فرص الجزائر للثبات في الساحل

توحي التطورات المتسارعة في منطقة الساحل بأن الموقف الجزائري لم يواكب التحولات الجيوسياسية المعقدة، بل إنه يدفع ثمن فواتير متراكمة، وأبرزها التعاطي مع العمق الحيوي للبلاد، ففيما كانت الرمال تتحرك جنوبا، كان الاهتمام الجزائري يتجه شمالا، ولذلك هو الآن في وضع حرج تتجاذبه رغبة التدارك من جهة، وتفادي الصدام مع لاعبين جدد في المنطقة من جهة ثانية.
ولولا أن الجغرافيا السياسية هي أحد محددات مخرجات التطورات المذكورة، فإن اللاعبين الجدد يكونون قد وضعوا أيديهم على الدور والمصالح الجزائرية التقليدية في الساحل إلى الأبد، لكن ما دامت هي البوابة الرئيسية للمنطقة تبقى صاحبة كلمة، شريطة مراجعة العديد من الأوراق، وهي أن النفوذ التقليدي لم يعد مجديا أمام منافسة شرسة وإمكانيات ضخمة.
إلى عقود مضت كانت تحركات المتنافسين حول دول الساحل تمر عبر البوابة الجزائرية، خاصة خلال ذروة نشاط المجموعات والتنظيمات الجهادية، لكن ما جرى في مالي والنيجر وليبيا.. وغيرها، يوحي بأن هؤلاء تجاوزوا الدور الجزائري، وروسيا التي أدخلت عناصر فاغنر إلى مالي عبر مدينة تمنراست الجزائرية، تريد استخلاف الممر بالبوابة الليبية.
علاقة الجزائر مع منطقة الساحل ليست مجبرة على البقاء في علبة النفوذ التقليدي، فهناك أوراق اقتصادية وتجارية واجتماعية وحتى دينية، بإمكانها إفراز واقع جديد يكرس حتمية الجغرافيا السياسية والمجال الحيوي
يبدو أن الجزائر التي انتهجت خطا دبلوماسيا تقليديا موروثا عن حقبة الحرب الباردة، أدركت متأخرة أن الشراكات والمصالح البينية لا تبني التحالفات، لاسيما أن الصدمة جاءتها من أبرز شركائها وهما روسيا وتركيا وبدرجة أقل إيران، ولذلك تجري إعادة ترتيب الأوراق الذي بدأ بتعيين سفراء جدد وإطلاق مناطق حرة مع دول الجوار. وتنتظر مدى التزام الروس بمخرجات المحادثات السرية التي جرت معهم خلال الأسابيع الأخيرة، خاصة في ما يتعلق باحترام السيادة الإقليمية واحترام مسافة عازلة تقدر بـ40 كلم عن الحدود، والعمل على دمج الفصائل الأزوادية في المشهد السياسي. لكن الموقف لا يزال غامضا في التعاطي مع التغلغل التركي، الذي أبرم صفقات تسليح وتدريب مع المؤسستين العسكريتين في مالي والنيجر.
ولا يبدو أن حديث الرئيس الجزائري عن احترام بلاده لرغبة وإرادة البلدين المجاورين في التخلي عن الدور الجزائري التقليدي، هو إذعان للأمر الواقع، بل هو تكتيك لتجاوز الذروة، بينما تستمر آليات العمل والانتقال إلى سرعات قصوى، عبر كشف الأوراق الجاري مع لاعبي الساحل، وتثبيت مشروع خط الغاز الأفريقي، بعدما شعرت أن النيجر ليس بإمكانها استغلال مقدراتها النفطية ولا تصديرها إلى الخارج.
