات زائدة بها، ولا عمليات إعادة تدوير صناعية.
لماذا الاختفاء، ولماذا ظهر الآن؟ سؤالان طرحهما المخزنجي بنفسه، موضحا أنه قرر منذ فترة الانقطاع التام عن أيّ نشاط خارج كونه كاتبا
يعد يوسف إدريس أحد أشهر الأطباء الذين هجروا الطب إلى الأدب، فصار واحدا من أعلام الكتابة، وهو أستاذ وصديق لمحمد المخزنجي، وقد جمعتهما علاقة خاصة، أبرز ما تنم عنه الصدق، حيث تعرف المخزنجي على إدريس في مؤتمر طلابي في جامعة المنصورة، حضره وتكلم فيه.
ثار جدال بينهما إثر سؤال وجهه المخزنجي إلى يوسف إدريس، لكن الجدال قاد إلى تبادل رسائل ملؤها المحبة ووعد بلقاء، ثم أثمر صداقة استمرت سبع سنوات، حتى وفاة يوسف إدريس، ولم يخبره خلالها المخزنجي بأنه يكتب القصة.
وعنه قال “يوسف إدريس موهبة متوحشة ظلمت عدة مرات لعدم فهم شخصيته”، وعلى الرغم من اتهامه بالنرجسية إلا أنه كان عندما يأمن لشخص يصبح رقيقا وأخا وصديقا، وهو من أهم المبدعين العرب، الذين أحدثوا نقلة في مجال القصة، وفتح صفحة جديدة فيها بعد يحيى حقي ومحمود تيمور، لتنفتح الأبواب بعده لكل الكتابات القصصية التي تنشد التغيير واستلهام الروح العالمية والمصرية.
ولم يعرف إدريس أن صديقه يكتب القصة القصيرة إلا بالصدفة عندما حصل المخزنجي على المركز الأول في مسابقة أدبية في القصة القصيرة، ضمت لجنة التحكيم فيها إلى جوار إدريس الكاتبين الكبيرين لويس عوض وإحسان عبدالقدوس.
تعمّد المخزنجي إخفاء اسمه الذي يعرفه به إدريس، وكتابة الاسم الثلاثي دون اللقب على قصته كي لا يحرجه أو يورطه في أي مجاملة. وعندما عرف إدريس أن المخزنجي هو الفائز طلب الكلمة في حفل توزيع الجوائز، كاشفا عن الحكاية، مرشحا صديقه أن يتولى منصب وزير المالية لأمانته الشديدة ونزاهته.
عاش المخزنجي ليروي بكل فنون الكتابة، بالمعلومة والخيال، بدقة ورقة، بجدية وإخلاص، فالمهم عنده دوما هو القارئ، متعته واستفادته، وليس قوالب الكتابة.