"شَعري المجعد".. تسريحة الشعر أداة لسرد جيوسياسي

قد نكتشف الكثير من خفايا التاريخ والعنصرية وتهافت أفكار الانتماء من خلال عناصر في الجسد كلون البشرة المختلف الأسود أو الأسمر أو شكل الأعين الدقيقة أو الشعر المجعد، وغيرها، فمهما حاول المهاجرون الانتماء على تعاقب أجيالهم تبقى أجسادهم وسيلة ممارسة العنصرية عليهم.
تتأمل الروائية الأنغولية جاميليا بيريرا دي ألميدا في روايتها “شَعري المجعد” تجربتها الإنسانية، وعلاقتها بعائلتها والاستعمار والعنصرية والهجرة والهوية والذاكرة، وتطرح سؤال الهوية وما يخلفه الاستعمار في ذاكرة الأجيال المهاجرة. وذلك من خلال قصة “شَعر” بطلتها “ميلا” المجعد الجامح وغير القابل للترويض.
تنسج جاميليا روايتها حتى لتبدو أحيانا وكأنها مقالة أكثر منها رواية، حيث تتنقل بين تفاعلات قصيرة مع شَعر ميلا والعالم الخارجي وذكريات أفراد العائلة، والقصص التي تتناقلها الأجيال، والقصص التي عاشتها بنفسها. ولدت ميلا في أنغولا لأم أنغولية سوداء وأب برتغالي أبيض، وتصل إلى لشبونة في الثالثة من عمرها، وتكبر وهي تحوم بين العالمين اللذين تعيش فيهما، ولا تشعر أبدا بأنها تنتمي إلى أحدهما.
حقيقة الهوية
تفتتح جاميليا روايتها، التي ترجمتها فاطمة محمد وصدرت عن دار العربي، بما يشبه الرسالة إلى “أومبرتو”.. تقول فيها “يشبه شعورنا بالامتنان لوجود الوطن الامتنان لأن لدينا ذراع. فكيف نكتب إذا فقدنا ذراعنا؟ إن الكتابة بقلم رصاص عالق بين أسناننا هي إحدى وسائلنا للهروب منها. يؤكد شهود عيان أنني أكثر البرتغاليين تأصلا في عائلتي. دائمًا ما رحبوا بي كما رحب البرازيليون بالكاتب ليفي شتراوس في كتابه ‘يا إلهي، لقد جاء الفرنسي! أنا طولي! أنا طولي الفرنسي!’ في قرية في البرازيل”.
وتتابع “لسوء الحظ، إن العائلة الوحيدة التي نريد ودها هي تلك التي لا تود التواصل معنا، وأجذم أنها أيضا انعكاس للعالم الذي نعيش فيه، الذي نفني فيه حياتنا محاولين تفسير العالم الجديد ونقله إلى لغتنا. أقول لليفي شتراوس: هذه عمتي، وهي من أشد المعجبين بك، ثم يجيب دائما: يا إلهي! الفرنسي! أنا طولي الفرنسي..، إلخ. الكتابة بقلم رصاص عالق في أسناننا هي بمثابة الكتابة إلى قروي أمام أول كتاب.. لغة فرنسية. إن البحث عن إجابة سؤال ‘من يهتم بما نكتبه؟’ من شأنه أن يربت على قلوبنا قليلا، ويدفعنا إلى تصور أن ما نقوله، رغم كل شيء، مهم. ومع ذلك، فإن التسويف فيما نريد قوله هو أحد أشكال العمى. فالكتابة لا علاقة لها بالخيال، بل تبدو وكأنها وسيلة لإقناع أنفسنا بأننا لا نستحق تلقي أي رد. إن حياتنا تجتاحها تلك العائلة الصامتة – الذاكرة – تماما كما كانت ‘تاتشر’ تخشى أن يجتاح المهاجرون الثقافة الإنجليزية”.
