الصعود الغريب للتفاهة

بين تمزيق تلاميذ المدراس للكتب في نهاية الموسم الدراسي، وبين صناعة وتشجيع التفاهة، رابط وثيق يقود إلى إرادة لإفراغ المجتمع من قيمه وثوابته.
الثلاثاء 2024/07/02
في غياب النخب الفكرية عن الساحة

عادة ما تبدأ القصة من رغبة في امتصاص الفراغ الممدود، وممارسة هواية الضحك القاتل، في زوايا عمرانية فقدت الحياة، وتنتهي بنجوم ذوي شهرة وأضواء، عبر ما أتاحته شبكات التواصل الاجتماعي من فرص الظهور أمام الرأي العام، ولا غرابة إذا حظي هؤلاء برعاية من يديرون الشأن العام في البلاد.

“شوشع”، “زكروط”، “فوندام”.. وغيرهم، هم بعض من أبطال يتنافسون على التفاهة في مختلف الربوع الجزائرية، بدعم من الرأي العام وحتى من مسؤولين رسميين، فباسم العطف الأبوي وتلبية رغبات طامحين إلى الشهرة والنجومية، جرى استقبال هؤلاء على السجاد الأحمر وفي مكاتب إدارية فخمة.

وبين وجوه عابرة في محطات مثيرة تسترعي عادة اهتمام الرأي العام ومدراء الشأن العام، لإضفاء حالة التضامن والتعاطف الشعبي والرسمي، وبين تشجيع التفاهة على الصعود، مسافة شاسعة تختزن فيها معايير مرتبكة يراد من خلالها إلهاء الناس بنماذج بشرية نفخت أكثر من أحجامها، وإشاعة التفاهة في المجتمع كي يبتعد عن قضاياه المصيرية.

أقيمت لأمثال “شوشع” و“زكروط”، الاحتفالات والتكريمات الشعبية والرسمية، في أجواء يطبعها الهزل المميت والتعبير عن المكبوتات الحقيقية بمظاهر البهلوانية والاستهتار أو الانتقام من الجد الممنوع بواسطة الازدراء المباح، عبر تلك النماذج البشرية.

أن ترحل وجوه النخبة الفكرية والثقافية والعلمية في صمت، أو أن يعاني هؤلاء مرارة الإقصاء والتهميش، في حين تسلط الأضواء على أمثال شوشع وزكروط، ويجري التهافت على تكريمهم، فتلك رسالة يراد رفعها بشكل مقلوب، وفحواها أن التفاهة طغت على كل شيء، وتسير بالمجتمع إلى الإفراغ من قيمه وثوابته.

يقولون إن اكتشاف وصناعة المسدس ساوى بين الجبان والشجاع، وسيقولون إن شبكات التواصل الاجتماعي ساوت بين الغث والسمين، بل رفعت التفاهة إلى عنان السماء، فليس غريبا أن تجد المعجبين بمحتوى فكري أو علمي أو أفكار بناءة أو حكم عميقة أو معلومات قيمة لا يتعدى عددهم عدد الأصابع الواحدة، بينما الآلاف يتزاحمون على صفحات المحتوى التافه.

صحيح أن شبكات التواصل الاجتماعي أتاحت ديمقراطية المعلومة والمحتوى لجميع الأشكال الآدمية، لكن أن تستأثر التفاهة باهتمام متزايد فذلك مؤشر يستدعي التوقف عنده بجد، فعلاوة على حاجة بعض منظري الأنظمة السياسية لها لإلهاء الناس وإبعادهم عن طرح قضاياهم المصيرية، هي رد فعل غير معلن من طرف الناس على استئثار السلط بكل شيء ومنع المجتمع من التعبير الجاد عن نفسه.

من مصر إلى الجزائر وبعض الأقطار العربية، كانت النكتة وسيلة الناس للتعبير عن أوضاعهم ومواقفهم وانتقادهم للنخب الحاكمة، وحظيت بخلية خاصة في حرب أكتوبر 1973، تضطلع بمهمة التنكيت على الجيش الإسرائيلي، حسب ما رواه لي ضابط جزائري كان عضوا فيها.

حينذاك كانت النكتة ذات دلالة ورسالة سياسية واجتماعية، لكن الآن لبست ثوب الفولكلور والبهلوانية، وأخذت منحى آخر وهو صناعة التفاهة ونحت أبطال لها، هم في الحقيقة يستأهلون كل العطف والرعاية الاجتماعية والنفسية، لكن أن يصبحوا نجوما في شبكات التواصل الاجتماعي وفي بعض الشاشات التلفزيونية، بينما يغمر الصمت والتجاهل وجوها أكاديمية وفكرية وفنية وأدبية، فذلك معيار يمكن أن يضاف إلى معايير خراب الأمم التي وضعها ابن خلدون.

وبين تمزيق تلاميذ المدراس للكتب والكراريس في نهاية الموسم الدراسي، وبين صناعة وتشجيع التفاهة، رابط وثيق يقود إلى إرادة لإفراغ المجتمع من قيمه وثوابته، وتجهيله ووضع الجهلة في مقدمته.

18