الأضحية الأفريقية تضاعف هموم الفقراء المصريين

تتسع دائرة الجدل في مصر قبل العيد حول الأضاحي التي اختار أصحابها أن يوجهوها للفقراء في دول أفريقيا بدل مصر فمنهم من يرى أن الأضحية حق الفقير المسلم أينما كان ومنهم من يرى أن الأولوية للمصريين، حتى تدخلت دار الإفتاء وحذرت احتيال بعض الجمعيات التي تدعي القيام بتوزيع الأضاحي في الخارج.
القاهرة - أظهر جدل في مصر حول انتشار دعوات للاتجاه إلى دول أفريقية لشراء الأضاحي بأسعار منخفضة تعدد أطراف المشكلة، فهناك فريق يرى ذلك مقدمة للضغط على المُربين وأصحاب مزارع الماشية لإرغامهم على خفض الأسعار، وفريق مضاد يختزل القضية في وجود شبهة دينية، لأن الأضحية الأفريقية لا توزع على فقراء مصر، وهم أولى بالمعروف.
استغلت مجموعة من المربين المتضررين الجدل للنيل من الأضحية الأفريقية، بزعم أنها مصابة بأمراض أو تذبح بطريقة مخالفة للشريعة الإسلامية، وسوف يتعرض أصحابها للاحتيال، لكن الإقبال على الأضحية خارج مصر عكس زيادة ملحوظة في مقاطعة الأضاحي المحلية لعقاب المربين والتجار.
من هؤلاء، المصري محمد سيف، الذي راجع ميزانيته لأضحية العيد هذا العام، ووجد أنها لن تكفي الدخول في شراكة مع الجيران والأصدقاء، مع الارتفاع الكبير في أسعار الأضاحي مقارنة بالسنة الماضية، ما دفعه للتفكير في الاستدانة لتنفيذ تلك الشعيرة دون مراعاة لقدراته المالية إلى أن توصل لما يعرف بـ”الأضحية الأفريقية”.
وبينما كان سيف يتصفح مواقع التواصل الاجتماعي لاحظ وجود إعلانات من جمعيات تحث المسلمين على توكيلها لشراء وذبح الأضحية بأقل تكلفة، على أن يكون ذلك داخل دولة أفريقية، حيث أسعار اللحوم منخفضة هناك بنسبة كبيرة، وكل إجراءات النحر وتوزيع اللحوم تتم بطرق شرعية متعارف عليها ومن خلال رجال دين.
دار الإفتاء تحذّر من انتشار جمعيات تروج لتوزيع الأضاحي في أفريقيا ووصول شكاوى عن عمليات نصب واحتيال
عندما راسل الجمعية على موقع “فيسبوك” وجد أن المبلغ الذي يمتلكه يكفي لشراء خروف كبير في دولة أفريقية، مع أنه في مصر لا يكفي للدخول في شراكة مع أحد لشراء أضحية، وهو ما دفعه لإرسال الأموال عبر حساب خاص بالجمعية، مع وعده بتنفيذ عملية النحر وتوثيقها بالصوت والصورة وإرسالها إليه للتأكد من عدم الاحتيال.
لم ينف سيف في حديثه مع “العرب”،أنه لا يعرف شيئا عن الجمعية الخيرية، وليس لديه ما يُثبت أنه لم يتعرض لخديعة أو عملية احتيال، لكنه في النهاية “وضع الأموال في يد الله” (حسب قوله) ويجب أن يُحاسبه الله على نواياه، معقبا “كثيرا ما نتصدق على أشخاص لا نعرفهم، وليس دورنا التحري لنتأكد من صدق نواياهم”.
تحركت دار الإفتاء المصرية بعد انتشار ظاهرة الاحتيال باسم الأضحية الأفريقية لتحذير المواطنين من الوقوع في الفخ أمام الدعوات المنتشرة على شبكات التواصل التي دعت الناس إلى شراء أضاحي عيد الأضحى من دول أفريقية بأسعار زهيدة، إذ رصدت جمعيات مجهولة، ما يوقع الكثير من الناس في الفخ.
