"كراس العودة إلى أرض الوطن" وثيقة متفردة غير قابلة للاستبدال

كان الشعر في صدارة الخطاب الذي يناهض الاستعمار مطلع القرن العشرين، وقد قدم الشعراء على اختلاف انتماءاتهم قصائد وأعمالا شعرية كاملة وقفت شواهد ضد التوجهات الاستعمارية ومع حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، علاوة على تقديمها في حالات مثل حالة الشاعر الفرنسي- المارتينيكي إيمي سيزير خطابا ضد الاستعمار والعنصرية في الآن نفسه.
يعتبر الشاعر والمسرحي والسياسي إيمي سيزير أحد أبرز وجوه تيار “الزنجية” في الشعر الفرنكوفوني ورمزا للحركة المناهضة للاستعمار. يعد ديوانه أو قصيدته الطويلة “كراس العودة إلى أرض الوطن” تحفة شعرية ذات أهمية جمالية وفنية وثقافية هائلة، إذ شكلت بداية بحث سيزير عن الزنوجة، وأصبحت نشيدا للسود في جميع أنحاء العالم. من خلال تركيزه على التجاور غير المعتاد بين الأشياء والاستعارات، والتلاعب باللغة والإيقاع، حيث اعتبر أسلوبه “جنونا مفيدا” يمكنه “اقتحام المحظور” والوصول إلى الجوانب القوية والمهملة في الثقافة السوداء.
في عام 1934، أنشأ سيزير مع سينغور وعدد من الأصدقاء الأفارقة صحيفة “الطالب الأسود” فظهر للمرة الأولى مصطلح الزنجية (L’Étudiant noir) وكانت حركة الزنجية تهدف إلى تغيير صورة الرجل الأسود غير القادر على الأخذ بزمام أموره بنفسه وبناء مستقبله. ومواجهة المشروع الاستعماري الفرنسي الذي يرفض مشروع الاستيعاب الثقافي ويقلل من قيمة أفريقيا وثقافتها. ولاحقا، شارك سيزير مع زوجته سوزان روسي في تأسيس مجلة Tropiques، وهي مجلة مخصصة للشعر الأميركي الأسود. وكانت كلتا المجلتين معقلا لأفكار الزنوجة.
القدرة على التحول
مثل شعره ومقالاته الجدلية، تأتي مسرحيات سيزير لتستكشف مفارقة الهوية السوداء في ظل الحكم الاستعماري الفرنسي،وتعبر عن الحاجة إلى الثورة والتغيير في عالم معيب ومتحيز. وقد كان انتقاله من شاعر إلى كاتب مسرحي مدفوعا “برغبة صادقة في تضييق الفجوة في التواصل بين الكاتب الطليعي والجمهور” ليصل إلى شعب المارتينيك برؤيته للحضارة الكاريبية من خلال شكل أدبي يسهل الوصول إليه أكثر من الشعر. وهكذا، تستمر مسرحيات سيزير في تقديمها ودراستها باعتبارها نشاطا سياسيا ومسرحا شعبيا.
ديوان سيزير أو قصيدته “كراس العودة إلى أرض الوطن” ترجمها أخيرا المترجم التونسي جمال جلاصي وصدرت عن مؤسسة أروقة، ومع تقديم مؤسسة ومنظر السيريالية الشاعر أندريه بروتون، يقول بروتون عند لقائه بسيزير “أجد ردة فعلي الأولى عنصرية، حين اكتشفت أن سواده نقي، خاصة إذا رأيته في النظرة الأولى مقنعا بابتسامة. عرفت ذلك منه، أراه وكل شيء سيثبت لي لاحقا، إنه الحوض الإنساني في أقصى درجات غليانه، حيث المعارف، في أعلى مستوياتها تختلط مع المواهب السحرية”.
