قطار الجزائر - تونس.. حظوظ النجاح واحتمالات الفشل

تنتظر عودة قطار الجزائر – تونس إلى التشغيل بعد أيام قليلة، ويعود معه طيف تجربة سابقة بين البلدين، وقبلها تجربة مماثلة كان يقطع خلالها مسار تونس – المغرب مرورا بالجزائر، وفي كل مرة يعوّل على القطار ليؤدي مهام هي من اختصاص قطاعات أخرى، ويبقى وسيلة من وسائل التكامل وليس هو التكامل تماما.
ما حققه النقل بالسكة الحديد للأفراد والبضائع في دول الاتحاد الأوروبي، هو نتيجة طبيعية لما قطعته المجموعة من أشواط في التكامل الشامل في خدمة شعوبها، ولذلك جاءت المهمة متكاملة وتوازنت فيها العائدات الاقتصادية مع الأبعاد السياسية والإستراتجية، عكس مشروعات مماثلة سواء بين الجزائر وتونس، أو تجارب في بعض الدول العربية.
وكان في كل مرة يتحقق التقارب بين بلدين عربيين أو أكثر يتجه الاهتمام إلى مشروع ربط بالسكة الحديد للظهور أمام الرأي العام في ثوب العمل الميداني، لكن سرعان ما يعود التنافر وتتبخر مشاريع خطوط السكة الحديد، والذاكرة العربية حبلى بعدة تجارب في هذا المجال.
وتبقى التجربة الجزائرية – التونسية على صعيد العلاقات الثنائية تجربة جديرة بالاهتمام، فهي في ذروة الفتور والخلافات لم تنزل إلى مستوى الأزمة، كما يحدث منذ سنوات بين الجزائر والمغرب، ورغم ذلك لم تصمد عدة مشاريع ثنائية أمام مقتضيات العصر مقابل جمود الإرادة السياسية.
◄ السكة الحديد أدت وظيفة اكتشاف وتشييد الولايات المتحدة، ولا زالت قادرة على أداء نفس الوظيفة سواء بين الجزائر وتونس، أو بين دول المنطقة عموما، متى توفر عامل الاكتشاف والتشييد معا
بين البلدين مشروعات عديدة تعود إلى ثمانينات القرن الماضي، وضعتها قيادتا البلدين لتأكيد التعاون وتعزيزه، كمشروع الإسمنت الأبيض وصناعة الأعمدة الكهربائية، ثم خط السكة الحديد، إلا أنها صارت جزءا من الأطلال، ويأمل الطرفان تكرار التجربة مرة أخرى، لكن السؤال المطروح هل انتفت أسباب فشل التجربة الماضية في التجربة الجديدة، وهل توازنت أطراف المعادلة الاقتصادية والسياسية من أجل ضمان ديمومة المشروع؟
الحركية التي تسود حدود البلدين هي أنشط حركية برية في المنطقة برمّتها بسبب استقرار علاقتيهما، عكس العلاقات الثنائية الأخرى، ومع ذلك لم تنل حظها من الاهتمام والترقية اللازمة، فمرونة حركة النقل البري لا تعكس الإمكانيات والمرافق التحتية الضرورية.
فالطريق البري الرابط بين البلدين قبل أن يصل إلى الطريق السريع عند المعبر الحدودي “العيون”، لا يمكن أن يحتمل ضغط مركبات البضائع. ونقل الأفراد لا زال يعتمد على المركبات الخاصة ولا وجود للنقل العمومي الرابط بين البلدين إلى حد الآن، وحتى عودة القطار الذي يضمن رحلة يومية في الاتجاهين تتراوح بين ست وثماني ساعات، لا يجعله محفزا للمسافرين.