وأكدت دار الإفتاء أن انتشار مثل هذه الجمعيات المجهولة يمثل ظاهرة خطيرة في ظل غياب الرقابة عليها، وتصبح مثار شبهات مع وصول شكاوى للدار عن عمليات نصب تمت تحت اسم ذبح الأضاحي، وتم إثباته عبر من تعرضوا للاحتيال.
قالت دار الإفتاء إن هذه الجمعيات قد يشوبها عدم الالتزام بالمعايير الشرعية التي يجب توافرها في الأضحية وعملية الذبح أو التوزيع غير العادل، ما لا يتم معه تحقيق الكفاية للفقراء والمساكين والمحتاجين، فضلا عن نقص عمليات الرصد والتقييم لمعرفة الاحتياجات الحقيقية للمناطق المستفيدة، بالتالي توجيه المساعدات للأماكن غير الصحيحة.
اقرأ أيضاً:
وأهابت مؤسسة الفتوى بالمصريين عدم الانسياق وراء دعوات الجمعيات المجهولة التي تجد فرصة لنهب أموال من يرغبون في الأضحية وفعل الخيرات، وهناك فقراء ومحتاجون في مصر، ما يجعلها فرصة عظيمة للتكافل الاجتماعي بين أبناء الوطن.
لم يبال سيف بتلك التحذيرات وتمسك بكونه أخرج المال إلى الجمعية الخيرية بنية الأضحية، بقطع النظر عن المخاوف التي تسوق لها دار الإفتاء، والإيحاء بأن الأموال قد تتسرب لجهات مشبوهة، أو تُستخدم في غير محلها، مشيرا إلى أنه استوثق من صحة موقف الجمعية من خلال كثرة التعليقات التي تنشر على “فيسبوك”، ما يعني أنه يوجد فعلا من يتعاملون معها منذ سنوات.
من جانبه، بدا أشرف سعيد، وهو رب أسرة مصري، غير مكترث بتحذيرات مؤسسة الفتوى، معقبا، “كان الأولى بها أن تحرم الغلاء الفاحش من جانب المربين وتجار المواشي الذين رفعوا أسعار الأضاحي كثيرا، ما جعل الأغلبية غير قادرة على الوفاء بتلك الشعيرة”.
وقال لـ”العرب”، “اقتنعت بفكرة الأضحية الأفريقية من بعض المعارف الذين يتعاملون مع جمعيات تنحر في هذه القارة منذ سنوات، وعندما أجد أن سعر البقرة الواحدة يوازي رُبع ما كنت سأدفعه في أضحية صغيرة أكون مجنونا إذا لم أذهب إلى أفريقيا، وأتجاهل تحذيرات النصب والاحتيال، فما يعنيني الحصول على فيديو يوثق لحظة النحر أول أيام العيد، أما التوزيع فهناك ملايين الفقراء من المسلمين في العالم”.
ما أثار شكوك سعيد أن رموز المؤسسة الدينية في مصر أحلوا سابقا شرعية الأضحية في دول أفريقية وغيرها، لكنهم اليوم يحاولون إقناع المصريين بأن الفقراء في بلدهم أولى.
وتستثمر العشرات من الجمعيات الأهلية المنتشرة على شبكة الإنترنت في مصر فرصة غلاء أسعار الأضاحي مع غياب الرقابة عليها لاستقطاب عدد كبير من الناس.
يبدو الشيء الوحيد المشترك بين الجمعيات أنها تقوم بتصوير عملية شراء الأضاحي داخل الدولة الأفريقية، وتكتب عليها اسم المتبرع بالصك وبياناته، وتوثق عملية الذبح وترسل الفيديو إلى الشخص لتؤكد إليه أنها أصابت السنة النبوية، وغالبا لا يطلب صاحب الصك لحوما من أضحيته كي لا يتكلف أموالا أخرى نظير عمليات الشحن والتوصيل ويطالب بتوزيع لحومها كاملة على الفقراء هناك.
ولدى سعيد قناعة بأن فقراء الدول الأفريقية مثل نظرائهم في مصر، وربما يكون بينهم من هو أكثر حاجة، فالجمعية التي قام بمراستلها أقنعته بأن كينيا التي ستكون مقرا لشراء أضحيته بها مواطنون لا يجدون قوت يومهم، عكس مصر التي تنتشر فيها أعمال البر، وما يهمه أن يحصل على الثواب بعيدا عن مكان توزيع اللحوم.
