الذوق العام التونسي بين التشدد والتفاهة

“لا تضحكوا عليّ، لكنني أريد أن أعرف ما هو الذوق العام الذي يقيسون عليه سلوكيات البشر المختلفين”. على هذه التدوينة لإحدى زميلاتي الصحافيات استيقظت، وظللت طوال اليوم أفكر في الأمر.
يعرّف معجم المعاني الذوق العام بأنه مجموعة تجارب الإنسان التي يُفسِّر على ضوئها ما يُحسّه أو يُدركه من الأشياء. وهو يشير أيضا إلى المعايير التي توجه سلوك الأفراد وكيفية تفاعلهم في المجتمع، ويسهم في تحديد ما هو مقبول وما هو غير مقبول من ناحية التصرفات والأخلاقيات الاجتماعية.
لكن السؤال الأهم الذي يبدو لي هو أيّ ذوق عام تتخذه الشعوب والسلطات دون توضيحه، ليقيدوا حريات الآخر المختلف عنهم؟ وهنا نتكلم عن الحريات الفردية أو حتى الجماعية التي لا تمس بالضوابط الأخلاقية العامة. وهل نحن قادرون كأفراد أو كمجموعات أن نتبنى ذوقا وحيدا مشتركا؟
الإجابة بالتأكيد لا وألف لا، فالبشر منذ بدء الخليقة إلى اليوم يمتلكون أذواقا خاصة بهم لا تشبه أذواق أقرب الناس إليهم، ومن يتخلى عن ذوقه لإرضاء الآخر هو كمن يتخلى عن حقه في أن يحيا الحياة التي يحبها ليعيشها آخر بالنيابة عنه.
ولا يمكن أن نقول إن هذا الذوق العام صالح لهذا المجتمع كليا، لأن المجتمع هو بالأساس خليط من مجتمعات مصغرة، وهو متغير من مجتمع إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى، ورغم ذلك يمكن أن يلعب دورًا في الحفاظ على التنوع الثقافي أو التغييرات فيه.
وبعض الدول مثل السعودية وضعت منذ سنوات قانونا ينظم الذوق العام، يتناسب مع التغييرات الاجتماعية والثقافية والانفتاح الكبير الذي تشهده، وهو ما يجعل الحياة داخل المملكة أكثر نظاما والتزاما بما يفرضه هذا القانون العام. أما نحن في تونس، فلم أجد أيّ مرجعية قانونية توضح ما هو الذوق العام للتونسيين بشكل دقيق. قد يحتاج الأمر أن أبحث كثيرا في المكتبات القانونية لكن مبدئيا فإن بحثا سريعا على مواقع البحث لم يفض إلى أيّ نتيجة، بل اقترح عليّ قوانين للذوق العام وضعتها دول أخرى.
ورغم أننا لا نملك توضيحا جليا للذوق العام إلا أن هذا المصطلح صار كثير التداول بين الناس، وتحديدا على مواقع التواصل الاجتماعي التي صارت اليوم مرآة للمجتمعات ومشكلاتها الفكرية والعقائدية والاقتصادية والسلوكية وغيرها.
وبنظرة سريعة على أكبر الصفحات والمؤثرين والترند الذي يتفاعل معه رواد السوشيال ميديا من تونس بإمكان أيّ شخص واع أن يلاحظ أن الشعب أغلبه ينقسم ذوقه العام إلى قسمين أحدهما يميل نحو التشدد الفكري والعقائدي والآخر يركض نحو مظاهر التفاهة بشتى أنواعها، وقليلون هم المفكرون والمتزنون والمثقفون أساسا.
الذوق العام لدينا توجهه بشكل خفي أو ظاهر وسائل الإعلام ورؤوس الأموال والقادة السياسيون وحتى أولئك القادة الدينيون الذي يبحثون عن استعادة سيطرتهم على الشارع عبر زرع أفكار ظلامية متشددة تحرّم على الإنسان أبسط حقوقه.
ولم نعد نعرف نحن النساء كيف يمكننا أن نعيش في مثل هذه الأجواء، فمهما فعلت المرأة تحديدا فمن السهل مهاجمتها واتهامها بكسر قواعد الذوق العام، تحت شعار “الشي هذا مش متاعنا”، أو “شوهتلنا صورتنا”، فهناك إصرار على ضمير المتكلم الجمع الذي يربط صورة الذات ومصيرها وسمعتها بالمجموعة.
نحن فعليا ينطبق علينا قول آلان دونو إن “التفاهة قد بسطت سلطانها على كافة أرجاء العالم. فالتافهون قد أمسكوا بمفاصل السلطة، ووضعوا أيديهم على مواقع القرار، وصار لهم القول الفصلُ والكلمة الأخيرة في كل ما يتعلق بالخاص والعام”.