هذه الافتتاحية تلقي بظلالها على ما تحمله الرسائل شبه الذاتية للروائية التي تحاول أن توصلها عبر شَعر بطلتها الصغيرة المجعد الذي لا يقهر ميلا، فمن خلال هذا الشَّعر ميلا تتشابك جاميليا مع ذكريات طفولتها ومراهقتها، وتقاليد الأسرة الممتدة على مدى أربعة أجيال، وتقدم سردا متعدد الطبقات، ورؤية تعمق من فهمنا لحقيقة الهوية والعنصرية، والنسوية، والميراث المزدوج للاستعمار، الذي لم يبتعد وجهه القبيح بعد عن العالم. وهو الأمر الذي يلقي بظلاله على يومنا هذا حيث تتصاعد التوترات الداخلية والخارجية بين الهويتين الأوروبية والأفريقية.
تستخدم جاميليا تسريحات شَعر ميلا المتغيرة باستمرار كأداة سردية، حيث تلتقط ذكريات ميلا لمحاولة فك تشابك كيف يمكن لها ـ وهي امرأة برتغالية من أصل أفريقي مختلطة العرق ـ أن تعيش في عالم لا يبدو أنها تتناسب معه أبدا: أفريقية جدا بحيث لا تكون برتغالية، برتغالية جدا بحيث لا تكون أفريقية. وعلى الرغم من أن الكثير من سردها يبدو كأنه تيار غنائي للوعي، إلا أن استخدامها لشَعر ميلا كاستعارة، كان بديلا مثاليا ومدهشا لجميع أسئلتها حول الهوية. بدءا من حصول ميلا على أول كريم تنعيم كيميائي لشَعرها في سن السادسة الذي كان يتركه أكثر ليونة، إلى احتضان وصلات شَعرها الطويلة المضفرة عندما كانت مراهقة، وانتهاء ببحث ميلا عن تسريحة شَعر توفر لها الراحة مع الشعور بالانتماء.
مع تطور ميلا (من طفلة إلى زوجة)، يتطور سعيها للعثور على شخص يعلمها كيفية تصفيف شَعرها، من الداخل والخارج. تقول “إن الطريقة التي تعامل بها الآخرون في المنزل مع شَعري كانت دائما رمزا للخلط بين المودة والتحيز، وكان هذا دائما عذرا لأوجه قصوري في العناية بالشَّعر”. إن الارتباك الذي تشعر به لا يتعلق بالشَّعر على الإطلاق، ولكن يتعلق بكيفية المطالبة بهوية تقع في مكان ما بين الأفريقية والأوروبية.
تقول جاميليا “هناك تجاور دائم بين قصة ميلا وقصتي. هذا يخلق تأثيرا مثيرا للاهتمام، حتى بالنسبة إلي. يجعلني أنظر إلى ما كتبته وأفكر ‘هذا ليس أنا حقا، أنا لا أبدو مثل هذا الشخص’. وعلى الرغم من أن الرواية نشأت من قلقي، إلا أنني بعد الكتابة أدركت أن مخاوفي لا علاقة لها بالشخصية. لقد ولدت من مجموعة معقدة من العواطف والحدوس لقصص مماثلة أو مختلفة عن قصتي التي عايشتها في السنوات الأخيرة مع أشخاص آخرين، قريبين وبعيدين، غير معروفين أم ومعروفين”.
وتوضح “لطالما كانت لدي علاقة معقدة مع الشعر. لم أكن أعرف كيف أعامله، أو كيف أتعامل مع ما هو طبيعي بالنسبة لي. الحقيقة هي أنني استأت من شعري، كان الأمر كما لو أنه غير موجود، وعندما تذكرته فعلت كل ما بوسعي لنسيانه. يبدو لي هذا النسيان اليوم ظرفا مشؤوما. لقد كانت تجربتي في تصفيف الشعر مثيرة. لقد عوملت كثيرا بقسوة من قبل مصففي الشعر البرتغاليين والأفارقة. لم أتحدث كثيرا عن ذلك خوفا من أن يعبثوا معي. لطالما كانت الصالونات أماكن قاسية للتدقيق الشديد”.