قال نادر نورالدين أستاذ الاقتصاد الزراعي ومساعد وزير التموين المصري السابق إن زيادة اللجوء إلى الأضاحي الأفريقية هي نتيجة الارتفاع الجنوني في أسعار اللحوم بمصر، مقارنة بعديد من دول القارة التي تربي الماشية على المراعي الطبيعية الشاسعة، ولا يجب لوم أي مواطن على ذلك، طالما هناك غياب للرقابة.
وأضاف لـ”العرب” أن وجود وقائع احتيال يتطلب إحكام القبضة على الجمعيات التي تروج لنفسها على شبكات التواصل والتأكد من صحة تعاملها مع الدول الأفريقية رسميا، فهذا الملف أصبح وسيلة لتحقيق أرباح خيالية، ومصر تستورد ماشية من الدول التي بلجأ مواطنوها لها لانخفاض السعر، وهذا ضاعف من الأضحية الأفريقية.
وتخاطب بعض الجمعيات الخيرية التي تدعي بيع الأضاحي في أفريقيا المصريين بطريقة تقوم على دغدغة مشاعرهم، وهي ظاهرة وجدت المؤسسة الدينية نفسها مضطرة للتدخل لتحجيمها، لأن التوسع في الأضاحي خارج البلاد قد تترتب عليه أبعاد اجتماعية مرتبطة باتساع منسوب الفقر، وحرمان البسطاء المصريين من اللحوم خلال مناسبة سنوية، مع أنهم طوال العام قد لا يتذوقون طمعها بسبب الغلاء.
يصل سعر الكيلو غرام الواحد من اللحوم في مصر إلى أربعمائة جنيه (نحو 10 دولارات)، ويزيد في بعض المناطق حسب الطبيعة الجغرافية والسكانية ما جعل الكثير من الفقراء محرومين من شرائها لأنها ليست من السلع المدعمة حكوميا، في حين لا يتجاوز السعر في بعض البلدان الأفريقية، مئة جنيه فقط (نحو 2,5 دولار)، وهو ما تلعب عليه جمعيات تروج لإعلاناتها على شبكات التواصل قبيل عيد الأضحى.
يرى مراقبون أن تراجع منسوب الثقة في المؤسسة الدينية بمصر، ضاعف من توظيف بعض الجمعيات الخيرية للتحيل في جني مكاسب مالية بطرق غير مشروعة من ملف الأضحية وبصور مختلفة، وسط غياب للرقابة الحكومية على أداء تلك الكيانات.
ويعتقد هؤلاء المراقبون أن إجادة التسويق لشعيرة الأضحية في أفريقيا بغطاء ديني يعبر بوضوح عن استمرار المزاج السلفي مسيطرا على شريحة معتبرة من المصريين، ويقود إلى أن بعض الجمعيات الخيرية التي تعمل بغطاء غير شرعي يقودها منتمون لتيارات إسلامية تعرف جيدا كيف تستقطب الشريحة المهووسة بالتدين الشكلي.
وتعتمد الجمعيات الخيرية المنتشرة على شبكات التواصل في مصر لجمع التبرعات والصكوك على أحد رجال الدين المشهورين إلكترونيا، أو من يجيد انتقاء نصوص دينية تنفي تهمة الشك والاحتيال، للترويج لنفسها بطريقة مبتكرة، ما يجعل البعض يتعرضون لخديعة كبرى، فجني الأموال باللعب على وتر التدين أسهل طرق الاحتيال.
ما يثير امتعاض البعض أن الحكومة نفسها لم تتحرك نحو رقابة الجمعيات التي تتاجر باسم الأضحية الأفريقية والتأكد من حصولها على تراخيص عمل أم تتاجر باسم الدين بشكل غير مشروع، واكتفت بتصدير المؤسسة الدينية للتحذير من الاحتيال، بلا اكتراث بتراجع مصداقية الخطاب الديني الرسمي وهيمنة المتاجرين بالدين.