ويتابع “بالنسبة إلي بدا ظهوره، لا أريد القول يومها فحسب، تحت مظهر خاص به، في قيمة علامة العصر. هكذا، متحديا بمفرده مرحلة اعتقدنا أننا نحيا خلالها استقالة كلية للفكر، حيث يبدو أن لا شيء يخلق إلا على صورة تكمل انتصار الموت، حيث الفن ذاته يهدد بالانزواء في المعطيات القديمة، النفس الأول الجديد، الذي يعيد الحياة، القادر على منح كل الثقة هو عطاء إنسان أسود. وهو أسود يتقن اللغة الفرنسية كما لا يوجد أي أبيض يتقنها. وهو أسود يقودنا اليوم نحو المجهول، واضعا أولا بأول، كما في اللعب، اللمسات التي تجعلنا نتقدم فوق الشرر. وهو الأسود ليس فقط أسود بل كل الإنسان، الذي يعبر عن كل التساؤلات، كل المخاوف، والآمال والنشوة والذي سيفرض ذاته علي بقوة كنموذج للشرف”.
ويضيف “لقاءاتنا، في حانة يجعل منها الضوء الخارجي قطعة من الكريستال، مساء، بعد نهاية دروسه التي يقدمها في المعهد والتي كان محورها حينها أعمال رامبو، والاجتماعات في باحة منزله والذي يكمل سحرها حضور سوزان سيزير، جميلة مثل شعلة شراب البنش، وأكثر من ذلك رحلة في عمق الجزيرة: دائما، أرانا من جديد منحنين حد الهلاك على هاوية آبسالون، مثلما على التجسد ذاته للمصهر الذي تشكل فيه الصور الشعرية حين تكون بالقوة التي تزعزع العالم، دون أية علامة وسط دوامة النباتات المجنونة غير زهرة الخيزران الكبيرة الملغزة وهي قلب ثلاثي يخفق في أعلى رمح. هناك وتحت بشائر هذه الزهرة، بدت لي المهمة الموكولة للإنسان، بأن يقطع بحدة مع طرق التفكير وبأن يحس أنها جعلته غير قادر على تحمل وجوده بشكله غير القابل للتقادم”.
ويواصل “هناك تأكدت نهائيا من فكرة أن لا شيء سيكون إذا لم يقع كشف بعض المحرمات، إذا لم نتمكن من نزع السموم القاتلة من دم الإنسان التي يغذيها الإيمان ـ والذي يزداد كسلا ـ بالماورائيات، وفكر الأجساد الملتصق بالأمم والأعراق والنذالة القصوى التي تدعى سلطة المال. لا شيء يمكن أن يصنع إلا حين آل الأمر للشعراء منذ قرابة قرن بأن يزعزعوا ذلك الهيكل الذي يخنقنا ومن المهم أن نلاحظ أن الأجيال القادمة لن تكرس إلا أولئك الذين مضوا بعيدا في هذه المهمة. ذلك المساء، أمام الفتحة الباذخة لكل حيوية الخضرة، أحسست قيمة أن أكون متحدا شعوريا مع أحدهم، أن أعرف أنه من بين الجميع كائن ذو إرادة صلبة، وأني في الجوهر لا أفرق بين إرادته وإرادتي”.
يقول بروتون “أعرف بحجج دامغة أنه كائن المنجزات الكاملة، قبل أيام قليلة أهداني ‘كراس العودة إلى أرض الوطن‘، في نشرة محدودة إضافة إلى مجلة من باريس حيث مرت القصيدة دون أن يلحظها أحد سنة 1939، وهذه القصيدة لم تكن سوى أكبر صرح غنائي في عصرنا. جلب لي أثرى اليقين الذي لا يمكن انتظاره من ذاتك فحسب: لقد قامر كاتبها على كل ما حسبته صوابا طيلة حياتي، وقد كسب الرهان دون أدنى شك. وقد كان الرهان، بقطع النظر عن العبقرية الخاصة بسيزير، إدراكنا المشترك لمعنى الحياة. وأولا نعرف خلالها تلك الحركة الغزيرة من بين الجميع، ذلك الفيض في الدفق وفي الشظايا، تلك القدرة على التحذير الدائم للعالم الشعوري كليا إلى أن يصبح رأسا على عقب وهو ما يميز الشعر الأصيل المناقض للشعر المزيف، للشعر المصطنع، من الجنس المسموم الذي يتكاثر حوله. أن تغني أو لا تغني، هذا هو السؤال، ولن يكون هناك سلام في الشعر لمن لا يغني، رغم أنه يطلب من الشاعر أكثر من الغناء. ولست في حاجة إلى القول، إن من لا يحسن الغناء، ويلجأ إلى القوافي، والمتر الثابت والتفاهات الأخرى لا يمكنه سوى إزعاج آذان ميداس. قبل كل شيء إيمي سيزير هو المغني”.
