غضب وظيفي لتطهير الجهاز الحكومي من المخدرات في مصر

إنهاء خدمة المتعاطين دون منحهم فرصة للعلاج يثير العديد من المخاوف.
السبت 2024/05/25
مطالبة بالعدول عن قرارات العزل

يؤكد الباحثون في القضايا الاجتماعية أن تطهير المؤسسات من المتعاطين ضرورة، لكن العزل الوظيفي ليس حلا ناجعا، مشيرين إلى أن العزل في بعض الحالات قد يكون مهددا للأسرة ولعائلها، وطالبوا بالتدرج في العقوبة حتى لا يتحول المدمن إلى مجرم حقيقي ومنتقم، ومنحه فرصة للإقلاع. ويرى الباحثون أن الحكومة قصرت العلاج في الترهيب ولم تبحث عن أسباب لجوء شريحة من الموظفين إلى الإدمان.

القاهرة - عكست وقفات احتجاجية نظمها موظفون في مصر ضد عزلهم بسبب تعاطي المخدرات حجم المشكلة التي تواجهها الحكومة وهي في طريقها لتطهير الجهاز الإداري للدولة من العناصر التي تتمسك بعدم العلاج من الإدمان، وما يسببه ذلك من تأثيرات ترتبط بضعف الأداء الوظيفي وغياب الانضباط، بما يقود إلى المزيد من التذمر لسوء بعض الخدمات المقدمة للمواطنين.

ونظم موظفون سابقون بعدد من الهيئات الحكومية وأسرهم مؤخرا وقفات بالقرب من مقر مجلس النواب (البرلمان) في منطقة وسط القاهرة، رفضا لقرار إنهاء خدمتهم بناء على تقارير لجان تحليل المخدرات، تنفيذا لقانون أقر منذ حوالي ثلاث سنوات، نص على أحقية الحكومة في إنهاء خدمة الموظف الذي تُثبت عليه تهمة تعاطي المخدرات، كضرورة لتحسين الأداء الوظيفي في مؤسسات الدولة.

وينظم المستبعدون من وظائفهم وقفات اعتراضا على اختبارات تمت لتحاليل تتعلق بالكشف عن المخدرات، ولجأ بعضهم للاحتجاج ضد القرار والشكوى من قرارات إنهاء خدماتهم في المصالح الرسمية، بينما تتمسك الحكومة بموقفها وتدافع عن سياستها بأن الموظف الذي يتعاطى لن يؤدي عمله على الوجه الأكمل، ويوجد قانون ينظم العلاقة ويظل هو الفيصل بينها وبين المتعاطين.

ويرى فريق يتعاطف مع الموظفين المفصولين من عملهم بسبب المخدرات، أن مشكلة الحكومة في مواجهتها لأزمة الإدمان بالجهاز الإداري قصرت العلاج في الترهيب ولم تبحث عن أسباب لجوء شريحة من العاملين إلى هذا السلوك، ومن دون إقرار بأن هناك منغصات اجتماعية واقتصادية، وربما هناك أمور من قبيل الكبت والإحباط واليأس تقف وراء التعاطي، ولا يتم منح هؤلاء فرصة للتعافي قبل الفصل.

قضية التعاطي ذات أبعاد مركبة إدارية وإنسانية ومجتمعية، وربما سياسية ويمثل التعامل معها بخشونة قلقا كبيرا

والقضية ذات أبعاد مركبة إدارية وإنسانية ومرضية ومجتمعية، وربما سياسية عندما تتعاظم ويمثل التعامل معها بخشونة قلقا كبيرا، ويحتاج علاجها قدرا من الحكمة.

وقررت الحكومة إعداد قانون خاص بفصل أيّ موظف يتعاطى المخدرات بعد حادثة مأساوية وقعت عام 2021 بين قطارين في محافظة سوهاج، جنوب مصر، بسبب غياب وعي أحد السائقين ومراقب برج السكة الحديد لتناولهما المخدرات قبل وقوع الحادث مباشرة، ما تسبّب في مصرع وإصابة العشرات من المواطنين، وقالت حينها الحكومة إنها لن تسمح لاستمرار تلك الفئة من الموظفين في جهازها الإداري.

