بابل صوت العراق الذي ما زال صادحا

ما تزال مدينة بابل في العراق تنبض بالحياة، وتقدم للحضارة العالمية كثيرا من الدفق المعرفي والفني. وما تزال محط اهتمام أهل الإبداع والفكر الذي قدم بعضهم نماذج من إبداعاتهم خلال مشاركتهم في الدورة الحادية عشرة لمهرجان بابل للثقافات والفنون العالمية الذي جسد بوضوح عمق هذه الرؤية وحقيقتها، جامعا حوله أصواتا من العراق والعالم.
يشكل تاريخ مدينة بابل حاضنا فكريا حضاريا لكل العراقيين، ويجتهد جمع من المثقفين لاستثمار ذلك من أجل بناء علاقات ثقافية عالمية تجمع العراق بالعالم، عبر مهرجانات حاضنة لكل الثقافات ومنها مهرجان بابل للثقافات العالمية والفنون.
ويؤكد الشاعر علي الشلاه رئيس مهرجان بابل للثقافات العالمية والفنون على مفهوم الانتماء لمعنى كلمة بابل كمرحلة حضارية في التاريخ البشري كله بقوله “بابل هي المدينة الوحيدة في العالم التي ذكرت في الكتب المقدسة الثلاث، وهي من أقدم مدن العالم، فيها عرفت الكتابة لأول مرة ومنها خرج النور المعرفي لكل بقاع العالم قديما وحديثا، في بابل يتحدث الوطن العراقي وتظهر فيها عوامل حضارته، بابل هي أمّ المدن في العالم وهي من حرك التاريخ القديم خاصة في منطقة الشرق، بابل أولى المدن وسيدة الحضارات”.
وعن نشأة فكرة المهرجان يقول “كان هاجس ضرورة وجود مهرجان ثقافي كبير يحمل مسؤولية تعزيز المشهد الحضاري للعراق عبر تاريخه الطويل للعالم محل اهتمام الكثير من المثقفين العراقيين. وقُدّمت في ذلك أفكار عديدة، وحول هذا المسار تشكلت إرادة مثقفين في العراق لإيجاد مهرجان ثقافي عراقي يظهر للعالم حقيقة العراق الحضارية وكان ذلك عام 2010 فأسسنا مهرجان بابل واخترنا أن تكون مدينة بابل الأثرية مقرا له، وأن نعمل من خلاله على تطوير الحضور الفني العراقي عربيا وعالميا وتطوير الحضور العالمي عراقيا وتعزيز العلاقات الثقافية العربية – العربية”.
وعن تزامن إقامة أعمال الدورة الحادية عشرة مع الحرب على قطاع غزة يقول الشلاه “أحداث غزة حدث أخلاقي قبل كل شيء، وما يحدث فيها شيء لا يمكن أن يتحمله ضمير إنساني، ولا يمكن لمبدع حقيقي ألا يتعاطف مع أهل غزة، وهي حدث جلل يختبر الإنسانية، ونحن في مهرجان بابل صممنا على ضرورة أن تكون أحداث غزة وقضية فلسطين كلها عنوانا لكل برنامج الدورة، وكان الهدف الاحتفال بالثقافة الفلسطينية كلها. فدعونا العديد من أهل الثقافة من فلسطين وكانت دورة خاصة كونها تحتفي بالثقافة الفلسطينية. فالمكون الثقافي الفلسطيني محل احترام عالمي وقدم كثيرا من الحضور القوي على مر التاريخ”.
ويتابع “في فلسطين قامات إبداعية كبرى منهم محمود درويش الشاعر العالمي وفي الرواية غسان كنفاني وإميل حبيبي وتحضر من النساء فدوى طوقان قديما ونداء يونس حديثا. كما دعونا عددا من الباحثين في السينما الفلسطينية، وعددا من التشكيليين الفلسطينيين الذين يعيشون داخل فلسطين أو في البلدان العربية. عدد زوار المهرجان تجاوز الثمانين شخصا نصفهم متعلق بالشأن الفلسطيني”.
