الإنسان كائن افتراضي

من يعتقد مع الفيلسوف اليوناني أرسطو أن الإنسان كائن اجتماعي، عليه أن يتلفت حوله ليتأكد من أن هذه المقولة التي آمن بها طويلا، مجرد خرافة.
الإنسان كائن انعزالي يفضل الوحدة، والدليل ما يحدث اليوم في لندن.
اللندنيون لم يكتفوا بالعمل عن بعد، بل هجروا حياة الليل أيضا. والمملكة التي كانت تحتضن ثلاثة آلاف ملهى ليلي لم يعد فيها أكثر من 850 ملهى اليوم. معظمها يعاني من قلة الزبائن ويفكر أصحابها بإغلاقها.
في الثمانينات رغم الوضع الاقتصادي الصعب ومحدودية الدخل، كانت العاصمة البريطانية مدينة ليلية بامتياز، لم تكن ساعات العمل الطويلة التي تبدأ من التاسعة صباحا وحتى الخامسة مساء، تضاف إليها ساعتان أو ثلاث ساعات يقضيها البريطانيون بالتنقل، تمنع البريطانيين وزوار العاصمة البريطانية من العيش حياة أخرى تبدأ بعد منتصف الليل.
محاولة تفسير تراجع الحياة الليلة بالوضع الاقتصادي الصعب، وارتفاع أسعار الإيجارات وصعوبة العثور على اليد العاملة بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وإن كانت في جانب منها صحيحة إلا أنها تتجاهل السبب الأهم: التكنولوجيا ووباء كورونا هما اللذان غيّرا معا طبائع الناس وعاداتهم.
التباعد الاجتماعي الذي تسببت به الجائحة ويسرته التكنولوجيا، لم ينته مع رفع الحجر، بل تحول إلى سلوك دائم عند البريطانيين، خاصة جيل الشباب.
خلال فترة التباعد الاجتماعي التي امتدت لأكثر من عام كنت بعيدا عن لندن وعند عودتي إليها بداية عام 2023 كانت صدمتي كبيرة من اللحظة التي وطأت فيها قدماي أرض المطار.
آثار الوباء لم تقتصر على الاقتصاد؛ الندوب التي خلفها الوباء ستبقى طويلا، وتتعمق، وهي ندوب اجتماعية.
اللعنة التي احتفى بها الجميع، هي العمل عن بعد. أصحاب العمل وجدوا في إغلاق المكاتب فرصة للتخلص من عبء الإيجار، والعاملون تخلصوا من عبء التنقل ووجبات الطعام الغالية.
لم يجد المتحمسون للعمل عن بعد صعوبة في العثور على من يدافع باستماتة عن النمط الجديد، ويخترع له فوائد من بينها خفض التأثير السلبي على البيئة.
وإذا أضفنا إلى العمل عن بعد الدراسة عن بعد، أيضا، تحولنا إلى كائنات تعيش في عالم افتراضي بحت. وهو ما حدث.
الاحتكاك اليومي المباشر بين البشر تقلص إلى الصفر تقريبا.
يعمل اليوم وفقا لمكتب الإحصاء الوطني في بريطانيا، خُمس البريطانيين من المنزل، وفي العاصمة لندن يعمل 40 في المئة من السكان بنظام عمل هجين يجمع بين المنزل والمكتب.
ويتسوق معظمهم عبر الإنترنت، حتى وجبات الطعام تصلهم ساخنة إلى المنزل. وإذا كان كبار السن في الماضي القريب قد وجدوا في التسوق من السوبرماركت فرصة للتحدث مع العاملين، فإن التكنولوجيا حرمتهم من هذه النعمة.
اليوم تختار مشترياتك وتتوجه إلى صندوق الدفع دون الاعتماد على بائعين، ما ينطبق على التسوق ينطبق أيضا على المعاملات المالية، بعد أن أقفلت البنوك معظم فروعها واكتفت بالمعاملات عبر الإنترنت.
وإذا كنت تظن أنك عندما تتحدث عبر الهاتف أن الصوت الذي تسمعه صوت بشر، أنت في الغالب مخطئ. هناك احتمال كبير أنك تتحدث إلى برنامج دردشة.
لو كان أرسطو يعيش اليوم بيننا لما تردد في تعديل مقولته لتصبح: الإنسان كائن افتراضي.