ويؤيد فريق آخر تطبيق تشريعات تنص على عقوبات صارمة ضد متعاطي المخدرات من العاملين في المؤسسات الحكومية والخاصة الذين ترتبط طبيعة عملهم بالاحتكاك المباشر مع الجمهور، ولا بديل عن الإجراء المرتبط بالعزل الوظيفي، لأن المهادنة وعرض العلاج المجاني على المتعاطي طواعية لن يوقف انتشار الإدمان.

وحملت الوقفات التي نظمها مفصولون من وظائفهم رسائل ترتبط بأن إنهاء العمل قد يتسبب في تدمير بعض الأسر، وما يترتب على ذلك من تهديد مجتمعي، باعتبار أن نتائج الفصل من الوظيفة أكثر خطورة من الإدمان، فالمدمن شخص متمرد لا يعنيه سوى ذاته، وقد تكون العواقب كارثية، إذا قرر الانتقام ضد فصله من العمل.

عادل بركات: تطهير المؤسسات من المتعاطين ضرورة لكن العزل ليس حلا
عادل بركات: تطهير المؤسسات من المتعاطين ضرورة لكن العزل ليس حلا

ويقول أصحاب هذا الرأي إن العزل الوظيفي قد يفضي إلى استمرار المتعاطي في نفس الطريق بعد انتهاء عمله بالحكومة، أو يتحول إلى شخص يرتكب جرائم للثأر من الحكومة التي عاقبته وأسرته التي يعيلها، أو يقوم بجلب المخدرات بأموال غير مشروعة مثل السرقة، ما يتناقض مع الهدف العام من القانون. ويتفق مؤيدون لتطهير الجهاز الإداري للدولة والمؤسسات الخاصة من المخدرات وتعقب المتورطين في الإدمان، على أن علاج تلك الفئة بالترغيب والتشجيع والتحفيز يمكن ترويضها للحفاظ على الأمن المجتمعي وتحقيق الغرض من القانون، ما يتطلب التعامل برفق لتطويق ظواهر أكثر قسوة في ردة الفعل.

ويشكو مفصولون من أن الحكومة لم تترك لهم فرصة لتطهير أنفسهم من الإدمان أو تساعدهم على ذلك من خلال منحهم فترة محددة للعدول عن التعاطي ثم معاودة إجراء التحاليل للتأكد من صدق نواياهم، لكنها قررت عزلهم بعد ثبوت إيجابية الفحوصات.

وتبدو الحكومة غير مقتنعة بأن التشريعات وحدها كافية لمحاربة المخدرات التي تنتشر في المجتمع أو أي مؤسسة رسمية، بدليل ترسانة القوانين الصارمة، التي تتضمن عقوبات تصل حد السجن لمدة طويلة، والإعدام أحيانا للتاجر، ومع ذلك لم يتوقف المتعاطون.

ويشير أصحاب هذا الرأي إلى أن الحكومة محقة في تطبيق القانون، لأن المواجهة القاسية مع المتعاطين مطلوبة بعد تقديم العلاج للمدمنين مجانا وتحذيرهم من أن الاستمرار في هذا الطريق يعني انتهاء علاقة المدمن بالمؤسسة الوظيفية.

وأكد الباحث في القضايا الاجتماعية والمحاضر في التنمية البشرية عادل بركات أن تطهير المؤسسات من المتعاطين ضرورة، لكن العزل الوظيفي ليس حلا ناجعا، ولا بديل عن التدرج في تطبيق العقوبة لتحجيم روافدها الأمنية والاجتماعية، وحتى لا يتحول المدمن إلى مجرم حقيقي ومنتقم، ويجب منحه فرصة للإقلاع.