بابل وبناء العراق
عن أهمية مهرجان بابل وضرورة وجوده في مرحلة البناء في العراق في مرحلة ما بعد الحرب يوضح علي الشلاه “عشت سنوات طويلة سابقة في سويسرا، أسست فيها مهرجان المتنبي الذي استمر لمدة 13 دورة، كنا نجمع في هذا المنبر شعراء من العالم العربي ومن كل العالم ليقدموا نتاجا إبداعيا متقدما، ووظفنا كل الصداقات التي جمعتنا فيه لمصلحة مهرجان بابل، ونجحنا في دفع الكثير من هؤلاء لزيارة العراق، وكان التجاوب جيدا في وقت كانت فيه زيارة العراق مغامرة كبرى”.
ويضيف “تجربة مهرجان بابل متضافرة مع كل التجارب المماثلة العربية. وأرى أنها رسالة الثقافة العربية لكل المشهد الثقافي العربي، فالثقافة جسر التواصل العربي – العربي الحقيقي، فالسياسة تفرّق والواقع مجزأ ومن هنا تأتي الثقافة لكي تجمع هؤلاء على قلب واحد ومصير واحد. المهرجان حلمي وجسري نحو حياة قادمة، وإشارة إلى المستقبل بأن ثمة نشاطا حضاريا قادما سيكون له شأن. نحن في العراق لسنا أقل من غيرنا في الثقافة والغنى الحضاري ونمتلك مخزونا كبيرا في المعرفة والتاريخ يثبت ذلك. من خلال مهرجان بابل نطمح إلى تحقيق هذا الحلم. مهرجان بابل هو جسر ثقافات الشرق ونحن من خلاله نقول أنت ونحن كلنا بابليون”.
وعن كيفية تحقيق ذلك يقول “دعونا أسماء ثقافية كبرى على مستوى العالم ليكون المهرجان فعلا لا قولا جسر التواصل مع العالم، وتحقق ذلك في محورين، الأول بسبب الضيوف والثاني عبر الأدباء والمثقفين الذين نرشحهم لفعاليات عالمية كبرى. نحن في مهرجان بابل حريصون على تقديم ثقافة رصينة صادقة تقدم حضارة العراق بما يليق بوجهه الحضاري الكبير وبإرثه المعرفي الهائل، قدمنا في الدورة الحالية نبض العراق الحقيقي فربطنا الماضي بالحاضر وربطنا الثقافة الكلاسيكية بالمعاصرة والشباب من خلال الدعم والمشاركة التي كانت بين جهات حكومية وكذلك بعض الجهات الخاصة”.
ربع قرن على الرحيل
احتفت الدورة الحادية عشرة بتكريم شاعرين كبيرين بمناسبة مرور ربع قرن على رحيلهما هما العراقي عبدالوهاب البياتي والسوري نزار قباني، عن ذلك يقول رئيس المهرجان “من مطامح المهرجان أن يسلط الضوء على القامات الإبداعية الكبرى في تاريخ الوطن العربي. وبمناسبة مرور ربع قرن على رحيل عبدالوهاب البياتي وكذلك نزار قباني قمنا بتكريمهما معا في ندوتين منفصلتين. رغم تباين منظورهما للشعر واختلاف نسقهما في ذلك الذي وصل حد الخلاف الأدبي بينهما، آثرنا أن نكرمهما معا لأنهما قامتان شعريتان عربيتان كبيرتان. البياتي عاش فترة طويلة من حياته في دمشق الحبيبة ومات ودفن فيها في مقبرة الغرباء إلى جانب الجواهري ومصطفى جمال الدين، وكان من واجبنا أن نعيده إلى بيئته وعراقه بعد ربع قرن على رحيله. قمنا بالعمل على شقين. كلفنا عددا من الباحثين لتقديم دراسة بحثية عن كامل نتاجه الإبداعي، وطبعت الدراسة في كتاب، ثم كانت الندوة التي شارك فيها عدد من النقاد الذين قدموا مداخلات في حياته منذ الولادة حتى مغادرة العراق ووفاته بدمشق”.
ويكمل “كما قدمنا ندوة خاصة عن الشاعر نزار قباني الذي يعتبر صاحب صوت شعري مميز في تاريخ الشعر العربي الحديث وهو شاعر قدم شعرا لا يشبه أيّ شعر آخر وخرج من عباءة الشعر القديم وقدم حلة جديدة في تاريخ القصيدة العربية، كما عرضنا عنه فيلم “قمر دمشق” وهو وثائقي قصير من سوريا”.
