المصريون إخوة لا تفرقهم الديانة والعقائد

تبرع كنائس مصرية بصكوك الأضاحي رسالة تستفزّ المتشددين.
السبت 2024/06/15
الدين تسامح

المصريون إخوة تجمعهم المحبة وقرابة الدم لا تفرقهم الديانات والعقائد ولا حتى نعرات الفتنة التي يبثها المتشددون الذين يسعون لتهديم مجتمع متماسك منذ أول التاريخ، فهم يجتمعون في السراء والضراء، من ذلك أن كنائس وقساوسة يشاركون المسلمين في صكوك الأضاحي لتوزيع اللحوم على الفقراء من المسلمين والأقباط كواجب تكافلي وإنسانية لا علاقة لها بالعقيدة.

القاهرة - أعادت مشاركة كنائس وقساوسة للمسلمين في صكوك الأضاحي بمصر الحديث عن قيم التسامح بين الطرفين، بعيدا عن الانتماء العقائدي، بما يعكس وجود شريحة في المجتمع لا تكترث بخطاب المتشددين الذي يعتمد على بث الفرقة بين أصحاب الديانتين، والبحث عن تغذية الفتن الطائفية.

وأعلنت وزارة الأوقاف في مصر عن تبرع الكنيسة بمبلغ مالي كبير ضمن مشاركتها في صكوك الأضاحي، لتوزيع اللحوم على الفقراء من المسلمين والأقباط، بالتوازي مع إعلان قساوسة مشاركتهم في شراء الأضاحي، كمسؤولية تكافلية وإنسانية لا علاقة لها بالعقيدة.

وتزامنت المشاركة القبطية مع إعلان دار الإفتاء جواز اشتراك غير المسلم مع أخيه المسلم في الأضحية، وتوزيع اللحوم على الفقراء من أيّ ديانة سماوية، في محاولة ترمي إلى تسريع تقارب المسافات بين المصريين وتجاوز خطاب التشدد الذي يطغى على تصورات تيارات متطرفة.

وتوقفت بعض الأصوات المتشددة على شبكات التواصل الاجتماعي عند هذا التلاحم الإسلامي – المسيحي، وعقدت العزم على بث سمومها، وعملت على ضرب التقارب بين الطرفين عبر اختراع فتاوى تحرم الالتحام بينهما في الأضحية، بالاستناد إلى حجج واهية ونصوص فقهية لا مصدر لها.

واستبقت مؤسسة الفتوى خطاب المتشددين بتأكيدها أن إطعام غير المسلم من لحم الأضحية “أمر مشروع على وجه الاستحباب، لأنه من البرّ الذي أمر به الشرع ورغّب فيه ودعا إليه، وهو حق من حقوق الجار على جاره، والاستمرار على فعل ذلك والمداومة عليه يورث بينكم التآلف والصفاء وإرساء روابط التآخي، وبث روح التكاتف، وحسن العشرة والجيرة وتقوية الروابط الإنسانية وزيادة الألفة والمحبة”.

◙ العناصر المتشددة داخل المجتمع المصري لديها فهم خاطئ ونوايا مبيتة لأي تقارب بين المسلمين والأقباط المسيحيين

ودافعت دار الإفتاء بأن الشرع الإسلامي حثّ على كل عمل يوطد العلاقات بين الناس، وينشئ بينهم روح التعايش والتعاون والمؤازرة في وجوه الخير، والترغيب في التوادِّ والتهادي بينهم، من غير نظرٍ إلى دين أو جنس أو لون، وإهداء غير المسلم وبرّه وإطعامه أمر مشروع ثبتت مشروعيته بعموم نصوص الكتاب والسنة المشرفة.

ويعبّر موقف الإفتاء المصرية عن توجه المسلمين أيضا لمشاركة الأقباط في الأضاحي، ما يؤكد فشل المتطرفين في منع هؤلاء من تقريب المسافات مع المسيحيين، لدرجة بلغت حدّ التحريم المطلق لأن يحصل المسيحي (القبطي) على أيّ شيء من الأضحية، بشكل أظهر بوضوح حجم العداء الذي يكنه متطرفون للأقباط، ومحاولة عزلهم عن المجتمع بشتى السُبل.