وذكر لـ”العرب” أن العزل الوظيفي عقوبة للأسرة أيضا في ظل الظروف المعيشية الصعبة التي ضربت العديد من الفئات، وبإمكان الحكومة أن تطهر الجهاز الإداري بلا إقصاء أبدي له انعكاسات مجتمعية، بينها الوصمة التي تطال المتعاطي. ولم تتحرك المؤسسة المعنية بالتوازي مع خطوة الترهيب ومواجهة أزمة التعاطي من الجذور، ويكفي أن المجتمع يُقدم له أحيانا عبر بعض الأعمال الدرامية والسينمائية موضوعات تتناول المخدرات ويتم مدح المتعاطين ووضعهم ضمن فئة الأكثر سعادة ونسيانا للهموم، وهي مشاهد تتناقض مع أهداف الحكومة في تضييق دائرة المدمنين.

وأصبح المجتمع في حاجة إلى تغيير أفكاره تجاه المواد المخدرة وعدم قصرها على شريحة الموظفين، ولن يتحقق ذلك قبل محاصرة أسباب المشكلة وتقديم نماذج حسنة يتأثر بها الناس إيجابيا، فلا يجب إظهار المدمن كمثل أعلى وتقديمه على أنه سعيد.

قرار العزل يأتي بعد ثبوت إيجابية الفحوصات
قرار العزل يأتي بعد ثبوت إيجابية الفحوصات

وقد يقود وجود موظف مدمن في أيّ مؤسسة خدمية إلى كوارث مهنية، كما حدث عند صدام قطارين مؤخرا، ولن تكون صرامة المواجهة بالعزل الوظيفي هي الحل، فهناك قناعة لدى شريحة من المصريين بأن القوانين لا يتم تفعليها أحيانا.

وثمة شريحة واسعة مقتنعة أن المخدرات وحدها قادرة على تجاوز المشكلات الأسرية ومعالجة ضغوطات العمل وزيادة القدرة الجنسية، وكلها أفكار يتم علاجها بالوعي وتقديم الدليل الذي يغيّر من نظرة الناس، وحتى الراغبين في تجربة المخدرات من باب حب الاستطلاع سقطوا من حسابات التوعية وحثهم على التراجع مبكرا.

وأمام ارتفاع منسوب اليأس لدى البعض وجدت شريحة كبيرة في الإدمان ملاذا لها، وهي معضلة جديدة تواجه الحكومة في نجاح إستراتيجيتها لتحجيم ظاهرة التعاطي بين الموظفين الشباب، ويشعر هؤلاء أن العلاقة بينهم والحكومة عقد توظيف فقط، والحديث عن اتهام المخدرات بتعطيل العمل مشكوك فيه.

ودافع اللواء فاروق المقرحي مساعد وزير الداخلية سابقا عن العزل الوظيفي، مؤكدا أن غياب الرهبة من العقاب قاد إلى وجود عاملين في بعض المؤسسات يتعاطون المخدرات ولا يخشون من القانون، وهذا ضد ما يطالب به الناس بانضباط الجهاز الإداري للدولة والترهيب أمر مطلوب، والحكومة لا تملك تعطيل مصالح المواطنين.

وأشار المقرحي لـ “العرب” إلى أن تبرير الإدمان بظروف اجتماعية واقتصادية هو محاولة للالتفاف على القانون، فهناك تشريع يقر بإنهاء الخدمة للمتعاطي وعلى الجميع الالتزام أو مواجهة عقوبة العزل، ويكفي الكثير من الحوادث التي راح ضحيتها مواطنون كثيرون بسبب غياب الوعي، وهذا كفيل أن تتعامل أجهزة الدولة بصرامة مع أيّ موظف تثبت عليه تهمة التعاطي.

ومع أن مبررات المؤيدين للحكومة منطقية إلى حد بعيد، لكن يظل التحدي الحقيقي في عدم تحول المعزولين وظيفيا إلى عناصر خطرة على المجتمع، وإذا كانت الحكومة ترغب في توصيل رسالة بأنها تستهدف ضبط مؤسساتها، فالمهم أن تقضي على الفساد بكل أشكاله قبل أن تتهم بمحاربة التعاطي لتقليص أعداد العاملين في الدولة.

16