ويرى أنه “بعد تجاوز هذا الشرط الأول، الضروري وغير الكافي، يرتفع الشعر الجدير بهذا الاسم إلى مرتبة الامتناع الصريح، الرفض الذي يفرضه وهذا الجانب المنكر في طبيعته يوجب أن يعتبر مؤسسا: ينفر من السماح بمرور كل ما شوهد من قبل، كل ما سمع، كل ما اتفق عليه، أن يستخدم ما استخدم من قبل، إذا لم يقع تحويل وظيفته القبلية”.
سيزير، في رأي بروتون، شديد الصلابة، وهذا ليس فقط لأنه شديد النزاهة بل لأنه صاحب معرفة شاسعة
من هذا المنظور يكون سيزير، في رأي بروتون، شديد الصلابة، وهذا ليس فقط لأنه شديد النزاهة بل لأنه صاحب معرفة شاسعة، فهو من أحسن وأوسع الشعراء اطلاعا. ولقطع الطريق عن كل التباس يعتبر أن كراس العودة إلى أرض الوطن، استثنائي، سواء في قصيدة “موضوع” أو في “قصيدة قضية”.ويؤكد بروتون أنه يستند ليس فقط إلى من قلدوه، بدرجات مختلفة، وأن قصيدة سيزير مثل كل القصائد العظيمة وكل فن عظيم، تستمد قيمتها الشاهقة من القدرة الكبيرة على التحول، التي تستعملها والتي تتمثل من خلال الأدوات الأكثر ابتذالا، والتي من ضمنها القبح وحتى الإذلال، في إنتاج ليس الذهب كحجر للفلسفة بل الحرية.
ويوضح أن “كراس العودة إلى أرض الوطن” وثيقة متفردة غير قابلة للاستبدال. العنوان بمفرده، وإن محونا القصيدة يهدف إلى وضعنا في قلب الصراع الأكثر حساسية بالنسبة إلى الكاتب، الصراع الذي يعتبر تجاوزه حياتيا بالنسبة إليه. فواقعيا، كتبت القصيدة في باريس بعد أن غادر المدرسة العليا وهو يستعد إلى العودة إلى المارتنيك. الوطن الأم، نعم، كيف يمكن مقاومة نداء هذه الجزيرة، كيف لا نستسلم إلى إغراء سماواتها إلى تموجات حورياتها، إلى كلماتها التي تفيض دلالا؟ لكن، فجأة ينتصر الظل: يجب أن نكون مكان سيزير لندرك إلى أي مدى كانت هذه القفزة وعرة.
خلف هذه المجزرة يوجد بؤس الشعب الاستعماري، استغلاله الوقح بواسطة حفنة من الطفيليات الذين يتحدون حتى قوانين البلاد التي ينتسبون إليها ولا يحسون بأي حرج أن يكونوا عارا عليه، يوجد خضوع هذا الشعب الذي يقف ضده أنه ظل دوما بعيدا منثورا على البحر. خلف كل هذا، توجد، على مسافة أجيال قليلة، العبودية، وهكذا ينفتح الجرح من جديد، ينفتح على كل عظمة أفريقيا الضائعة، ذكريات الأسلاف عن المعاملات الوحشية التي تلقوها، وعي حاد بإنكار مطلق للعدالة كانت شعوبا بأكملها ضحية له. شعوب بأكملها ينتمي إليها ذلك الذي سيسافر، غنيا بكل ما يمكن للبيض أن يعلموه وفي تلك اللحظة أكثر ما يكون تمزقا.
