لوحة جورج سورا التي أسست لتقنية جديدة في فن الرسم

يعد الفنان الفرنسي جورج سورا اسما فارقا في حركة التشكيل العالمي، حيث لا تزال لوحاته شاهدة على براعته وموهبته، وتصنف على أنها من أبرز الأعمال التي تركت بصمة فارقة بعد المدرسة الانطباعية في القرن 19.
بعد مرور حوالي عشر سنوات على ولادة الحركة الانطباعية في باريس على يد كلود مونيه وأصدقائه وتحديدا في العام 1884، بدأ الرسام الفرنسي جورج سورا العمل على لوحته “بعد ظهر يوم أحد في لاغراند جات” اللوحة التي ستصنع لاحقا عندما عرضت ثورة في فن الرسم حيث بقي يعمل عليها لحوالي عامين قام خلالهما بإعداد أكثر من سبعين رسما أوليا لها ليعرضها في العام 1886 في معرض الفنانين الانطباعيين في باريس.
بعد هذا العرض أعلن عن ولادة تيار الانطباعية الجديدة أو ما بعد الانطباعية على يد سورا المتأثر بفناني الحركة الانطباعية والمتمرد عليهم في نفس الوقت حيث ابتكر لنفسه أسلوبا جديدا في الرسم وهو الرسم بالتنقيط، حيث يضع مئات النقاط الصغيرة من ألوان مختلفة من الطلاء تقوم عين المشاهد بدمجها أثناء الرؤية وتكون اللون المطلوب.
في هذه الحالة، حلت العين البشرية كأداة بديلة عن الفرشاة لدمج الألوان في اللوحة المرسومة، فكانت هذه التقنية بمثابة ثورة علمية حينها في فن الرسم حسب توصيف الناقد الفني فيليكس فينون والذي أطلق على هذا الفن الجديد اسم “الفن التنقيطي” الفن الذي أغرى بعض فناني الحركة الانطباعية باللجوء إليه حين شاهدوا اللوحة وكان أبرزهم كميل بيسارو.
وتصور لوحة “بعد ظهر يوم أحد في لاغراند جات”، التي تتميز بتكويناتها البديعة وألوانها الدافئة، مجموعة من الناس يستجمون عند البحيرة في وقت الظهيرة حيث ضوء الشمس يغطيهم، ويعكس ظلال فساتين النساء اللواتي يملأن اللوحة على العشب بلون أزرق عكس ما كان متعارفا عليه سابقا باستخدام اللون الأسود لرسم الظلال.
وتمثل هذه اللوحة المجتمع الأرستقراطي للمدينة حيث تظهر على اليمين امرأة من سيدات هذا المجتمع تجر قردا مربوطا بحبل، الشيء الذي كان شائعا في تلك الفترة عند الأثرياء (تربية القرود) وبجانبها رجل يضع قبعة يمكن أن يكون زوجها أو قريبها أو منسق أعمالها كما يرى جزء من النقاد حيث اعتبروها أنها ليست سيدة أرستقراطية كما يعتقد وإنما فتاة هوى هي والمرأة التي تصطاد السمك في اللوحة حيث كانت مهنة البغاء مزدهرة في باريس في ذلك الحين. لذلك تنوعت الآراء بشأن الناس الموجودين داخل اللوحة التي تتألف من ثمانية وأربعين شخصية معظمها من النساء وثلاثة كلاب وقرد وثمانية قوارب في البحيرة أحدهم يرفع العلم الفرنسي كدلالة على وطنية سورا وانتمائه.
يظهر ذلك الانتماء أيضا بوجود جنديين وسط اللوحة. إذا نحن أمام فسيفساء باريسية أكثر من كوننا أمام مجتمع أرستقراطي فقط كما يرى معظم النقاد مرجعين ذلك إلى أن هذه الجزيرة الصغيرة “لاغراند جات” على نهر السين كانت الوجهة المفضلة لأثرياء المدينة ومشاهيرها أيام العطل ومازالت كذلك حتى يومنا هذا.
ونلاحظ أن الشخصيات الموجودة في اللوحة أشبه بالتماثيل أو الدمى بلا معالم في وجوهها أكثر من شبهها للناس العاديين ويظهر ذلك جليا في لوحته التي سبقتها “السباحون في أسنيير” التي صدرت عام 1884، حيث يصور فيها عدة رجال وفتيان يسبحون في نهر السين في يوم صيفي مشمس.
ولد جورج سورا في مدينة باريس عام 1859 وعاش مع والدته وأخيه واهتم بالرسم منذ صغره. كان فتى انطوائيا. عاصر كومونة باريس (الثورة الفرنسية الرابعة) عام 1871.
في سن السادسة عشرة التحق بمدرسة الفنون الجميلة في باريس عام 1878 وراح يرسم الأشخاص بطريقة تقليدية واهتم بعلم الجمال وتأثر بعالمه ديفيد سوتر الذي جمع بين الرياضيات والموسيقى، وفي عام 1879 ذهب لأداء الخدمة العسكرية في مدينة برست وبقي عاما كاملا هناك ثم عاد بعدها إلى باريس وافتتح مرسمه الخاص فيها عام 1881 بمشاركة صديقه الرسام إدمون فرنسوا أمان جان.
عام 1883 أقام سورا أول معرض له وكان عبارة عن صور شخصية لأمه وصديقه جان. وعام 1884 رسم لوحته الشهيرة “السباحون في أسنيير” وأراد عرضها في المعرض الرسمي لمدرسة الفنون الجميلة لكن لجنة التحكيم رفضتها فلم تعرض إلا بعد عامين في معرض الانطباعيين مع لوحته “بعد ظهر يوم أحد في لاغراند جات” في معرض الانطباعيين غير الخاضع لقبول لجان التحكيم كي يعرض اللوحات.
وأسس جورج سورا بلوحاته المميزة لما سمي لاحقا بالانطباعية الجديدة ومن أشهر لوحاته “العارضات” عام 1888، “الضوضاء” عام 1890، والسيرك عام 1891، والتي كانت آخر لوحة يرسمها وعرضها في معرض الفنانين المستقلين وتوفي بعدها بفترة وجيزة بسبب إصابته بمرض الدفتيريا، وقد قال بعض النقاد إنه مات من كثرة ساعات العمل التي يجهد بها نفسه، وتبعه بعدها بفترة ابنه الطفل بيير جورج سورا بسبب عدوى انتقلت له سببت له المرض نفسه. ترك سورا إرثا فنيا عظيما يتكون من سبع لوحات كبيرة وأربعين لوحة صغيرة وابتكر أسلوبا فنيا خلد اسمه.