قد يكون المتحمسون لإعادة القطار إلى السكة، قد تشجعوا بتنامي تنقل الأفراد بين البلدين في السنوات الأخيرة، فبعدما كان الأمر يقتصر على الجزائريين الذين يفضلون الوجهة التونسية لأغراض مختلفة، ووصل عدد الزوار إلى حدود الثلاثة ملايين، ارتفع عدد التونسيين الذين يزورون الجزائر إلى نحو مليون ونصف مليون خلال العام الماضي، ليكونوا بذلك في صدارة الجنسيات التي تتردد على زيارة الجزائر.
هذا المعطى يشجّع على اتخاذ مثل هذه الخطوات، لكن ذلك لا يجب أن يغفل الجوانب الأخرى التي تدخل في صلب الديمومة بدل الاستعراض السياسي أمام الرأي العام، وأولها أن القطار الذي يعود إلى محور عنابة الجزائرية والعاصمة التونسية، سيسير على نفس السكة التي أنجزت منذ عقود والتي سار عليها القطار الذي توقف في تسعينات القرن الماضي.
وعودة القطار لا بد أن تراعي شروط الجدوى والمردودية، والتي تبدأ من تطبيق أسعار تنافسية وضمان الرحلة في توقيت مناسب وتوفير الخدمات، ليكون قطارا يجمع بين وظيفة النقل والمتعة والراحة، كما هو الشأن في القطارات الأوروبية.
◄ في كل مرة كان يتحقق التقارب بين بلدين عربيين أو أكثر يتجه الاهتمام إلى مشروع ربط بالسكة الحديد للظهور أمام الرأي العام في ثوب العمل الميداني، لكن سرعان ما يعود التنافر وتتبخر المشاريع
قطار الجزائر – تونس، هو جزء من حلم راود وناضلت لأجله نخب مغاربية في خمسينات القرن الماضي، وكان الأمل في الوصول إلى اكتفاء مواطني المنطقة ببطاقات التعريف الوطنية للسفر داخل دولهم، قبل أن يتبخر ذلك الحلم وتسير المنطقة إلى نفق الأزمات والخلافات.
ولأن المهنية تقتضي النظر إلى النصف الفارغ كما هو النصف المملوء من الكأس، فإن الخطوة الجديدة بين البلدين مرشحة لإعطاء دفع جديد للعلاقات الثنائية، شريطة أن ترافقها مقاربة شاملة لقطاع الاقتصاد والتنمية والتبادل التجاري بين البلدين، لتفعيل وتسهيل حركة البضائع والأفراد بمختلف الوسائل البرية والجوية والبحرية، بدل الوقوع في دوامة وفرة الناقل وندرة المنقول.
أدت السكة الحديد وظيفة اكتشاف وتشييد الولايات المتحدة، ولا زالت قادرة على أداء نفس الوظيفة سواء بين الجزائر وتونس، أو بين دول المنطقة عموما، متى توفر عامل الاكتشاف والتشييد معا، فلا يمكن إقامة أيّ خط للنقل في البر أو البحر أو الجو، ما لم تتوفر الجدوى الاقتصادية، لأن العائد والمردودية هما اللذان يكفلان الديمومة والاستمرار.
لقد سطّر البلدان في الأشهر الماضية مشروعات تعاون طموحة، بإمكانها تغيير وجه التنمية والخدمات خاصة في المناطق الحدودية، لكن تبقى حلقة المرافق والبنى التحتية كالطرق السيارة والسكة الحديد العصرية وتنظيم النقل البري، مهمة في مسلسل التكامل قبل الذهاب لنصب مشروع تتساوى فيه حظوظ النجاح مع احتمالات الفشل.
وحتى بين المواطنين البسطاء في البلدين المهتمين بتبادل الزيارات، تتباين الآراء والمواقف من المشروع، بين مرحب يأمل في رؤية تجربة جديدة تقدم خدمة تنافسية وتكسر احتكار “مركبات النقل الخاص”، وبين متحفظ أو غير متحمس، لأنه كان شاهدا على تجربة سابقة لم يكتب لها النجاح.