فعاليات متنوعة

وعلى عادة دورات مهرجان بابل، أقيمت ندوة خاصة عن آثار بابل ضمن فعاليات الدورة الثانية، كان عنوان الندوة “بابل في بابل” وشارك بها أربعة من أهم علماء الآثار البابلية في العالم، من جامعة السوربون ومتحفي اللوفر ولندن، حيث حضرها البروفسور ايرفينغ ليونارد فينكل وهو مختص في علم الأشوريات ويعمل مساعد الأمين العام على مخطوطات لغات وثقافات بلاد ما بين النهرين القديمة في قسم الشرق الأوسط في المتحف البريطاني وخبير في النقوش المسمارية على ألواح طينية من بلاد ما بين النهرين القديمة. والبرفسور ميريام مارسيتو وهي باحثة موسيقية وعالمة آثار مختصة بموسيقى الشرق الأدنى ومؤرخة في جامعة السوربون وجامعة لندن، والبروفسور فرانسوا ديسيه وهو آثاري فرنسي متخصص في شؤون الشرق في العصر الحجري الحديث إلى العصر البرونزي وخبير في اللغة العيلامية الخطية والبروفسور ريتشارد جي. دمبريل وهو عالم آثار فرنسي – بريطاني ومؤلف موسيقي خبير في تفسير النصوص المسمارية لنظرية الموسيقى المكتوبة باللغات السومرية والبابلية.
وتنوعت الفعاليات الثقافية في أروقة المهرجان خلال أيامه، فقدمت أمسيات شعرية بدأت في اليوم الثاني له مع الشاعر العراقي المقيم في لندن عدنان الصائغ وعدد من الشعراء العرب والعالميين كما شارك فنانون وإعلاميون وتشكيليون. وضمن فعاليات معرض الكتاب نظمت مبادرة القراءة، وأقيمت العشرات من الفعاليات في الموسيقى والغناء والنحت والمسرح، كما قدمت مداخلات نقدية عن الأدب ضمت أبحاثا معمقة في أدب غسان كنفاني وإميل حبيبي وشعر محمود درويش.
وفي الفن التشكيلي قدمت ندوة خاصة عن الفن التشكيلي القطري ومعرض الفنانين محمد العتيق وعبدالرحمن المطاوعة ولينا العالي تم التطرق فيها إلى دور التشكيل العراقي في التأسيس للفن التشكيلي في قطر، كما قدم التشكيليون القطريون أفكارا عن الفن التشكيلي القطري المعاصر ومعرضا حمل عنوان “غزة حجر السلام”.
كما حفل المهرجان بمشاركة عشرات اللوحات من فناني بابل، كما قدم الفنان العراقي المقيم في سويسرا فائق العبودي عددا من إبداعاته وقدم الفنان أمير الشلاه معرض شخصيات المهرجان بعنوان محمود درويش ونزار قباني وعبدالوهاب البياتي ومعرض المأساة الفلسطينية للفنان أوراس العلواني.
ويسمي مهرجان بابل المدينة الثقافية العالمية كونه يمثل مدينة موغلة في التاريخ البشري، وقد سمى المهرجان لجنة خاصة رصدت النشاط الثقافي للكثير من المدن العالمية، وبموجب أعمالها وصلت ثماني مدن عالمية إلى مرحلة اختيار ثمان منها لتحديد المدينة الفائزة. وفي يوم ختام المهرجان وأمام جمع قدر بخمسة آلاف شخص، قرأ علي الشلاه رئيس المهرجان بيان اللجنة الذي جاء فيه «بعد اختيار اللجنة العليا للجائزة 8 مدن عالمية، منها اثنتان عربيتان هما الشارقة وأصيلة، فقد اختارت اللجنة بالإجماع الشارقة الإماراتية المدينة الثقافية العالمية للعام 2024 اعتمادا على عدد الفعاليات التي أقامتها ورصانتها وجديتها، وبسبب إيمان الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، حاكم الشارقة، بالثقافة والمعرفة هويةً للإنسان وحلا لمشكلاته. ولذا تعلن بابل المدينة الأم أن الشارقة هي المدينة الثقافية الأولى عالميا للعام 2024، متمنية لها دوام التألق والازدهار”.