وحاولت بعض الأصوات تسويق التقارب القبطي مع المسلمين بأنه يستهدف تحقيق مآرب سياسية بدعوى أن التبرع للأضاحي جاء من قادة الكنائس من دون اكتراث لوجود مشاركات فردية من أبناء الطائفة المسيحية والإسلامية، لأن الأضحية توزع على الفقراء، بقطع النظر عن عقيدتهم، وهو ما أثنت عليه مؤسسات دينية واعتبرته دليلا على روح التعايش بين المسلمين والأقباط.

ويمكن اختصار أزمة الفصيل المتشدد ضد مشاركة الأقباط في الأضاحي، أنهم يوهمون أنفسهم بأن المسيحيين يفعلون ذلك ضمن محاولات مستميتة لنشر التبشير في المجتمع، بطريقة تسوّق للمسيحية بشكل إنساني يدفع بعض المسلمين إلى الثناء عليها، ضمن محاولات متكررة للوقيعة بين أصحاب العقيدتين.

وتصدّر بعض الشيوخ التيار السلفي مشهد التحريض ضد موقف دار الإفتاء بإباحة مشاركة الأقباط في الأضاحي، وأفتى بعضهم بأن ذلك يُبطل الشعيرة ويجعلها غير مقبولة عند الله، لكن الكثير من المواطنين رأوا في ذلك تشويها لصورة الإسلام، فالله لم يحدد هوية من يتحصل على لحوم الأضحية من الفقراء.

ويداوم أحمد سيد، وهو رب أسرة من القاهرة، على منح جاره المسيحي جزءا من لحوم الأضحية، مبررا ذلك في حديثه مع “العرب” بأنه يسوّق لإنسانية الإسلام، ويزيد التقارب مع جاره، وهو أول من يأتي برفقة زوجته وأولاده في صبيحة كل عيد، لتهنئته، مستبعدا أن يكون تأثر بأيّ شيء يروّج له المتشددون، ولو حرّموا ذلك في أيّ مناسبة، لأنه مقتنع تماما بأن ما يفعله من أصول سماحة الإسلام.

وقال سيد، إن العناصر المتشددة داخل المجتمع لديها فهم خاطئ لأيّ تقارب بين المسلمين والأقباط، ولو على سبيل إلقاء التحية والسلام، ويعتقدون أن مصر وجدت لتكون إسلامية دون اكتراث أو فهم لطبيعتها كمجتمع، وأن التكافل بين المواطنين لا يمكن أن يرتبط بفتوى، بقدر ما يتعلق بثقافتهم وتركيبتهم الشخصية، والناس أكثر وعيا لمآرب المتطرفين، ولو كانوا أميين، لكنهم واعون لما يحدث.

ويصعب فصل حساسية بعض العناصر المتطرفة في مصر ضد أيّ حالة تقارب بين المسلمين والأقباط عن إصابتهم بانتكاسة نفسية، فخطابهم على مدار سنوات مضت لم يفلح في تخريب العلاقة بين الطرفين بالقول أو الفعل، باحتقان طائفي أو فتاوى متشددة ضد المسيحيين، أو التحريض ضد ما من شأنه أن يحمل تقاربا بين السلطة والأقباط، وترضيتهم وتعويضهم عن انتكاسات تعرضوا لها خلال فترة حكم الإخوان.

الأضحية تُقرّب المسافات بين المسلمين والمسيحيين وتبث روح التعايش والتعاون والمحبة وتحثّ على تجاوز خطاب التشدد
◙ الأضحية تُقرّب المسافات بين المسلمين والمسيحيين وتبث روح التعايش والتعاون والمحبة وتحثّ على تجاوز خطاب التشدد

وأكد عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية عبدالغني هندي لـ”العرب” أن كل تقارب إسلامي – مسيحي قائم على الأخوة الإنسانية ينسف جهود المتطرفين لسنوات مضت دأبوا خلالها على بث الفرقة والقطيعة بين أبناء العقيدتين، وما يحدث في صكوك الأضاحي يعبّر عن قدرة المجتمع المصري على التعايش.