وتقول جاميليا “انطلاقا من ذلك بدأت بتخيل كتابة هذه الرواية بألبوم صور عائلي: صور ربما تم التقاطها أو لم يتم التقاطها، والتي قد تكون موجودة أو غير موجودة. رافقت هذه الفكرة الحدس القائل بأن كل طفولة بطريقة ما هي ألبوم صور، فمبدأ تنظيم الألبوم وقواعد استخدامه يحدد تصورنا للماضي، وجميع الفجوات، والهفوات، والصمت، والمفاجآت. وبعد ذلك، شيئا فشيئا، بينما كنت أكتب، تبين أن الشعر خيط مشترك جيد، استعارة وشخصية”.
وتكشف “وصفت في الرواية العائلة التي أدين لها بشَعري المجعد وبرحلتها بين البرتغال وأنغولا بالسفن والطائرات على مدى أربعة أجيال بلامبالاة، لقد اعتاد أسلافي السفر. تقول الأسطورة إنني نزلت من الطائرة في البرتغال عندما كنت في الثالثة من عمري متشبثة بعلبة بسكويت ماريا، وكان شَعري في حالة تمرد بشكل خاص. جئت مرتدية قميصا قصيرا من الصوف الأصفر لا يزال من الممكن رؤيته حتى اليوم في صورة جواز سفر قديمة تميزت بابتسامتي العريضة، وهي نتاج سوء فهم موفق لأهمية التقاط الصور. أنا أضحك من الفرح، أو ربما بدافع كوميدي من أحد أفراد عائلتي البالغين، الذين رأيتهم مجددًا بلحى مسمرة ورياضية في صور مولودي الجديد وأنا متناثرة فوق ملاءات الأسرة”.
حكاية الشعر

تبين جاميليا أن جنون أسلافها أثر في قصة شعرها مثل أي شيء آخر، إنها حالة يمكن أن يكون فيها الشَّعر هروبًا نبيلاً، وانتصارًا للجماليات على الحياة، كما لو كان الشَّعر إما مسألة حياة أو جماليات، ولكن ليس كليهما معًا. وفي الوقت نفسه، يرتفع أسلافي المتوفين من حولي. وبينما أتحدث، يعودون كنسخ مختلفة عن أنفسهم عن الطريقة التي أتذكرهم بها. هذه ليست قصة حالتهم الذهنية، التي لن أجرؤ على سردها أبدًا، بل قصة اللقاء بين هويتين.
وتوضح “قصَّت أمي شَعري للمرة الأولى عندما كان عمري ستة أشهر.. ذلك الشَّعر كان أملس، وفقًا لبعض الشهود العيان في ذلك الوقت وقلَّة من الصور، ثم يحيا مجددًا ليصبح مجعدًا وجافًّا. لا أعلم إذا كانت هذه القصة تلخِّص حياتي التي ما زالت قصيرة فعلًا، الحقيقة التي سيثبت عكسها فيما بعد”.
وتضيف “لا تزال خصلات شَعر ملساء تنمو في مؤخرة عنقي كشَعر الأطفال بشكل غير مبرر، وأتعامل معها كقطعة أثرية. بدأتْ حكاية شَعري مع تسريحة الشَّعر تلك. فكيف بوسعي كتابتها دون اللجوء إلى الأسلوب العبثي؟ لا يُتهم أحد أَلَّف حكاية عن ذراع ما بالعبثية مثلًا. ومع ذلك، لا يمكن سرد الحكاية بكل تحركاتها الميكانيكية الشاردة والمفقودة في غياهب النسيان. ربما يكون ذلك الوصف أوقع عند سرد قصص المحاربين القدامى ومبتوري الأطراف، الذين يتراءى لهم الألم الذي لا يزالون يشعرون به، والهتافات، والركض في الرمال. أعتقد أنه لن يجدي تأليف القصص الخيالية عن آخر خصلات الشَّعر الناعمة في أسفل عنقي التي نجت وغزت رأسي”.
وتكشف جاميليا “الحقيقة هي أنه في حكاية شَعري المجعد، تتقاطع قصة دولتين على الأقل، بصورة بانورامية، وقصة غير مباشرة لعدة قارات، وتعد واحدة من القصص الجيوسياسية. ربما ترجع حكاية شَعري إلى عدة عقود في مدينة لواندا إلى الفتاة ‘كونستانسا’، شقراء جذابة (ربما تعمل على الآلة الكاتبة؟)، حُب الشباب السري لجدي الزنجي كاسترو بينتو، الذي لم يصل حينها إلى رتبة كبير الممرضين في مستشفى ماريا بيا بعد. أم عليَّ أن أبدأ من الليلة التي فاجأته بها برؤية ضفائري الرائعة، بعد جلسة تصفيف الشَّعر دامت لمدة تسع ساعات أمضيتها جالسة القرفصاء على الأرض؟.