الإرادة الثابتة
يشير بروتون إلى أنه “من الطبيعي أن المطالبة تصارع، في الكراس، الكآبة، وأحيانا اليأس، حتى أن الكاتب يتعرض إلى العودة الأشد درامية إلى نفسه. هذه المطالبة هي الأشد أهمية في الوجود والأكثر معقولية، رغم أنها قانونيا من حق الأبيض فقط أن يراها تتحقق. لكننا نخطئ كثيرا، رغم أنها بدأت تصبح باحتشام موضع عناية واهتمام: “في المستعمرات القديمة، التي يجب أن تخضع إلى أنظمة جديدة والتي أصبح تطورها نحو التحرر موضوعا دوليا، على الديمقراطية أن تضع نهاية، ليس لاستغلال الشعوب الملونة فحسب، بل للعنصرية الاجتماعية والسياسية للرجل الأبيض.”
ننتظر أيضا بنفس نفاذ الصبر، خارج المستعمرات، أن نكف عن حشر حشود الرجال الملونين بعيدا في الأعمال والوظائف الثانوية. إذا خاب أمل هذا الانتظار بواسطة القوانين الدولية التي ستدخل حيز التنفيذ في نهاية الحرب الحالية، فعلينا بالضرورة أن ننحاز، مع كل التبعات التي سيجرها ذلك، إلى فكرة أن تأهيل الشعوب الملونة لن يكون سوى عمل هذه الشعوب ذاتها. لكن هذا سيعني التخفيض الشديد، المجحف لتدخل سيزير، إذا أردنا التمسك بالجانب المباشر لمطالبته. ما يجعلها في نظري ذات قيمة، إنها تتجاوز في كل لحظة الرعب يرتبط بالنسبة إلى شخص أسود، إلى مصير السود في المجتمع الحديث، ورغم أنه يتوحد مع مطالبة كل الشعراء وكل الفنانين، وكل المفكرين المحترمين، فإن رصيد العبقرية الشفهية الذي يمتلكه يجعلها تلامس كل ما في المجتمعات الحديثة من وضعيات سيئة، والوضعيات القابلة للتحسن للإنسان بشكل عام في هذا المجتمع.
ويلاحظ بروتون “هنا يسجل بحروف غليظة الأمر الذي جعلته السريالية الفصل الأول من برنامجها: الإرادة الثابتة لإطلاق رصاصة الرحمة على المدعو ‘الحس السليم‘، حيث بلغت الوقاحة حد مماثلته بلقب ‘العقل‘، الحاجة الملحة لإنهاء هذا الانقسام القاتل للفكر البشري الذي تمكن أحد أجزائه من أخذ جميع الحقوق على حساب الآخر، وغالبا لن تفلت فرصة تفجير هذا الأخير من شدة الرغبة في تهييجه”.
ويبين أنه إذا اختفى النخاسون ماديا من العالم فمن الأكيد أنهم موجودون في العقول حيث مازال “خشب زانهم” حلمنا، لم يعد النصف المدلل من طبيعتنا، إنها الشحنة المبكرة التي يستحب أن تحشر في قعر السفينة. “لأننا نمقتكم، أنتم وعقلكم، نطالب بالجنون المبكر، بالجنون المستعر، بالآدمية المتصلبة… تأقلموا أنتم معي، أنا لن أتأقلم معكم”.
ويتابع “فجأة هذه النظرة المتجلية، الزغب الأزرق على الجمر، مثلما عند وعد بخلاص غير ماكر: يعبر ذاك الذي نعتبره أنا وسيزير النبي الأكبر للأزمنة القادمة، أقول إيزيدوردوكاس، الكونت لوتريامون قصيدة لوتريامون جميلة مثل مرسوم نزع الملكية… فهو يكدس في شكل نثار غنائي وشاحب – مثلما تسقط في انحلال المساء أصابع الكمثرى الاستوائية، أبواق موت الفلسفة الساخرة التي ترفع إلى شرف عجائب عالم طبقي، الإنسان، الأقدام، الأيادي والسرة – الزاعقة بأيادي عارية ضد حاجز السماء… أول من اعتبر أن الشعر يبدأ في الإفراط، في المغالاة، في السعي المحفوف بالموانع، في التامتام الكبير الأعمى، حتى مطر النجوم الغامض. كلمات أيمي سيزير جميلة مثل الأوكسجين الوليد”.