هذا ما فهمته نيامي بدرجة أعلى من باماكو، ولذلك حافظت على “شعرة معاوية”، فرغم استدعاء السفير الجزائري للاحتجاج على ما أسمته بـ“الظروف غير الإنسانية التي يرحل فيها رعاياها من طرف الجزائر”، إلا أنها قامت بتكريم السفير نفسه عند انتهاء مهامه وأسدت له أحد أهم أوسمتها، كما استقبلت مؤخرا القائم بالأعمال في السفارة لبحث مسائل تأمين الطرق التجارية وقضايا ثنائية، الأمر الذي يكرس الحتمية الجيوسياسية والعمق الحيوي للبلدين مهما كانت شدة التوازنات المستجدة.
لاعبون في العلن وآخرون في الخفاء يتربصون بالمنطقة أو وضعوا أيديهم على مفاصل مهمة فيها، لكن للجغرافيا السياسية في الساحل رأيها، والحدود البرية التي تقارب الأربعة آلاف للجزائر مع ليبيا والنيجر ومالي، هي خاصرة رخوة في منظور البعض لكن يمكن أن تتحول إلى ورقة قوية إذا تم التعامل معها بمقاربة جديدة، فالبوابة التي تملك البر والجو يمكن أن تتحول إلى حزام لعد الأنفاس مهما كانت الخيارات التي يزعم اللاعبون الجدد توفيرها لقلب الموازين في المنطقة.
الجزائر التي قصرت لعقود في مجالها الحيوي الجنوبي.. مجبرة على مراجعة أوراقها بإيلاء الأهمية اللازمة للجنوب كما للشمال
خلال أزمة دبلوماسية جزائرية – فرنسية العام 2021، تم خلالها قطع العلاقات وحظر المجال الجوي أمام الطيران العسكري العامل في دولة مالي، ظهرت المعاناة الفرنسية في تنفيذ خطتها، وحينها ثبتت أهمية الموقع الجزائري الجوي والبري بالنسبة إلى دول الساحل، وهو وجهة لا يمكن لدول المنطقة الاستغناء عنها مهما كانت البدائل المتاحة، ولذلك فإن علاقات المنطقة محكومة بالعودة إلى الوضع الذي تمليه المصالح والمعاملة البراغماتية.
قريبا فقط ولولا الوساطة الصينية لما سمحت دولة بنين لسلطات النيجر بتصدير نفطها، بسبب وفاء الأخيرة للنفوذ الفرنسي، وهذا عامل يصب في صالح الجزائر ببنيتها التحتية النفطية والغازية، ولذلك فهي تحث الخطى من أجل تسريع وتيرة إنجاز خط الغاز الأفريقي، ومثل هذا المشروع هو الذي يثبت التكامل الحيوي ويحفظ للجزائر عمقها الإستراتيجي.
الجزائر التي قصرت لعقود في مجالها الحيوي الجنوبي، بسبب تركيزها على وجهتها الشمالية، لاعتقاد خاطئ هو أن رمال الساحل ستبقى ثابتة ولا تتحرك إلا بإرادتها، مجبرة على مراجعة أوراقها بإيلاء الأهمية اللازمة للجنوب كما للشمال، وتجديد أوراق التكامل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فالطريق من تندوف إلى الزويرات الموريتانية يضعها أمام سواحل الأطلسي، وخط غاز أفريقي وبنية تحتية نفطية يضعان النيجر في راحة ومأمن من استغلال ثرواتها من الطاقة وتصديرها، فضلا عن الاستفادة من عوائد الخط، وطريق بري أفريقي يمكنه تنشيط التنمية والحياة الاجتماعية في المنطقة، وفوق ذلك فإن الإنفاق على المجال الحيوي لا بد أن يرتفع، ما دام هناك من هو مستعد لبذل المليارات من الدولارات.
علاقة الجزائر مع منطقة الساحل ليست مجبرة على البقاء في علبة النفوذ التقليدي، فهناك أوراق اقتصادية وتجارية واجتماعية وحتى دينية، بإمكانها إفراز واقع جديد يكرس حتمية الجغرافيا السياسية والمجال الحيوي، مهما كانت لعبة التجاذبات والتوازنات الإقليمية.