وأوضح أن المصريين واعون بمآرب الخطاب المضلل، وهناك أجيال صاعدة تميل بشكل أكبر إلى الانفتاح يصعب استمالتهم أو تحريضهم، ويملكون إصرارا على فرض التسامح بالأمر الواقع، والميزة أن التآخي بين المسلمين والأقباط أكبر من اختزاله في النخبة والمواقف الموسمية.

ويظهر التحريض ضد التآخي الإسلامي – المسيحي في الأضاحي عبر استخدام خطاب يدغدغ مشاعر الشريحة الأكبر في المجتمع، من زاوية أن المسلمين أولى بالمعروف، في محاولة متعمدة لاختراع نصوص فقهية لا علاقة لها بالإسلام، لمنع حصول الأقباط على أيّ شيء من الأضاحي، ما يتناقض مع توجهات الكنائس وأبناء الديانة المسيحية، لأنهم عندما تبرعوا بالصكوك لم يطلبوا توزيعها على “الفقراء الأقباط”.

ويغيب عن بعض المصريين أن التحريض السلفي ضد إعلاء قيم التسامح والتآخي بين المسلمين والأقباط في شأن صكوك الأضحية جزء منه مرتبط بالثأر من وزارة الأوقاف نفسها، باعتبارها المشرفة على ملف الصكوك، لأنها من استحوذت على المساجد الشرعية التي كانت تابعة للسلفيين، ويقوم شيوخها بتوزيع اللحوم التي تصل إليها على الفقراء، حتى فقد التيار السلفي الكثير من مصادر قوته وحضوره المجتمعي.

وكان يتم توظيف صكوك الأضاحي التي تذهب إلى المساجد التابعة للسلفيين بشكل سياسي تحت غطاء إنساني من خلال استغلالها للنفاذ إلى البسطاء واللعب على وتر فقرهم بإظهار أنهم الأكثر إنفاقا ورعاية لهم من الحكومة، حيث يساهمون في إطعامهم، وهي ثغرة أغلقتها وزارة الأوقاف باقتصار شراء الصكوك على مؤسساتها المنتشرة في البلاد، وتوزيعها على الفقراء دون التحري وراء الخلفية العقائدية.

وتعارض بعض الأصوات إصرار المؤسسات الدينية على التعامل مع مشاركة أقباط في صكوك الأضاحي على أنه دليل قاطع على زوال الاحتقان الطائفي، أو توظيف ذلك بشكل سياسي، فالشريحة المجتمعية (مسلمة أو مسيحية) عندما فعلت ذلك تحركت من تلقاء نفسها بدافع إنساني بلا تأثر بفتاوى تبيح أو تمنع، ما يستدعي أن تبتعد المؤسسة الدينية عن هذا التصرف وتكف عن توظيفه وفق رؤيتها.

وما يبرهن على ذلك أن الكثير من المسلمين والأقباط أصبحوا أكثر قابلية للتعايش في سلام وتشارك غير مشروط بلا أهداف سياسية، عبر مبادرات ذاتية مدفوعة بنوايا طيبة، فإذا كان هناك مسلمون يوزعون لحوما على الأقباط في الأضاحي من تلقاء أنفسهم، توجد موائد رحمن خلال شهر رمضان يقيمها بعض الأقباط الأثرياء من دون توجيه مباشر من الكنيسة.

ومطلوب من المؤسسات الدينية، إذا أردت تكريس التسامح والتآخي بين المسلمين والمسيحيين، أن تترك الناس تتقارب بلا وصاية، فأي تدخل ديني في علاقات المواطنين ببعضهم بعضا قد يستفز عقول مريضة للتحريض ضد التعايش بين المصريين.

16