في حكاية شَعري المجعد تتقاطع قصة دولتين على الأقل، بصورة بانورامية وقصة غير مباشرة لعدة قارات
وقد كان رأسي بين الأرجل الساخنة لفتاتين فظتين لهما طريقتهما الخاصة اللتين توقفتا في أثناء تصفيف شَعري لطهو بقايا ‘الفيجوادا’ وحلوى الأرز باللبن المتبقية من الغداء لتحويلهما إلى حساء الفاصولياء، كنت أشعر بالحرارة في ظهري (ورائحة غامضة) تنبع من بين رجليهما. قال جدي حينها: ‘يا له من منظر!’.
في الواقع، ربما ترجع أصول حكاية شَعري إلى تلك الفتاة ‘كونستانسا’، التي لا تربطني بها أي صلة قرابة، ومع ذلك، ظل جدي يبحث عنها في ضفائري الطويلة وفي الفتيات اللاتي يستقللن الحافلة التي – بعد أن بلغ الشيخوخة وصار يعيش في ضواحي لشبونة – كانت تقله في كل صباح إلى عمله لدى ‘سيموف’، حيث يحني ظهره، ويكنس الأرض إلى يوم موته. لكنْ كيف أحكي هذه الحكاية بعقلانية وحكمة دائمًا ما نُنصح باتباعها؟”.
وتبيّن “ربما أُلِّفَتْ بعض الكتب عن الشَّعر من قبل، ولكانت ستُحل تلك المعضلة، لكنها بالتأكيد ليست كحكاية ‘شَعري’ الذي أتذكره بألم شديد مع فتاتين شقراوين مزيفتين أعرتهما خصلات شعري ذات مرة من أجل ‘تمشيط’ بات مستحيلًا، ولم تكونا أقل فظاظة من الفتاتين الأوليين اللتين سمعتهما تقولان بصوت عال ذات مرة إن ‘شَعري متشابك كأنه ممتلئ بالأشواك’، وأخذتا تمزقانه من أعلى إلى أسفل، وكأنهما تخوضان حربا بأذرعهما ذات العضلات الذكورية الممتلئة تحت معاطفهما”.
وتضيف “أمضيتُ ذلك الوقت ويكمن بداخلي شعورٌ دفينٌ بالانتقام لذلك التعذيب. في الغالب كل ما تبقى من ذكريات الفتاة التي بداخلي وما تبقى لي من أفريقيا وتاريخ أجدادي هو المتاجر التي احتلتها صالونات الشَّعر. ومع ذلك، مررتُ مجددًا بكل أسف بتلك التجارب الخاصة بفرش تصفيف الشَّعر وإصلاحه عند عودتي إلى الوطن من ‘غرفة التجميل’، كما سمَّتها أمي، وبكثير من محاولات العمل لمصففي الشَّعر أولئك دون أن آخذ ما فعلوه على محمل شخصي، ولم أستطع مواجهة عدم كفاءتهم التي لا تُغتَفر”.
وترى جاميليا “كل ما يمكنني أن أحكيه هو كتالوج صالونات التجميل، وما يحويه من تاريخ التطور العرقي في البرتغال، من النساء العائدات من الخارج في عمر الخمسين إلى القائمات على تجميل الأظفار من مولدوفا المغلوبات على أمرهنَّ اللاتي يعملن على مضض على الطريقة البرازيلية، مرورًا بعدة تجارب لكبح الطفرة الهرمونية الطبيعية التي من شأنها أن تجعل الفتاة ‘تقليدية’ على حد قول هؤلاء النساء. إن عملية – ربما – نقل الوعي الأنثوي إلى المساحة العامة التي أتشاركها مع أشخاص آخرين ليست قصة خيالية عن اختلاط الأعراق، بل قصة تصحح بعض المفاهيم”.